أنتم شهداء الله في أرضه

إبراهيم بن صالح العجلان

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ ثناء الناس على إنسان من علامات الخير فيه 2/ أموات يذكرهم التاريخ بالخير 3/ سوء الثناء على إنسان من علامات الشقاء فيه 4/ أموات سيذكرهم التاريخ بالشر

اقتباس

إنَّها حقيقة قرَّرها الواحد الأحد، ومُسلَّمةٌ لا يُماري فيها أحد، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ)، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، فالكلُّ راحِلٌ عن هذه الدار، ولكن الشأن كيف سيكون هذا الرحيل؟! وماذا سيُقال عن هذا الراحل؟!

 

 

 

 

إخوة الإيمان: في مجلس رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- والصحابة ملتفُّون حول حبيبهم -صلَّى الله عليه وسلَّم- تَمُرُّ جنازة، فيَرْمقها الناس بأبصارهم، وإذا الألسُن تُثني على صاحبها خيرًا، فقال النبِيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "وجبَتْ، وجبتْ، وجبت"، ثم مُرَّ بِجنازة أخرى، فإذا ألسن الناس تثني عليها شرًّا، فقال رسول الْهُدى: "وجبتْ، وجبت، وجبت"، وأمامَ هذا الاستغراب والاستفهام من الناس، يأتي التَّعليق النبويُّ بقوله: "مَن أثنيتم عليه خيرًا، وجبتْ له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا، وجبت له النار، أنتم شُهَداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض".

إنَّها حقيقة قرَّرها الواحد الأحد، ومُسلَّمةٌ لا يُماري فيها أحد، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185]، (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) [الأنعام: 62]، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115]، فالكلُّ راحِلٌ عن هذه الدار، ولكن الشأن كيف سيكون هذا الرحيل؟! وماذا سيُقال عن هذا الراحل؟!

إخوة الإيمان: إن ثناء الناس على العبد بِخَير من علامات التوفيق والمبشِّرات العاجلة، وفي مُحكم التنْزيل سأل إبراهيمُ الخليل أن يَبقى ذِكْرُه متردِّدًا عبْر كلِّ جيل، فنادى ربَّه: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء: 84]، فأجاب الله سؤْله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) [الصافات: 108]، قال جمهور المفسرين: "وتركنا ثناءً حسنًا عليه"، ثم عمَّم فضل الله على خليله، فكان له الذِّكر الطيِّب، ولذرِّيته معه؛ إسحاق ويعقوب، قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم: 50]، قال القرطبي: "أيْ: أثنينا عليهم ثناء حسنًا". اهـ.

وحُسْن الثناء -يا أهل الإيمان- هو من جملة الآثار الحسَنة التي تبْقى للمرء بعد مماته:

فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا *** فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ

وحين نقلِّب تاريخنا الغابر، نجد الذَّاكرة متخمةً بأسماءٍ لامعة إذا ذُكروا ذُكر معهم الثناء العاطر، والذِّكر الحسن، والدُّعاء بالرحمة والمغفرة، إذا ذُكر الإمام أحمد بن حنبل، قيل: إمام أهل السُّنة والجماعة، وإذا قيل: أحمد بن عبد الحليم الحرَّاني، لا يُعرف إلا بشيخ الإسلام ابن تيميَّة، وإذا ذُكر صلاح الدين، قيل: قاهر الصليبيِّين، ومُحرِّر أُولَى القبلتين، وإذا ذُكر محمد بن عبد الوهاب، استحقَّ أن يُقال: الإمام المجدِّد.

أعلام وعُظماء غُيِّبوا في الثَّرى، لكن ما غاب ذِكرهم، وما مُحِي أثرهم، بل إنَّ ذكْرَهم بعد مَماتهم أكثر من ذِكر كثيرٍ من الأحياء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

إن الذِّكر الحسن في الدنيا ليس بكثرة المُكْث فيها، وإنَّما بقدْر الأثر عليها، لقد عاش في هذه الدار رجالاتٌ ماتوا وهم في زَهرة شبابِهم، لكنْ بقي ذِكْرُهم أزمانًا ودهورًا إلى يومنا هذا، وقلِّب نظرك في مسارب التاريخ ترَ أسماءً لامعة، وأنجُمًا سامقة، أفلَتْ وهم في عنفوان أعمارهم وشبابِهم:

سعد بن معاذ -سيِّد الأوس- توُفِّي وعمره ثلاث وثلاثون سنةً، ولكنه رحل بعد أن قدَّم أعمالاً كثيرة جليلة للإسلام تُذْكر فتشكر.

عمر بن عبد العزيز، الإمام العادل الزَّاهد، ومن مِنَّا يَجهل عمر؟! توفِّي ولَما يبلغِ الأربعين.

عملاق النَّحو سيبويه، توفِّي وعمره ثلاثٌ وثلاثون.

ومات النوويُّ وهو ابن أربع وأربعين، ولكنْ كتَب الله لمؤلَّفاته من القبول والخلود ما جعل ذِكْره يسطَّر في كل زمان ومكان.

فالناس شهداء الله في أرضه، وقد جعل الله لكلِّ شيء سببًا، فمن اتبع مرضاةَ ربِّه وعمل عملاً صالِحًا، فهنيئًا له الذِّكر الجميل.

سيشهد العباد بالخير لِمن كان في دنياه من أهل الخير. الشهادة بالخير هي لِمن كان في دنياه من عُمَّار المساجد، المذكورين بالصَّلاح والإصلاح.

الشهادة بالخير هي لمن رحل عن هذه الدار بعد أن أسَّس بيتًا من التَّقوى، وخلّف وراءه أثرًا له؛ من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

الشهادة بالخير مستحَقَّة لرجالٍ سَنُّوا في الإسلام سُنَّة حسنة، فكان لَهم أجرها، وأجْرُ من عمل بِها إلى يوم القيامة.

الشَّهادة بالخير تُزَفُّ لِمن نشأ في طاعة الله، وتربَّى في بيوت الله، مع كتاب الله؛ حفظًا وتلاوة وتدبُّرًا.

الشهادة بالخير يستحِقُّها مَن خالَق الناس بخُلق حسن، فعاش سعيدًا، ومات حميدًا.

الشهادة بخير يُبشر بها من كان عفيفَ اللِّسان، سمْحَ النفس، دمث المعاملة، باذلاً للخير، سبَّاقًا إلى المعروف.

الشهادة بخير يسعد بها من وصل الأرحام، وأطاب الكلام، وأطعم الطَّعام، وصلَّى بالليل والناس نيام.

المشهود لهم بخير باختصارٍ: هم مَن عملوا في دنياهم بأوامر الله، على نورٍ من الله، يرجون ثواب الله، وهم من اتَّقوا محارم الله، على نورٍ من الله، يخشون عقاب الله، فإن كنت -يا عبد الله- من هذا الصِّنف، فاستمسك بما أنت عليه، وأبشرْ بثناءٍ يَبقى لك، والناس شهداء الله في أرضه.

إخوة الإيمان: ومن علامات الشَّقاء والنكد والبلاء، أن تُلاحق العبدَ شتائمُ شهداءِ الله في أرضه في حياته وبعد مَماته، فالشرُّ والتَّشاؤم لا يفترقان عن اسمه ورسمه.

من يُثنَى عليهم شرًّا -نعوذ بالله منهم- هم الذين غلبَتْ عليهم شقوتُهم، وأحاطت بهم خطيئتهم، وهم أصنافٌ شتَّى، تفرَّقت فعالهم، وتلوَّنت قبائحهم، ولكن جمعَتْهم خصلة واحدة؛ أنَّهم سبب كل بلاء، وشرارة كل مصيبة.

الثناء بالشر ينتظر كلَّ مستبِدٍّ وطاغية، ظلَم العباد، وأفسد البلاد، وللخزائن أباد.

الشهادة بالشر، ستلاحق المُجرمين، الذين يعيثون في الأرض فسادًا؛ قتلاً للآمِنين، وترويعًا للمؤمنين.

الشهادة بالسُّوء، متَّصلة لكلِّ صاحب سوء، يأمر بالمنكر ويَنهى عن المعروف، يشمئِزُّ إذا ذُكِر الله وحده، ويستبشر إذا ذُكِر الذين مِن دونه.

الشهادة بالشر، ستطوِّق الذين ظَلموا أنفسهم، فانتهكوا حدود الله، وتلصَّصوا على مَحارم الله.

الشهادة بالشر، ستُكتب على دهاقنة الإفساد، الذين أَمطروا الأمَّة بوابلٍ من المناظر الشَّهوانية، والعفونات الفكريَّة.

وهي لأولئك المستهترين المستَخفين، الذين جعلوا مشروعَهم النَّيلَ من ثوابت الأمَّة، والتعدِّيَ على أحكام الشرع والشريعة.

وهي لأولئك الذين كان هَمُّهم وهمَّتهم إفسادَ المرأة المسْلِمة، والزجَّ بِها في مَجامع الرِّجال.

وهي لأولئك الذين يريدون أن يَميلوا بالمؤمنين والمؤمنات ميلاً عظيمًا.

إلى هؤلاء كلهم يُقال: اعتبروا بالتاريخ، واقرؤوا سِيَر مَن غبَر، فماذا كتب التاريخ عن دُعاة الضَّلالة؟! وماذا نطق عن صناديد الإفساد؟! فهل بقي أثرهم حميدًا؟! وهل ظلَّت سيرتُهم مثلاً؟!

فإلى كلِّ مفسد ظالِم: قل ما شئت، واصنع ما شِئت، ولكن تذكَّر أنَّ عليك كرامًا كاتبين، يعلمون ما تفعلون: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس: 12].

تذكر أن التَّاريخ لا يَرحم، وأنَّ سُوءك وسَوْءاتك ستَبقى مُدوَّنة، ولن تُسامِحَك الأجيال القادمة، وستَذْكرك، ولكن ستذكرك بِمخازيك ومساوئك، وسيُقال عنك: عامَلَه الله بما يستحق، أو يُقال: لا رحِمَه الله.

فكم رحل من هذه الدار، مِن طاغية وجبَّار، وأشرار وفُجَّار، فشيَّعتْهم دعواتُ الناس عليهم، وراحةُ العباد منهم: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان: 29]، والعبد الفاجر يستريح منه العبادُ والبلاد، والشجر والدوابُّ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].

بارك الله لي ولكم...

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

فيا إخوة الإيمان: الكلُّ سيَمضي من هذه الدار، والكل ستذكره ألسنة الخلْق، إما خيرًا أو شرًّا، فلْيَختر كلُّ امرئٍ من أي الفريقين سيكون؟! وإلى أيِّ الطريقين يسير؟! هذه حقيقة فلا نُعمي البصرَ والبصيرة عنها.

نعم، سترحل -يا عبد الله- فكن ممن يستريح، ولا تكن ممن يُستراح منه، كن مِمَّن فارق دنياه وقد أَبقى ذِكرَه بما تركه من آثار طيبة، وسيرة نقية، وأفعال مرضيَّة، ولا تكن الآخر؛ فلا يُتأسَّف على موتك، ولا يُتحسَّر على رحيلك وإن كان لك ما كان من الجاه والمال.

تذكر يا من يسعى لِيُذكر في دنياه بجاهه، أو شهرته أو ثرائه، أنَّ الشأن هو في الذِّكر بعد الرحيل، وهل سيقال عنك: فلان فقيد؟! أم فلان موته عيد؟! (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].

سل نفسك -يا عبد الله-: هل سأغادر هذه الدار وقد شيَّعتْني الدموع والدعوات؟! أم سأرحل فلا أسف عليَّ ولا حسرات؟!

هذه أسئلة، والإجابة تَملكها أنت بعملك وسعيك، والموعد يوم الجنائز، والمقياس يوم تبلى السرائر: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 19].

اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

اللهم واجعل لنا لسان صدق في الآخرين، ولا تُخزنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يعز فيه أهل الطاعة، ويُهدى فيه أهل المعصية.

اللهم أصلح أحوال أمة محمد، اللهم أصلح الراعي والرعية، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرَّ شرارهم، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وتولَّ أمورنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد.
 

 

 

 

 

المرفقات

شهداء الله في أرضه1

شهداء الله في أرضه - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات