أنواع الخطب إجمالاً من حيث الشرعية وعدمها(2/2)

ادارة الموقع

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: أحكام الخطبة

اقتباس

.. وما شاع اليوم من أنواع متعددة من الخُطب، هو في أصله مباح وجائز؛ لكونه كلاماً يصدر من شخص مكلف، والكلام مباح في أصله، ولكنه قد يكون ممنوعاً إذا اكتنفه شيء مما نُهي عنه شرعاً، كما لو اشتمل على الكذب أو الغِيبة أو الإفساد بين الناس، أو غير ذلك من المحرمات التي جاءت الشريعة بالنهي عنها

 

 

 

 

 

الخُطب غير الشرعية:
وتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الخُطب البدعية.
تستمد الخُطب الراتبة شرعيتها من خلال ما ورد في شأنها من نصوص الكتاب أو السنة؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، وقد ذُكرت بعض الخُطب وأُدعي أنها مشروعة على وجه راتب، والظاهر من النصوص الشرعية، أنها ليست كذلك، ومنها ما يأتي:

أولاً: خُطبة ليلة القدر.
لما كانت ليلة القدر أعظم الليالي، وورد في فضلها ما ورد، وهي ترجى في أوتار العشر الأواخر من رمضان، وعلى وجه الخصوص ليلة السابع والعشرين، أسْـتُـنْـبِطَ من هذا استحباب الخطبة في ليلة من ليالي العشر الأواخر من كل رمضان بشكلٍ راتب سنوي، فإن لم تكن في أول العشر، فتكون في ليلة السابع والعشرين، حيث يُحَث الناس فيها على القيام والدعاء.

ومما ورد في هذا الشأن ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا، وقال: " إني أريت ليلة القدر، ثم أنسيتها - أو نسيتها - فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإني رأيت أني أسجد في ماءٍ وطين … " الحديث (1). فهذه الخطبة من الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بسبب ليلة القدر، لبيان فضلها وأحكامها.

ويظهر لي أن هذه الخطبة من الرسول صلى الله عليه وسلم ليست راتبة، وإنما كانت عارضة بسبب بيان ليلة القدر للصحابة رضي الله عنهم، ولذلك لم تكن مشهورة عنه كما هو الحال في خطبة العيدين وغيرها، ولذا لم يذكرها الفقهاء، ولم يتكلموا عن أحكامها .
ومن أجل ذا فلا يشرع - والله أعلم - اتخاذ تلك الخطبة راتبة، بالهيئة التي تكون عليها الخطبة الشرعية.

ثانياً: خُطبة صلاة الجنازة.

ورد في عدد من الأحاديث ما أوهم شرعية الخطبة أو الموعظة، عند صلاة الجنازة، أو عند القبر، ومنها:

1- حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال:" كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة (2) فنكَّس فجعل يَنكُتُ بمِخصرته ثم قال: " ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانـها من الجـنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ونـدع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ؟ قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسرون لعمل الشقاوة، ثم قرأ: ? فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ? الآية (3) " (4).
وقد بوب البخاري - رحمه الله - باباً، قال فيه: ( باب موعظة المحدث عند القبر )، ثم ساق هذا الحديث، وكأنه يرى شرعية الموعظة عند القبر .

2- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، - الطويل - وفيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولـمَّا يُلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود يَنْكُتُ به في الأرض، فرفع رأسه فقال: " استعيذوا الله من عذاب القبر " مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه … " الحديث(5).

3- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها … " الحديث (6).

فهذه الأفعال من الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظهر ليست خطبة، وإنما هي من قبيل كلام الرجل لمن حوله، فهي كغيرها من النصوص الواردة من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في غير الخطب، ويؤيد هذا أن الرواة لم يقولوا: خطبنا أو خطب أو قام فينا خطيباً، ونحو ذلك من الألفاظ التي ترد كثيراً في نقل سنة الرسول في خطبة المعهودة.
فليست كل تلك الوقائع أسباباً لخطب صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل بعضها لا يدل أصلاً على أنه أراد الخطبة بكلامه، فالخطبة هنا غير مشروعة، إذ أن سببها واقع في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يؤثر عنه أنه فعل كما يفعل مع خطبة الجمعة والعيدين ونحوها، فلم يرقَ المنبر فيها، ولم يلقها وهو قائم، وليس فيها استفتاح بحمد الله عز وجل والثناء عليه (7).

ثالثاً: خُطبة ختم القرآن.
مما ذكر في الخطب: الخُطبة عند ختم القرآن الكريم والدعاء فيها، وقد استحبها فقهاء الحنفية -رحمهم الله-، وعدوها من الخطب الشرعية عندهم.
ويظهر - والله أعلم - أنها ليست بمشروعة، إذ لم يدل دليل على فعلها من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من صحابته، وكانوا يختمون القرآن مرات متعددة، وكان جبريل يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كل سنة، وعارضه مرتين في آخر حياته، ولم يؤثر أنه فعل شيئاً بعد انتهائه من قراءة القرآن، وما وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، فإن السنة عدم فعله، وإذا كان القول بمشروعية الدعاء بعد ختم القرآن ضعيفاً، فمن باب أولى القول بخُطبة ختم القرآن.

قال ابن رشد (الجد) -رحمه الله- في البيان والتحصيل: " الخُطبة على الناس عند الختمة في رمضان والدعاء فيها وتأمين الناس على دعائه، هي كلها بدع محدثات، لم يكن عليها السلف … ».

وعلى هذا فكل ما أحدث من الخُطب، واتخذ راتبة، وليس هو في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، ولا سلفه الصالح، فإنه ليس بمشروع.

القسم الثاني: الخُطب المتضمنة لما يحرم.
وهو ما جَدَّ من أنواع الخطب المعاصرة، التي تشتمل على أمورٍ محرمة، من تزكية النفس أمام الناس والثناء عليها، والإسراف في الوعود الحزبية، أو المجادلة والمخاصمة والإنكار العلني، أو المداهنة والمجاملة، أو الدفاع عن الباطل والوقوف مع الظالم، أو ذكر محاسن الميت ومناقبه، أو غير ذلك مما نهت عنه الشريعة، على مثال ما يُفْعل في خُطب الانتخابات، والخُطب التي تقال في مرافعات النيابة العامة والمحامين في المحاكم الوضعية، والخُطب التي تقال في التأبين في مدح الأموات وذكر صفاتهم ونعيهم.

وما شاع اليوم من أنواع متعددة من الخُطب، هو في أصله مباح وجائز؛ لكونه كلاماً يصدر من شخص مكلف، والكلام مباح في أصله، ولكنه قد يكون ممنوعاً إذا اكتنفه شيء مما نُهي عنه شرعاً، كما لو اشتمل على الكذب أو الغِيبة أو الإفساد بين الناس، أو غير ذلك من المحرمات التي جاءت الشريعة بالنهي عنها.

فإن كانت الخُطب خالية مما سبق، وكانت موافقة لما جاء في النصوص الشرعية، مشتملة على دعوة إلى حق أو نهي عن باطل، صارت مشروعة على وجه ليس براتب، بل بحسب الحاجة إليها، ومن ذلك:

الخُطب السياسة التي تقال في المحافل السياسة من قبل الرؤساء والوزراء وغيرهم، ويقصد منها جمع شمل الأمة، والاجتماع على إمام واحد، فهذه مشروعة إذا كانت خالية من الأمور المحرمة؛ وذلك لأن جنس هذه الخُطب مما جاءت به الشريعة، ومما يمكن أن يستأنس به على شرعيتها، ما ورد في مبايعة أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه سمع خطبة عمر الآخِرة، حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال:كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا -يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، فإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر. قال الزهري عن أنس بن مالك: سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه الناس عامة (8).

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــ
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب : التماس ليلة القدر في السبع الأواخر ، رقم (2016) واللفظ له ، ومسلم ، كتاب الصيام ، باب : فضل ليلة القدر ، رقم (1167) .
(2) قال ابن حجر - رحمه الله - : " بكسر الميم ، وسكون المعجمة ، وفتح الصاد المهملة ، هي عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ، ليتوكأ عليه ويدفع به عنه ويشير به لـما يريد ، وسميت بذلك؛ لأنها تحمل تحت الخصر غالباً للاتكاء عليها " .
(3) سورة الليل ، آية (5).
(4) أخرجه البخاري ، كتاب الجنائـز ، باب: موعظة الـمحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله ، رقم (1362) ، ومسلم ، كتاب القدر ، باب : كيفية الخلق الآدمي ، رقم (2647).
(5) أخرجه أحمد في المسند ، رقم (18534)،(30/499) مطولاً ، وأبو داود ، كتاب السنة ، باب : المسألة في القبر وعذاب القبر ، رقم (4738) ، وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصراً ، وقد أعلَّه بعض العلماء بثلاث علـل ، ذكرها ابن القيم وأجاب عليها ، وقال : " قال أبو موسى الأصبهاني: هذا حديث حسن مشهور بالمنهال عن زاذان …« شرح سنن أبي داود (13/63-64-65) وقال الهيثمي : " رجاله رجال الصحيح " مجمع الزوائد (3/172) .
(6) أخرجه أحمد في المسند ، رقم (11000) ، (17/32) ، والبزار رقم (872) ، (1/412) كشف الأستار ، وقال البزار :" لا نعلمه عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد " ، وقال الهيثمي : " رجاله رجال الصحيح " مجمع الزوائد (3/168) .
(7) وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم الموعظة عند القبر ؟ فقال : " الموعظة عند القبر جائزة على حسب ما جاء في السنة ، وليست أن يخطب الإنسان قائماً يعظ الناس؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، خصوصاً إذا اتخذت راتبة ، كلما خرج شخص مع جنازة قام ووعظ الناس ، لكن الموعظة عند القبر تكون كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وعظهم وهو واقف على القبر … وتكلم بكلام هو موعظة في حقيقته ، فمثل هذا لا بأس به ، أما أن يقوم خطيباً يعظ الناس ، فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم " .
(8) أخرجه البخاري ، كتاب الأحكام ، باب : الاستخلاف ، رقم (7219) ، ويدل على هذا المعنى ما رواه قيس بن أبي حازم قال : إني لجالس عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بشهر ، فذكر قصة ، فنودي في الناس : أنِ الصلاةُ جامعةُ ، وهي أول صلاة في المسلمين نودي بها أنِ الصلاةُ جامعةُ ، فاجتمع الناس ، فصعد المنبر؛ شيئاً صُنع له كان يخطب عليه ، وهي أول خطبة خطبها في الإسلام ، قال : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: يا أيها الناس ولوددت أن هذا كفانيه غيري ولئن أخذتموني بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ما أطيقها إن كان لمعصوماً من الشيطان وإن كان لينزل عليه الوحي من السماء " أخرجه أحمد في المسند ، رقم (80) ، (1/241) ، قال الهيثمي -رحمه الله - : " وفيه عيسى بن المسيب البجلي وهو ضعيف " مجمع الزوائد (5/334) .

 

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات