أنواع الغضب وأحكامه

عبدالله بن صالح القصير

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له.

 

 

وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، ومُصطفاه وخليله، وخِيرته من خَلْقه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن لزِمَ سُنته، واتَّبع طريقته، واهتدى بهداه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 

 

أمَّا بعدُ:

 

فيأيُّها الناس، اتَّقوا الله، واستقيموا على دينه وهُداه، ولا تكونوا ممَّن عصَى الله، واتَّخذ إلِهَه هواه، فاستحوذ الله عليه الشيطان فأنساه ذِكْر الله فأرداه، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم تُوفَّى كلُّ نفْسٍ ما كسبتْ وهم لا يُظلمون.

 

 

أيها المسلمون:

 

الخير كلُّه بحذافيره مجموع في طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسِّي به، والعمل بنصيحته، وقَبول وصيَّته، ففي ذلك هُدى العبد وفلاحه، وسعادته وطِيب حياته في دنياه وآخرته، والشرُّ كلُّه في معصية النبي - صلى الله عليه وسلم - والإعراض عن سُنَّته، ومُخالفة هَدْيه ومشاقته، فذلك مُوجِب الضلال والشقاء والخسران العظيم؛ ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].

 

 

معشر المسلمين:

 

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله، أوصني، فقال: ((لا تغضبْ))، فردَّد مرارًا، فقال: ((لا تغضب))".

 

 

فهذه وصيَّة نبويَّة جامعة لخَيرَي الدنيا والآخرة، أوصى بها - صلى الله عليه وسلم - مَن طلَبَ نصيحته، ورغِبَ وصيَّته؛ فأوصاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصيَّة كُليَّة اشتملتْ على أمرين:

 

أحدهما: أنْ يمنع المرءُ نفسَه من الغضب جهده؛ وذلك بمجانبة أسبابه، والتمرُّن على حُسن الخُلق مع سائر الخَلْق، والصبر طلبًا للحقِّ، وتَوطِين النفْس على تحمُّل ما قد ينالُها من أذى الخلق القولِي والفعلي، بحيث يتلقَّى المرءُ ما يَرِد عليه من ذلك بواسع الحِلم، وقوَّة الصبر؛ إيمانًا بجزيل المثوبة، وطمعًا في حُسن العاقبة، ودَفعًا بالتي هي أحسن؛ ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].

 

 

فإنْ غلبَه الغضبُ فتمكَّن منه ولم يستطعْ دَفعْه، فعليه بالأمر الثاني: وهو ألا يُنْفِذَ المرءُ مُقتضى غضبه، بل يمنع نفسَه من الأقوال والأفعال التي يقتضيها الغضب؛ فإنَّه إن ظفِرَ بذلك، فكأنَّه لم يغضبْ، وبذلك يكون العبد كاملَ القوة العقليَّة والقوة القلبيَّة، فيكون شجاعًا شديدًا على نحوٍ يحبُّه الله ورسوله؛ كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس الشديد بالصُّرَعة - يعني: الذي يصرع الرجالَ - إنَّما الشديد الذي يملكُ نفسَه عند الغضب)).

 

 

وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأشج عبدالقيس: ((إنَّ فيك خَصلتين يحبُّهما الله؛ الحِلم، والأناة)).

 

 

فإنَّ كمال قوَّة العبد في امتناعه أنْ تُؤثِّر فيه قوَّة الغضب وقوَّة الشهوة الآثارَ السيئة الضارة في العاجل والآجل، بل يصرف هاتين القوَّتين في تناول ما ينفعه في الدنيا والآخرة، ودفْعِ ما يضرُّه فيهما، فخير الناس مَن كانتْ شهوتُه وهواه في طاعة الله، على نحو ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ورسوله ومُصطفاه، وكان غضبُه في نُصرة الحقِّ، ودَحْر الباطل على نحو ما كان عليه الصالحون الأوائل، وشرُّ الناس مَن كان صريعَ شهوته وغضبه، فكان من أولياء الشيطان وحِزْبه.

 

أيها المسلمون، فالغضب غضبان:

 

  • غضب محمود مشروع، وهو ما وقَعَ في مكانه، وهو ما كان غضبًا للدين، وغَيرةً على انتهاك محارم الله، وكان التصرُّف بعده على وَفْق ما يقتضيه العقل الرجيح، وجاء به الدِّين الصحيح، فينبعث حيث تجبُ الحميَّة، وينطفئ حين يَحْسُن الحِلم، وإذا انبعثَ كان على حدِّ الاعتدال، ووقَع التصرُّف المبني عليه على وَفْق الشرع في سائر الأحوال، فيتحقق به جلبُ المصالح وتكميلها، ودَرءُ المفاسد وتعطيلها أو تقليلها.

 

 

  • وغضب مذموم، وهو ما كان وَفْق هوى الإنسان، وبتزيين من الشيطان، وهو ما كان باعِثُه الكبر، وثمرته العدوان على البشَر، وذلك من أفعال أهل الجاهليَّة، وأخلاق أُمَّة اليهود الغضبية؛ ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الفتح: 26].

 

 

فهذا الغضب مفتاح الشر، وجالب الوزْر، ينبتُ في القلوب الحِقْد والحسد والضغينة، ويُفسد على صاحبه دنياه ودينه، ويُورده الضلالة بعد الهدى، ويُبدله من العافية البلاء، فكم نتَجَ عنه من فاحشِ الكلام، وكم أَوبَقَ صاحبه في الآثام، وكم أحدَثَ من جفوةٍ بين متحابين، وكم فرَّق بين زوجين، وكم نشأ عنه من الخصومات، وكم أحدَثَ من عداوات، وفرَّق من مجتمعات، وأشْقَى أهْله في الحياة، ورُبَّما حَرَمهم فسيحَ الجنات بعد الممات.

 

 

أيها المسلمون:

 

الغضب في مَحلِّه صفة كريمة، من صفات الأفعال الدالَّة على الكمال؛ ولذا فهو معدودٌ من صفات الله الفعليَّة الكاملة؛ فإنَّه - سبحانه - يغضب حينما يحدثُ مِن عباده ما يَقتضي غضبه، فيغضب على مَن نقَضَ عهْدَه، وعلى مَن بدَّل دينَه، وعلى مَن ترَكَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا مَن تجرَّأ على الحُرمات، أو استخفَّ بفرائض الطاعات.

 

 

وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله يَغار، وغَيرة الله أنْ يأتي العبدُ ما حرَّم الله عليه؛ مِن أجل ذلك حرَّم الفواحش؛ ما ظهرَ منها، وما بطن)).

 

 

وكان - صلى الله عليه وسلم - يَغار ويغضب لله لا لنفسه عندما يرى حُرمات الله تُنتَهَك، لكنَّه - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما تتحقَّق به المصلحة الكاملة أو الراجحة، فيُعلم الجاهل، ويَزجر المتساهِل، ويُعاقب مَن يستحق العقوبة الشرعيَّة؛ مِن حدٍّ أو تعزير، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتلوَّن وجْهُه عند الغضب، فيحمر حتى يكون كالصرف - أي: الصبغ الأحمر - وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا غضب لا يقوم لغضبه أحدٌ؛ فقد ثبتَ في الصحيح أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى سترًا في بيت عائشة فيه تصاوير، فتلوَّن وجْهُه - صلى الله عليه وسلم - وهَتَكَه وقال: ((مِن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يصوِّرون هذه الصور))، والنصوص في الباب كثيرة وشهيرة.

 

 

وهكذا - يا عباد الله - فالمؤمنون يغضَبون لله عندما يَرون تقصيرًا في فريضة، أو جُرأة على مُنكر، لكنَّهم لا يتصرَّفون إلاَّ بما يحقِّق المصلحة كاملة أو راجحة على وَفْق ما جاء به الشرع المطهَّر.

 

 

وما الدعوة إلى الله، والنصيحة لعباد الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة التعزيرات والحدود، والجهاد في سبيل الله، والبراءة من أعداء الله، إلاَّ ثمرات مباركة لهذا الغضب المحمود، وهو مِن أعظم ما يدَّخر في الموازين، وتُنال به الدرجات العالية من الجنة عند ربِّ العالمين.

 

 

أيها المؤمنون:

 

أمَّا الغضب في غير مَحله، بل والتصرُّف بعد الغضب بما يخالف الشرع، فإنَّه من الخصال المذمومة، ومِن سِمات أهْل الجَهْل والحُمْق والخرق، وهو من أخطر الذنوب، ومن أسباب موتِ القلوب، وفوات المطلوب، وتشوُّه الصورة، ونقْص الخُلق، وموجبات الندم والعيب من سائر عقلاء الأُمم؛ لِما ينتج عنه من المشكلات العائليَّة، والفِتن الاجتماعيَّة، والأمراض المستعصية المستديمة، والإصابة بالصَّرَع، وموجبات فساد الطبع.

 

 

فاتَّقوا هذا الغضب واحذروه، وإذا ابتليتُم به فداووه وعالجوه؛ فقد جاء الشرعُ بما يقضي على الغضب، ويُنجي من العَطَب.

 

ومن ذلك الاستعاذة بالله - تعالى - من الشيطان الرجيم، وتذكُّر ما توعَّد الله به أهْلَ البَغي والعُدوان.

 

وأرشدَ - صلى الله عليه وسلم - مَن غضِبَ وهو قائم أنْ يَجلسَ، فإذا ذهَبَ عنه، وإلاَّ فليضطجع.

 

وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الغضب من الشيطان، وإنَّ الشيطان خُلِق من النار، وإنَّما تُطْفَأ النار بالماء؛ فإذا غضِبَ أحدُكم فليتوضَّأ))

 

ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لرجلٍ: ((لا تغضبْ ولك الجنةُ)).

 

وقد أخبرَ الله عن أهْل الإيمان مُثنيًا عليهم في القرآن، فقال في صفة المؤمنين المتوكِّلين: ﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى: 37].

 

ووعَدَ الكاظمين الغيظ بمغفرة وجنَّة عرضُها السموات والأرض.

 

فاتقوا الله - أيها المؤمنون - لعلَّكم تُفلحون؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

 

نفعَني الله وإيَّاكم بهَدي كتابه، وجعَلَنا من خِيرة أوليائه وأحبابه.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات