أم لم يعرفوا رسولهم؟!

ناصر بن محمد الأحمد

2014-11-11 - 1436/01/18
عناصر الخطبة
1/روعة الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 2/نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- ونشأته وزواجه بخديجة وبعثته 3/صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- الخلْقية 4/صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- الخٌلٌقية 5/بعض الخصائص التي انفرد بها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بقية الأنبياء في الدنيا والآخرة 6/شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم-7/مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قلوب الصحابة والتابعين

اقتباس

أسمى الخليقة روحاً، وأعلاها نفساً، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة وقياماً بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حقُه، ولصاحبه حقُه، ولزوجه حقَها، ولدعوته حقَها، أزهد الناس في...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)[الأحزاب: 45-46].

 

أيها المسلمون: إن الحديث يحلو عن الرجال العظماء من الناس، ولكن الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجاريه أي حديث، في روعته وحلاوته، والطرب به، والشوق إليه.

 

رجل ملأ حبه القلوب، واصطفاه الله على الناس، فجعله أكرمهم، وأحبهم إليه.

 

إنه رسول الله الذي تشتاق إليه النفوس، وبذكره ترق وتلين القلوب، وعند الحديث عنه تطمع النفوس المؤمنة إلى رؤيته، والالتقاء به في الجنان، والموعد حوضه الشريف حيث ينتظر المؤمنون، يأتون إليه غراً محجلين عن باقي الأمم كي يشربوا من حوضه الشريف شربه هنيئة لا يظمأون بعدها أبداً.

 

إنه محمد بن عبد الله؛ من بني هاشم من قريش، أعز الناس نسباً، وأشرفهم مكانة.

 

ولد في بطاح مكة، فرأت أمه نوراً أضاءت له قصور الشام.

 

نشأ حين نشأ يتيماً، فكفله جده ثم عمه، واسترضع في ديار بني سعد، أرضعته حليمة السعدية، فكانت أسعد الناس به.

 

نزلت الملائكة من السماء، فشقت صدره، وغسلت قلبه، فنشأ نشأة طهر وعفاف في مجتمع جاهلي يعج بالشرك والظلم والمنكرات، لم يتجه يوماً بقلبه إلى صنم، ولم يعاقر خمراً، ولم يتسابق كغيره إلى النساء.

 

صادق اللسان، لم يجرب عليه قومه كذبةً واحدة، أمين وأي أمين؟

 

تزوج في شبابه وقبل مبعثه بأكرم النساء، وأحصنهن وأعفهن، وأرجحهن عقلاً؛ أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها-، فأنجب منها جل أبنائه وبناته.

 

حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه بعدما كره بفطرته السليمة ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، فكان يصعد إلى غار حراء، فيمكث به الليالي ذوات العدد، ناظراً للكعبة الشريفة والسماء.

 

بشر بقدومه الأنبياء من قبله، وهتفت الجن ببعثته، وامتلأت السماء حرساً شديداً وشهباً.

 

بعثه الله للناس على رأس أربعين سنة، فلما اقتربت طلوع شمسه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سمع من يقول له: "السلام عليك يا رسول الله" فيلتفت فلا يرى إلا الحجر والشجر، فلما كان ذات ليلة على عادته في الغار، وإذا بجبريل -عليه السلام- يأتيه رسول مرسل من ربه بـ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)[العلق:1-2].

 

فرجع بها إلى بيته خائفاً يرجف منها فؤاده، قائلاً: "زمّلوني زملوني".

 

فسكبت عليه خديجة -رضي الله عنها- أعذب الكلام وأروعه، حتى هدأت نفسه: "كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصِل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحقّ".

 

ثم تتابع الوحي عليه من ربّه آمراً له بالدعوة إلى الله، فخرج يدعو سرّاً من كان يرجو قبول الحق، فلما تكاثر المؤمنون من حوله أتاه الأمر: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)[الحجر: 94].

 

فلقي منذ ذلك الوقت صنوف الأذى والسخرية والاستهزاء، وتحمل هو ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يزدادون يوماً بعد يوم الشدائد لتمسكهم بالإسلام والمحافظة على هذا الدين العظيم، فلما رأى من قومه الصدود والإعراض بدأ بإخراج دعوته خارج مكة، فوصل الطائف ولاقى من أهلها أكثر مما لاقاه من قومه في مكة، فأخذ يعرض دعوته على القبائل حتى هيأ الله له نفراً من أهل المدينة قدموا مكة في الموسم، فعرض دعوته عليهم، فأوقع الله في قلوبهم الإيمان، فاتفق معهم على الهجرة للمدينة وأن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون أبناءهم وأهليهم، فكانت تلك الهجرة العظيمة، وذلك الحدث التاريخي الذي قلب الأمور على الأرض رأساً على عقب، وانطلقت دولة الإسلام من المدينة، وبدأ الجهاد لما توافرت أسبابه، فجاهد رسول الله هو وأصحابه بأموالهم وأنفسهم، حتى فتح الله له القرى وأمها، ودانت له جزيرة العرب، وهابته الأعاجم في ديارها، فكان من آخر أمره حجه بالناس، فنصح وبلغ رسالة ربه، حتى حانت ساعة وفاته عليه الصلاة والسلام.

 

إنه محمد بن عبد الله؛ فإن سألت عن خِلقته كيف كان؟

 

فإنك تسأل القمر ليلة تمامه، فكان أجمل الناس وأبهاهم منظراً، أبيض مشرباً بحمرة، ربعة من الناس ليس بالطويل ولا بالقصير، عظيم الهامة، واسع الجبين مقوس الحواجب في غير اقتران، طويل الأنف مع صغر أرنبته، له نور يعلوه، كث اللحية، واسع الفم مفلوج الأسنان، ليس بالنحيف ولا بالسمين، مستوي البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين أشعر الذراعين والمنكبين والصدر، لين الملمس كأن يده الحرير.

 

يمشي وكأن مشيته في منحدر، إذا التفت التفت بكل جسمه، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، يمشي وأصحابه أمامه، طويل السكوت، دائم الفكرة، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح كلامه ويختمه باسم الله -تعالى-، يتكلم بجوامع الكلم، ولا يضحك إلا تبسماً، لا يتكلم فيما لا يعنيه، يؤلف الناس ولا ينفرهم، يتفقد أصحابه ويسأل عنهم، يحلم على الجاهل والسفيه، ويصبر على من يحادثه حتى يكون محدثه هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور جميل من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً.

 

مجلسه مجلس علم وحياء وأدب، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تذاع فلتاته، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بصخاب ولا فحاش ولا عياب.

 

يبيع ويشتري يضحك مما يضحك له الناس، ويتعجب مما يتعجبون.

 

بين كتفيه خاتم النبوة، وهي غدة حمراء بها شعرات مجتمعات، كان شعره إلى أنصاف أذنيه، وعدت شعيراته البيضاء فبلغت عشرين شعرة، وقال عنها صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود وأخواتها".

 

يحسبه الرائي له أنه يخضب بالحناء شعره، كان وبيص الطيب الذي يضعه.

 

عاش عيشة الزهد، فلم يشبع من خبز الشعير قط، يمر على بيوته الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيوت آل محمدٍ نار، ربما وضع حجرين على بطنه ليسكت جوع بطنه.

 

كان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا انتهى بأدب.

 

أحب من الطعام الدباء والحلوى والعسل، وكان لا يذم طعاماً قط.

 

قسم وقته داخل بيته ثلاثة، فقسم لله، وقسم لأهله، وقسم لنفسه، والقسم الذي لنفسه ما بينه وبين الناس.

 

كان يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقاً، كان يسمر مع نسائه ويحدثهن ويحدثونه.

 

كان راجح العقل، صادق الفراسة، ثابتاً في الشدائد، صابراً في البأساء والضراء وحين البأس، حليماً وقوراً وفياً للعهد والناس، يصفح ويعفو عمن أساء له، فعفا عمن سحره، وعفا عمن دس له السم، وصفح عن أهل مكة.

 

كان وسطاً يحب الاعتدال، كريماً سخياً كالريح المرسلة.

 

لقد انفرد عن إخوانه من الرسل والأنبياء والناس أجمعين بخصائص في الدنيا والآخرة لم تكن لغيره كرامة وتشريفاً له صلى الله عليه وسلم؛ منها: أن الله أخذ العهد والميثاق على الأنبياء من قبله على الإيمان به، ونصرته والبشارة به.

 

ومنها: أن رسالته كانت للناس كافة وكانت رسالة من قبله من الأنبياء لأقوامهم خاصة.

 

ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت رسالته رحمة للعالمين.

 

ومنها: أنه النبي الوحيد الذي خاطبه الله بوصف النبوة والرسالة، فكان القرآن ينـزل بـ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)[الأنفال: 64].

 

و(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)[المائدة: 41].

 

ونادى بقية الأنبياء بأسمائهم.

 

وجعل الله له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً، ونُصر على أعدائه بالرعب، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

 

كانت معجزات الأنبياء من قبله وقتيةً تنتهي بموتهم، وكانت معجزته خالدة إلى يوم الدين.

 

تفرد عن بقية الأنبياء بالإسراء والمعراج حتى أدناه الله منه في سدرة المنتهى.

 

خصه الله يوم القيامة، فأعطاه الله الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود، وهو مقام الشفاعة العظمى للخلائق عند ربهم حتى يفصل فيهم، ويشفع لأمته حتى يبلغوا ثلثي أهل الجنة.

 

وهو أول من يعبر على الصراط يوم القيامة، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها.

 

أكرم الله أمته كرامة له، فكانت خير الأمم أخرجت للناس، أحل الله لها الغنائم، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم، وتجاوز عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحفظ هذه الأمة من الهلاك والاستئصال، وجعلها أمة لا تجتمع على ضلالة، وأعطاهم الله الأجر العظيم على العمل القليل، ويأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، ويسبقون الأمم إلى الجنة.

 

أظهر الله على يديه من المعجزات ما يبهر العقول، ففلق له القمر فلقتين، وتكلمت الحيوانات بحضرته، وسبح الطعام بين يديه، وسلم عليه الحجر والشجر، وتكاثر له الطعام والشراب كرامة، وأخبر بالمغيبات، فما زالت تتحقق في حياته وبعد وفاته.

 

أيها المسلمون: أي عبارة تحيط ببعض نواحي تلك العظمة النبوية؟ وأي كلمة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل قطر، وأحاطت بكل عصر، وكُتب لها الخلود أبد الدهر؟

 

وأي خطبة أو محاضرة تكشف لك عن أسرارها وإن كُتبت بحروف من النور، وكان مداده أشعة الشمس؟

 

إنها العظمة الماثلة في كل قلب، المستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعترف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب المنائر؟

 

ألم تر أن الله خلَّد ذكره *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

 

إنه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث الكمال الخُلقي بالذروة التي لا تُنال، والسمو الذي لا يُسامى، أوفر الناس عقلاً، وأسداهم رأياً، وأصحهم فكرةً، أسخى القوم يداً، وأنداهم راحة، وأجودهم نفساً، أجود بالخير من الريح المرسلة، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يبيت على الطوى وقد وُهب المئين، وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئاً وينادي صاحبه: "أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".

 

أرحب الناس صدراً، وأوسعهم حلماً، يحلم على من جهل عليه، ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذاً بالعفو، وأمراً بالمعروف، يمسك بغرة النصر، وينادي أسراه في كرم وإباء: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

 

أعظم الناس تواضعاً، يُخالط الفقير والمسكين، ويُجالس الشيخ والأرملة وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها، ويقضي حاجتها، ولا يتميز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة، ولا برسم من رسوم الظهور.

 

ألين الناس عريكةً، وأسهلهم طبعاً، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مُحرماً، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب، وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من شدة الغضب.

 

أشجع الناس قلباً، وأقواهم إرادةً، يتلقى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار ويُنادي بأعلى صوته: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".

 

وهو من شجاعة القلب بالمنـزلة التي تجعل أصحابه إذا اشتد البأس يتقون به صلى الله عليه وسلم، ومن قوة الإرادة بالمنـزلة التي لا ينثني معها عن واجب، ولا يلين في حق، ولا يتردد ولا يضعف أمام شدة.

 

أعف الناس لساناً، وأوضحهم بياناً، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدر، مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة.

 

أعدلهم في الحكومة، وأعظمهم إنصافاً في الخصومة، يَقِيدُ من نفسه ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

 

أسمى الخليقة روحاً، وأعلاها نفساً، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة وقياماً بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حقُه، ولصاحبه حقُه، ولزوجه حقَها، ولدعوته حقَها، أزهد الناس في المادة وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يقدم إليه فلا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، ينام على الحصير والأدم المحشو بالليف.

 

قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة، قد تزوجت من قبله، وقضت زهرة شبابها مع غيره، ولم يتزوج معها أحداً وما تزوج بعدها لمتعة، وما كان في أزواجه الطاهرات بكراً غير عائشة -رضي الله عنها-.

 

أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان، ويحذر أصحابه فيقول لهم: "إن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".

 

أيها المسلمون: لو لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض، وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم، لكان فضلاً لا يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يُوفى الناس حامله بعض جزائه.

 

ذلك قبس من نور النبوة، وشعاع من مشكاة الخلق المحمدي الطاهر، وإن في القول بعد لسَعَة، وفي المقام تفصيلاً.

 

وسل التاريخ ينبئك هل مر به عظيم أعظم من النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد عُصم من النقائص، وعلا عن الهفوات، وجلّ مقامه عن أن تلصق به هفوة؟

 

خُلقتَ مُبرءاً من كل عيب *** كأنك قد خُلقت كما تشاء

 

كم ترتقي الروح للمعالي حين يخطر على القلب ولو لبرهة صورة محمد بن عبد الله، رسول رب الأرض والسماء من هو؟

 

هو من كان يحلب شاته! هو من كان يخيط ثوبه! خير من خلق الله، هو عينه من كان يقول: "أنا سيد ولد آدم".

 

وهو أيضاً من كان يجمع الحطب لأصحابه، وهو نفسه من كان يرتجف ألما وحرقة حين يرى دابة ضعيفة قد حملت من الزاد والراحلة ما لا تحتمل! هو السيد وهو الرحيم وهو الإنسان -صلى الله عليه وسلم-.

 

هو من كان يخاطب الملوك، ويراسل قياصرة الدنيا، وهو نفسه وهو عينه من كان يُنهِي صلاته على عجل؛ لأنه سمع بكاء طفل رضيع كان قد أتى مع أمه للمسجد.

 

دخل عليه رجل وهو يرتجف خوفًا وفرقًا من عظيم هيبته صلى الله عليه وسلم، قال له: "هون عليك فإني لست بملِك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة".

 

يسأله أعرابي يوماً في بداوة جافة، يا محمد: هل هذا المال مال الله، أم مال أبيك؟ ويبتدره عمر، يريد أن يؤنبه، فيقول عليه الصلاة والسلام: "دعه يا عمر إن لصاحب الحق مقالاً".

 

صلى الله عليه وسلم، صلاة دائمة إلى يوم الدين.

 

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد ...

 

نفعني الله وإياكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لنسرح بخيالنا مع الرعيل الأول، وكيف كانوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكيف عرف أولئك أن يأخذوا الإيمان والخلق والعبادة من نبيهم ومن هديه، فارتقوا في درجات سلم العبودية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.

 

 لما أدرك الصحابة نعمة بعثة الرسول بينهم، قام في قلوبهم من حبه الشيء العظيم، فعَمَرَ ذكره والثناء عليه قلوبهم ومجالسهم، ما أن يسمعوا بلالاً -رضي الله عنه- يردد من خلفه بصدق: "أشهد أن محمداً رسول الله" تخرج حارّة من قلوبهم فتترجم حية في واقع حياتهم، فهذا مهتم بأمر سواكه، وهذا مهتم بنعله، وهذا مهتم بوضوئه وطهوره، وهذا يصلح له دابته، وهذا يحفظ له ماله وقوته، وهذا يبادر إليه فيستضيفه، وهذا.. وهذا..

 

وتجاوز بهم الحب إلى أن يقتسموا شعره إذا حلقه ويتوضؤون بفضلة وضوئه، بل وما يتنخم ولا يتفل إلا ومدوا أيديهم في الهواء يتلقون أثراً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال عروة بن مسعود: "يا قوم، والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-، والله ما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيُدلك بها وجهه وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه".

 

وها هم يرحلون في طلب حديثه، وذكره وكلامه الشهور الطويلة من أجل تجديد العهد بحديثه، وجرسه في أسماعهم، وصداه في قلوبهم.

 

نعم، لقد شهد أولئك النفر والصحب الكرام حق الشهادة أن محمداً رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، كان الرجل منهم ما إن يخلو بأهله، فيذكر أنه قد يفترق عن حبيبه ورسوله في الآخرة، حتى يُرى أثر ذلك في وجهه فتصيبه الهموم والأحزان، قالت عائشة -رضي الله عنها-: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكُركَ فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك فلم يَرُدّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل قوله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69].

 

(ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا)[النساء:70].

 

وما فرح الصحابة فرحاً مثل فرحهم عندما جاء ذلك الأعرابي، فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم؟ قال عليه الصلاة والسلام: "المرء مع من أحب". قال أنس: فأنا أحب النبي وأبو بكر وعمر.

 

نعم، بمثل هذا كان يحدّث الرجل منهم نفسه، وذلك لتمام المحبة لهذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان الواحد منهم يحدث نفسه: هذه مجالسنا معه في الدنيا فهل يا ترى نكون معه في الجنة؟

 

هذا السؤال كان يشغل جانباً كبيراً من مشاعر وأحاسيس ووجدان أولئك المؤمنين الصادقين.

 

لقد شهدوا حق الشهادة أن محمداً رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، محبة أخرجتهم من ملذاتهم ومراداتهم إلى مراده هو، وما يأمر به وينهى عنه.

 

فلم يبق في قلوبهم تعظيم لأحد، أو توقير فوق تعظيم وتقدير رسول رب العالمين -صلى الله عليه وسلم-.

 

جادوا بأموالهم في سبيل دينه ودعوته، جادوا بأنفسهم في سبيل الذب عنه.

 

تجود بالنفس إذا ضن البخيل بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود

 

كان الشيخ الهرم الكهل الذي فني وذهبت قوته وأقبل ضعفه، وذهبت صحته وأقبل مرضه، كان يتمنى أن لو كان شاباً يقاتل ويناضل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

لا توجد منةٌ لإنسان مهما بلغ مثل منّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأمة، فما من بيت إلا ونالته من بركة هذا النبي الكريم أشياء وأشياء.

 

رُئي الإمام أحمد -رحمه الله- في المنام بعد موته، فسُئل عن حاله؟ فقال: "لولا هذا النبي الكريم لكنا مجوساً".

 

قال ابن رجب -رحمه الله-: "وهو كما قال، فإن أهل العراق لولا رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- لكانوا مجوساً، وأهل الشام ومصر لولا رسالته لكانوا نصارى، وأهل جزيرة العرب لولا رسالته لكانوا مشركين عباد أوثان".

 

وكان أيوب السخيتاني وهو من كبار التابعين يبكي كثيراً، ويقول: "لولا هذا النبي لكنا كفاراً".

 

وهذا عبيدة بن عمرو المرادي يقول له محمد بن سيرين: "إن عندنا من شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من قِبل أنس بن مالك، فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحبُّ إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض".

 

قال الذهبي -رحمه الله-: "وهذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس".

 

ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بخمسين سنة.

 

وقد كان ثابت البُناني: إذا رأى أنس أخذ يده فقبلها، ويقول: "يدٌ مست يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

 

لقد كان حب النبي -صلى الله عليه وسلم- في قلوب الأمة حباً عظيماً، لقد كان حباً لأمره ونهيه، لقد كان حباً شرعياً، وصل بهم إلى أعلى درجات الإيمان.

 

ليس الصحابة والتابعون فحسب هم الذين أحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلد أحبه كل شيء بالمدينة، الجذع الذي يخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، يحنّ إلى حديثه شوقاً، ويُظل يُسمع له حنيناً في المسجد وبكاء، فينـزل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويُسكته كما يُسكت الإنسان طفله.

 

ثم هذا جبل أحد، يصعده النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومعه ثلة من أصحابه، فيرجف بهم فيقول: "أثبت أحد" ثم يقول: "هذا جبل يحبنا ونحبه".

 

أنا وأنت بعيدون عن مثل هذه المشاعر والأحاسيس، إنه -والله- الحرمان.

 

إن هذا الذي أدركه الصحابة وأدركه التابعون، تجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- جهله -مع كل أسف- عوام الناس وخواصهم في هذه الأيام، فأصبحوا لا يعرفون قدر عظيم المنّة عليهم بمبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفضله على آحادهم وأفرادهم، وأنهم به قد أُخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النار إلى الجنة: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[الطلاق: 11].

 

اللهم ...

 

 

المرفقات

لم يعرفوا رسولهم؟!

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات