أهمية الحوار

خالد عبد العليم متولي

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ من حكمة الله خلق عباده مختلفين 2/ الإسلام يعلمنا حسن الاستماع للآخرين 3/ أهمية الحوار بين البشر 4/ نماذج للحوار في القرآن الكريم 5/ دروس وفوائد تربوية 6/ من أسباب نجاح أي حوار 7/ حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وفطنته

اقتباس

من حكمة الله في خلقه أنه خلق عباده مختلفين في طباعهم وألوانهم ولغاتهم وعقولهم وذكائهم وأموالهم، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، فهذه العقول المختلفة والأفهام المتباينة كيف تجتمع وتلتقي، جاء في الكتاب والسنة الدعوة إلى لغة الحوار والحكمة والدعوة بالتي هي أحسن، حتى في مقام الدعوة أمرنا الله بقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. 

 

من حكمة الله في خلقه أنه خلق عباده مختلفين في طباعهم وألوانهم ولغاتهم وعقولهم وذكائهم وأموالهم: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، فهذه العقول المختلفة والأفهام المتباينة كيف تجتمع وتلتقي، جاء في الكتاب والسنة الدعوة إلى لغة الحوار والحكمة والدعوة بالتي هي أحسن، حتى في مقام الدعوة أمرنا الله بقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

 

وعلّمنا الإسلام حسن الاستماع للآخرين حتى ولو كانوا على الباطل، وإقامة الحجة عليهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع، فالحق تعرفه الفطرة النقية وتقبله العقول السوية.

 

روى أحمد عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يدعو: "يا مقلب القلوب: ثبّت قلبي على دينك". قلت: يا رسول الله: ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟! فقال: "ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)".

 

ذكر القرآن الكريم الحوار في قصة خلق الإنسان، وسؤال الملائكة لرب العالمين، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فاستجابت الملائكة لأمر الله تعالى كما قال -عز من قائل-: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).

 

وسأل الله تعالى إبليس عن سبب عصيانه فقال سبحانه: (يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). لا يأبى الحق إلا شيطان، ولا يجادل بالباطل إلا ذو قلب مريض وصاحب هوى.

 

ونحن مع صورة رائعة من صور الدعوة تقوم على الحوار والمناظرة وإقامة الحجة بالحكمة والموعظة الحسنة، إننا أمام حوار إبراهيم -عليه السلام- مع قومه، وكيف حرّك فيهم العقول للنظر والتأمل للخروج بنتيجة يصدقها العقل السليم وتقبلها الفطرة السوية: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل إبراهيم لا يعرف ربه حتى يبحث عنه؟! حاشا لله وكلا، والدليل أنه يدعو إليه ويتبرأ من قومه ومن عبادتهم للأصنام والنجوم والكواكب، إذًا فلماذا هذا البحث والتنقيب وطرح الأسئلة؟! إنها إقامة الحجة على قومه الذين عميت قلوبهم وانطفأت فيها أنوار بصائرهم، فأراد أن يزيل الظلمة والغشاوة عن هذه القلوب العمياء، فالمقام هنا ليس مقام بحث ونظر، وإنما مقام مناظرة وإقامة حجة.

 

ولنا في هذه الآيات دروس وفوائد منها:

 

أولاً: يقين الداعي بالحق هو الذي يحركه للدعوة إلى هذا الحق، ففاقد الشيء لا يعطيه، والقلب الميت لا يحرك قلبًا ميتًا، والأعمى لا يقود أعمى، والغريق لا ينقذ غريقًا، والأنبياء هم أرسخ الناس إيمانًا وأقواهم يقينًا وأصدقهم حجة وبيانًا.

 

ثانيًا: استعمال الجوارح في مرضاة الله طاعة، واستخدامها للنظر في ملكوت الله عبادة، وتعطيل الجوارح عن هذه المهمة جريمة ومصيبة؛ لأن الله أعطاها للإنسان من أجل مهمة، فإذا لم يستعملها لهذه الغاية فقد عطّل الحكمة منها وأهدرها وضيّع قيمتها، والمؤمن ليس هكذا، المؤمن لا يمر على الآيات مرور الغافلين النيام، وإنما له مع كل مخلوق وقفة يأخذ منها عبرة، وكلما نظر وتأمل ازداد إيمانًا بالله ومحبة له وخشية منه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). 

 

ثالثًا: قام إبراهيم -عليه السلام- بالاستدلال والنظر على منهج غاية في الدقة والنظام، وهو ما يُسمى الآن بالمنهج التجريبي، وهو عماد العلم الحديث، وتقوم عليه حضارة الإنسان اليوم، ويتلخص هذا المنهج في ثلاثة أمور:

 

النظر في الأدلة والمعطيات.

 

البحث والاستقراء.

 

النتيجة والوصول إلى حقيقة مستقرة.

 

وهذا ما فعله إبراهيم -عليه السلام- مع قومه حينما نظر أولاً إلى الكوكب الدري اللامع، فقال لقومه: (هَذَا رَبِّي)، يقول بعض المفسرين: هذا ما يُسمى بمنهج مجاراة الخصم لإقامة الحجة عليه من نفسه، بمعنى: أهذا ربي؟! ولما غاب الكوكب وتوارى أقام هنا الحجة على عدم صحة العبادة لإله يغيب ويأفل ويتوارى، ونفس الحجة أقامها على القمر والشمس، ثمّ خلص إلى النتيجة المنطقية التي يقبلها العقل وهي أن وراء هذه المخلوقات خالق وهو الله الواحد الأحد المعبود بحق، وما سواه مخلوق لا ينفع ولا يضر ولا ينبغي أن يُعبد من دون الله. 

 

رابعًا: لغة الحوار الراقي هي منهج القرآن وطريقة الأنبياء والرسل في دعوة الناس إلى الله، فليس هناك إكراه على قبول الحق، ولا تهديد ووعيد وإجبار على تغيير معتقد وفكر، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وما على الداعي إلا البلاغ المبين، والهداية بيد الله، ولم يكن الحوار منهج إبراهيم وحده بل منهج كل الأنبياء قبله وبعده، فقد تحاور نوح وهود وموسى وشعيب، وقصّ علينا القرآن محاوراتهم مع أقوامهم.

 

وجاء في القرآن الكريم حوار جرى بين رجلين أنعم الله تعالى على أحدهما بجنتين، آية في الجمال وتنوع الثمار، فسوّلت له نفسه فاغتر بما عنده، وأنكر الإيمان والدار الآخرة، فكان صاحبه المؤمن يحاوره بأدب، وينصحه بلطف، قال -سبحانه وتعالى-: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)، وفي نهاية القصة ندم الرجل على ما اقترف، قال تعالى مخبرًا عنه: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً)، ونتعلم من هذه القصة أدب الحوار واللين مع الآخرين، حتى لو كان المدعو فرعونًا، أما قال الله لموسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).

 

ما أحوجنا إلى الحوار في حياتنا بدل لغة التهديد والوعيد، ما أحوجنا إلى الكلمة الطيبة والنبرة الهادئة، علينا أن نعلمه أبناءنا وبناتنا، ونمارسه بآدابه وأخلاقه بين الأزواج والزوجات، وبين الآباء والأبناء، وبين المعلمين والطلاب، تأملوا هذا الحوار الذي ورد في السنة، روى ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلبن وعن يمينه ابن عباس -وكان صغير السن- وعن يساره خالد بن الوليد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "أتأذن لي أن أسقى خالدًا؟!". قال ابن عباس: ما أحب أن أوثر بسؤر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نفسي أحدًا. فأخذ ابن عباس فشرب، وشرب خالد. فما أروعه من حوار فيه احترام لمشاعر الصغير، واستماع لرأيه.

 

ومن الناس من يفهم الحوار على أنه إملاء الرأي وفرضه بالقوة، ولا يريد أن يسمع إلا صوت نفسه، وقد ذكر القرآن مثالاً لنوعية الحوار المثمر في مقابل فرض الرأي:

 

فرعون ما تحاور مع أحد من قومه، بل قال لهم: (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ)، فكانت النتيجة أن هلك هو وجنوده، أما بلقيس فإنها تشاورت مع قومها وقالت: (مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)، فنجاها الله وقومها من الهلاك وأسلمت بعد مع سليمان لله رب العالمين.

 

من أسباب نجاح أي حوار: الابتعاد عن الجدال بالباطل؛ لأنه يستخدم لقلب الحقيقة من غير دليل ولا حجة ولا برهان، قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِير). فالحوار الهادف ينجح بالحكمة وسبل الإقناع.

 

والحوار بالتي هي أحسن يستلزم احترام الآخر، والصبر عليه، وعدم مقاطعته أثناء حديثه أو تسفيه رأيه، كما يستلزم حسن الظن به والحرص على عدم تحويل الحوار إلى جدل وخصام، روى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".

 

وهذه صورة من صور تأييد الله للصحابة في ميدان الدعوة إلى الله بالحجة الساطعة التي بهرت من استمعوا إليها، حتى وصفوهم بالعقل والحكمة؛ روى أبو نعيم في الحلية عن حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فجئته بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنزلني في منزل فأقمت عنده ليالي، ثم بعث إليَّ وقد جمع بطارقته فقال: إني سأكلمك بكلام فأحب أن تفهمه مني، فقلت: تكلم، فقال: أخبرني عن صاحبك، أليس نبيًّا؟! فقلت: بلى وهو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حين أخرجوه من بلده؟! فقلت: عيسى ابن مريم، أليس نبيًّا؟! قال: أشهد أنه رسول الله، قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه أن لا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه في سماء الدنيا؟! قال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم، هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأبعث معك ببدرقة -أي جنود وحرس- يبدرقونك -أي يؤمّنونك- إلى مأمنك، قال فأهدى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث جوارٍ، منهن أم إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وواحدة وهبها رسول الله لأبي جهم بن حذيفة العدوي -رضي الله عنه-، وواحدة لحسان بن ثابت -رضي الله عنه-، وأرسل إليه بثياب مع طُرَف -الطرفة ما يستطرف أي يستلمح والجمع طرف- من طرفهم.

 

روى أحمد بسند جيد عن أبي أمامة: أن شابًا قال: يا نبي الله: ائذن لي في الزنا؟! فصاح الناس به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قربوه، اُدْن"، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتحبه لأمك؟!"، فقال: لا، جعلني الله فداك! قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟!"، قال: لا، جعلني الله فداك! قال: "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. أتحبه لأختك؟!"، وزاد ابن عوف: حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد: لا، جعلني الله فداك! وهو -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كذلك الناس لا يحبونه"، وقالا جميعًا في حديثهما -أعني ابن عوف والراوي الآخر-: فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره وقال: "اللهم طهّر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه"، فلم يكن شيء أبغض إليه منه، يعني الزنا.

 

هذه لغة حوار هادئ مع شاب غلبت عليه فورة الشهوة، وجاء يطلب الرخصة في كبيرة من الكبائر، فكيف كان العلاج؟! هكذا يعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- لغة الفكر والحوار لتنبع القناعة بالحق من قلب الإنسان كثمرة لإعمال عقله وفكره فيما يُقدم عليه من عمل.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

 

يصف الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). لقد كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- مواقف كثيرة مع المشركين وأهل الكتاب، يحاورهم فيها بالتي هي أحسن، ويقيم عليهم الحجة من أنفسهم، كما كان له أيضًا مواقف مع أصحابه يعلمهم فيها التأمل والفكر فيما يرونه من أشياء وما يمر بهم من أحداث؛ منها:

 

ما رواه مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟!"، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: "أتحبون أنه لكم؟!"، قالوا: والله! لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه، لأنه أسك. فكيف وهو ميت؟! فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".

 

هكذا يكون المعلم والمربي عنده من الفطنة والذكاء ما ينتهز به كل فرصة ليغرس قيمة ويبني خلقًا، ويعلم خيرًا ليزكي النفوس ويطهر القلوب ويصنع أمة ربانية طاهرة تكون إمامًا لغيرها من الأمم.

 

ما أحوجنا أن يسمع بعضنا بعضًا، فاحترام الإنسان الذي كرّمه الرحمن يبدأ باحترام عقله الذي ميّزه به على سائر خلقه، وأسجد له الملائكة تكريمًا، وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلاً.

 

 

 

المرفقات

الحوار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات