أنتم في نعمة في هذه الأزمة

أحمد شريف النعسان

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/ حكم الشدائد والأزمات 2/ نعمة الإسلام والإيمان والثبات على ذلك 3/ أناس حرموا نعمة الإسلام

اقتباس

إنَّ في تَعَاقُبِ الشَّدَائِدِ والرَّخَاءِ, والعُسْرِ واليُسْرِ, والضِّيقِ والفَرَجِ, والخَوْفِ والأَمْنِ, والفَقْرِ والغِنَى، كَشْفٌ عن مَعَادِنِ النَّاسِ, وطَبَائِعِ قُلُوبِهِم ونُفُوسِهِم، حَيثُ يَتَمَحَّصُ المُؤمِنُونَ, ويَنكَشِفُ الزَّائِفُونَ, ومن عَلِمَ حِكْمَةَ اللهِ -تعالى- في تَصْرِيفِ الأُمُورِ, وجَرَيَانِ الأَقْدَارِ, فَلَن ..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

فيَا عِبَادَ اللهِ: إنَّ في تَعَاقُبِ الشَّدَائِدِ والرَّخَاءِ, والعُسْرِ واليُسْرِ, والضِّيقِ والفَرَجِ, والخَوْفِ والأَمْنِ, والفَقْرِ والغِنَى, كَشْفٌ عن مَعَادِنِ النَّاسِ, وطَبَائِعِ قُلُوبِهِم ونُفُوسِهِم, حَيثُ يَتَمَحَّصُ المُؤمِنُونَ, ويَنكَشِفُ الزَّائِفُونَ, ومن عَلِمَ حِكْمَةَ اللهِ -تعالى- في تَصْرِيفِ الأُمُورِ, وجَرَيَانِ الأَقْدَارِ, فَلَن يَجِدَ اليَأْسُ إلى قَلبِهِ سَبِيلاً.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: مَهمَا أَظلَمَتِ الطُّرُقُ, وعَظُمَتِ الخُطُوبُ وتَوَالَتْ, ومَهمَا تَكَاثَرَتِ النَّكَبَاتُ, ومَهمَا ضَاقَ الحَبْلُ على الوَتَدِ, فَلَن يَزدَادَ الإنسَانُ المُؤمِنُ إلا ثَبَاتاً ورُسُوخاً ويَقِيناً بِقَولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ, إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ, وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ, إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ, وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ" [رواه مسلم].

 

يَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ بأَنَّ نِعَمَ اللهِ -تعالى- عَلَينَا لا تُعَدُّ ولا تُحصَى, ولكنْ أَعظَمُ النِّعَمِ على الإطلاقِ: نِعمَةُ الإسلامِ ونِعمَةُ الإيمَانِ, قال تعالى: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].

 

وقال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) [الأنعام:125].

 

وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات:7].

 

يَا عِبَادَ اللهِ: فَكِّرُوا وَأَنتُم تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ, وهذا الضِّيقَ والكَربَ, وهذا المَكْرَ والخِدَاعَ, وهذا الغَلاءَ الفَاحِشَ, وهذهِ القَسْوَةَ التي تَمَكَّنَتْ في قُلُوبِ كَثِيرٍ من النَّاسِ, وهذهِ المُؤَامَرَةَ الفَاضِحَةَ, بأَنَّ اللهَ -تعالى- أَكرَمَكُم بِأَعظَمِ النِّعَمِ على الإطلاقِ, ألا وهيَ: نِعمَةُ الإسلامِ والإيمَانِ, وأنْ جَعَلَكُمُ اللهُ -تعالى- من أَهلِ القُرآنِ, ومن الذينَ قَالَ فِيهِم مَولانَا -عزَّ وجلَّ-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر:32].

 

يَا عِبَادَ اللهِ: اُنظُرُوا حَولَكُم فَإِنَّكُم تَجِدُونَ مِمَّن حَولَكُم في هذهِ الأَزمَةِ مَن فُتِنَ فِيهَا, فانقَلَبَ رَأساً على عَقِبٍ, وانطَبَقَ عَلَيهِ قَولُهُ تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11].

 

وانطَبَقَ عَلَيهِ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ, فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ, يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً, أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً, يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِن الدُّنْيَا" [رواه مسلم].

 

وأَنتُم بِفَضْلِ اللهِ -تعالى- عَلَيكُم نِعمَةُ الإسلامِ والإيمَانِ رَاسِخَةٌ في قُلُوبِكُم, أَمَا تَكفِي هذهِ النِّعمَةُ؟

 

يَا عِبَادَ اللهِ, يَا مَن تَتَقَلَّبُونَ على جَمْرٍ من نَارٍ في هذهِ الأَزمَةِ: اِصبِرُوا وصَابِرُوا, واثبُتُوا على الحَقِّ, واثبُتُوا على دِينِكُم وإسلامِكُم وإِيمَانِكُم, وصَدِّقُوا اللهَ -تعالى- القَائِلَ: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) [آل عمران:74] لَقَدِ اختَصَّكُمُ اللهُ بِأَعظِمِ النِّعَمِ, ألا وهيَ نِعمَةُ الإسلامِ والإيمَانِ.

 

هذهِ النِّعمَةُ العَظِيمَةُ التي مَا عَرَفَ قَدْرَهَا كَثِيرٌ من النَّاسِ, لَقَد حَرَمَهَا اللهُ -تعالى- بَعضَ أَقَارِبِ سَادَاتِ الخَلْقِ من الأَنبِيَاءِ والمُرسَلِينَ.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا تَعلَمُونَ أنَّ أَبَا طَالِبٍ عَمَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- كَانَ من أَقرَبِ النَّاسِ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, ولكِنَّهُ حُرِمَ هذهِ النِّعمَةَ, وأَنتُم أَكرَمَكُمُ اللهُ -تعالى- بِهَا, أَمَا تَكفِيكُم هذهِ؟

 

أَمَا قَالَ لَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "يَا عَمِّ, قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ" [رواه الشيخان].

 

ولكِنَّ عَمَّهُ لَم يَقُلْهَا, وأَنتَ بِفَضْلِ اللهِ -تعالى- تَقُولُهَا صَبَاحاً ومَسَاءً, أَمَا تَكفِيكَ هذهِ الكَلِمَةُ, وأَنتَ تَعِيشُ هذهِ الأَزمَةَ؟

 

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا تَعلَمُونَ أنَّ أَبَا سَيِّدِنَا إبرَاهِيمَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- حُرِمَ هذهِ النِّعمَةَ, ولَم يَقُلْهَا عِندَمَا دَعَاهُ إِلَيهَا سَيِّدُنَا إبرَاهِيمُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؟ قال تعالى مُخبِراً عن هذا المَشْهَدِ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم:41-47].

 

 

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا تَعلَمُونَ أنَّ وَلَدَ سَيِّدِنَا نُوحٍ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قَد حُرِمَ هذهِ النِّعمَةَ, عِندَمَا دَعَاهُ إِلَيهَا سَيِّدُنَا نُوحٌ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؟ قال تعالى مُخبِراً عن هذا المَشْهَدِ: (حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود:40-43].

 

يَا عِبَادَ اللهِ: قَدِّرُوا نِعمَةَ اللهِ -تعالى- عَلَيكُم وأَنتُم تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ, قَدِّرُوا نِعمَةَ الإسلامِ والإيمَانِ, وحَافِظُوا عَلَيهَا من الضَّيَاعِ في هذهِ الأَزمَةِ, فالنَّاسُ يُغَربَلُونَ في هذهِ الأَزمَةِ, كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُغَرْبَلُونَ فِيهِ غَرْبَلَةً, يَبْقَى مِنْهُمْ حُثَالَةٌ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ, وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ-" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ, وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ, وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ, وَتَدَعُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ" [رواه أحمد].

 

أَنتُم في نِعمَةٍ عَظِيمَةٍ حُرِمَهَا عَمُّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- أَبُو طَالِبٍ, وحُرِمَهَا وَالِدُ سَيِّدِنَا إبرَاهِيمَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-, وحُرِمَهَا ابنُ سَيِّدِنَا نُوحٍ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-, فلا تَهِنُوا ولا تَحزَنُوا, وسَلُوا اللهَ الثَّبَاتَ.

 

اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا في الحَيَاةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ، آمين.

 

أقُولُ هَذا القَولَ, وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

 

المرفقات

في نعمة في هذه الأزمة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات