أمهات المؤمنين

ناصر بن محمد الأحمد

2016-01-06 - 1437/03/26
عناصر الخطبة
1/ ذكر أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- 2/ خصائص أزواجه صلوات الله عليه 3/ فضائل خديجة وعائشة رضي الله عنهما.

اقتباس

سيرةُ الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل، حقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَهنّ نِبراسًا للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرهنّ، ويقتدينَ بهنّ في الدين والخُلق، ومراقبَةِ الله، والانقياد التام لله ورسوله، وملازمةِ العبادة، والإكثار من الطاعات، والصّدق في الحديث، وحفظ اللسان، والبذل للفقراء، وتفريجِ كرُبات الضعفاء، والسعيِ لإصلاح الأبناء، والصّبر على تقويمِ عوَجِهم، والتحصُّن بالعلم، وسؤالِ العلماء الراسخين، وملازمة السّترِ والعفاف، والقرارِ في البيوت والحِجاب، والبعد عن الشبهات والشهوات، والحذَرِ من طول الأمل...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله..

 

أما بعد: أيها المسلمون: تسعَد المرأةُ المسلِمة باقتِفاءِ أثرِ خَيرِ نِساءٍ عِشنَ في أفضلِ القرون وتربَّين في أَجلِّ البيوتِ بيتِ النّبوّة، أعلَى الله مَكانتَهنّ، وأجَلَّ قَدرَهنّ، ونزَل القرآن بالثّناءِ عَليهنّ، قال عزّ وجلّ: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) [الأحزاب: 32]، زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات.

 

أُولاهنّ: خديجة بنت خُويلدٍ -رضي الله عنها-: المرأة العاقِلَة الحاذِقة ذاتُ الدين والنسب، نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم، واتَّصفت بالعفّة والشرف، كانت تُدعَى بين نساءِ مكّة بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه عليه الصلاة والسلام كان يأوِي إليها ويبُثّ إليها همومه.

 

نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: "ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي"، فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت له: كلاَّ والله، لا يخزيك الله أبدًا.

 

لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن من هذه الأمة، قال ابن الأثير -رحمه الله-: "خديجة أوّلُ خَلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة".

 

عظُمَت الشّدائِد على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه، يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء" (رواه أحمد).

 

عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- منها سوَى إبراهيم.

 

 أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب - أي: لؤلؤ مجوَّف -، لا صخَبَ ولا نصَب" متفق عليه.

 

كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول عليه الصلاة والسلام: "قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فأقرِئ عليها السلام من ربِّها ومنّي" متفق عليه.  قال ابن القيّم -رحمه الله-: "وهي فضيلةٌ لا تُعرَف لامرأةٍ سِواها". أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنّي رُزِقت حبَّها" (رواه مسلم).

 

كان إذَا ذكرَها أعلَى شأنَها وشكَر صُحبتَها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكَر خديجةَ لم يكن يسأَم من ثَناءٍ عليها واستغفارٍ لها. حفِظ لها وُدَّها ووفاءها، فكان يكرِم صاحِبَاتها بعدَ وفاتِها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: وربَّما ذبح الشاةَ، ثم يقطّعها أعضاءً، ثمّ يبعثها إلى صديقاتِ خديجة، فربما قُلتُ له: كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأةٌ إلاّ خديجة! فيقول: "إنها كانت وكانَت، وكان لي منها ولد" (رواه البخاري).

 

سمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صوتَ أختِها بعد وفاتها فحزِن كثيرًا وقال: "ذكَّرتني بخديجة".

 

كمُلَت في دينها وعقلِها وخلُقها، يقول عليه الصلاة والسلام: "كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وخديجة بنتُ خويلد" (رواه ابن مردويه).

 

سبَقَت نساءَ هذه الأمة في الخيريّة والشرف والسناء، يقول عليه الصلاة والسلام: "خيرُ نِسائِها - أي: في زمانها - مريمُ بنت عمران، وخير نسائِها - أي: مِن هذه الأمّة – خديجة" متفق عليه.

 

صَلحُت في نفسِها وأصلَحَت بيتَها، فجَنَت ثمرةَ جُهدها، فأصبَحَت هي وابنتُها خيرَ نساء العالمين في الجنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: "أفضَلُ نِساء أهلِ الجنّة خديجةُ وفاطمة ومريمُ وآسية" (رواه أحمد).

 

كانت عظيمةً في فؤادِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فلم يتزوَّج امرأةً قبلَها ولم يتزوَّج امرأةً معها ولا تسرَّى إلى أن قضَت نحبَها، فحزِنَ لفَقدِها، يقول الذهبيّ -رحمه الله-: "كانت عاقِلةً جليلةً ديِّنةً مَصونةً كريمةً من أهلِ الجنة".

 

تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل ثلاث وعشرون، وسنّها -رضي الله عنها- أربعون أو فوق الأربعين، وماتت -رضي الله عنها- قبل الهجرة بثلاث سنوات.

 

فلما ماتت خديجة تزوج -عليه السلام- سودة بنت زمعة -رضي الله عنها-: سليمة القلب، ولم يُرو أنها ذات جمال ولا شباب. إنما كانت أرملة للسكران بن عمرو بن عبد شمس. كان زوجها من السابقين إلى الإسلام من مهاجري الحبشة، فلما توفي عنها تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانفردَت به نحوًا من ثلاثِ سنين، كانت جليلةً نبيلَة، رُزِقَت صفاءَ السّريرةِ، وَهَبت يومَها لعائشةَ -رضي الله عنها- رِعايةً لقلب النبي -صلى الله عليه وسلم- تبتَغِي رِضَا ربِّها.

 

ثم تزوج عائشة -رضي الله عنها-: بنت الصديق أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه-، وكانت صغيرة فلم يدخل بها إلا بعد الهجرة.

 

نشأت في بيتِ الإيمان، فأمُّها صحابية، وأختُها أسماء ذاتُ النطاقين صحابيّة، وأخوهَا صحابيّ، ووالِدُها صِدّيق هذه الأمة. ترَعرَعت في بيتِ عِلم، كان أبوها علاَّمةَ قريشِ ونَسَّابَتها، منحَها الله ذكاءً متدفِّقًا وحفظًا ثاقِبًا، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "لم يكن في الأمَمِ مثلُ عائشَةَ في حفظها وعلمِها وفصاحتِها وعَقلها".

 

 فاقَت نساءَ جِنسها في العِلم والحكمة، رزِقَت في الفقه فهمًا وفي الشعر حِفظًا، وكانت لعلومِ الشّريعة وِعاءً، يقول الذهبي -رحمه الله-: "أفقَهُ نساءِ الأمّة على الإطلاق، ولا أعلَمُ في أمّة محمد بل ولا في النّساء مطلَقًا امرأةً أعلَمُ منها".

 

سمَت على النساء بفضائِلِها وجميلِ عِشرتها، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فضل عائشةَ على النساء كفضلِ الثريد على سائر الطعام" متفق عليه.

 

أحبَّها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما كان ليحبّ إلا طيّبًا، يقول عمرو بن العاص -صلى الله عليه وسلم-: أيّ النّاس أحبّ إليك يا رسول الله؟ قال: "عائشة"، قلت: فمن الرجال؟ قال: "أبوها" (رواه البخاري).

 

لم يتزوَّج بِكرًا غيرَها، ولا نزَل الوحيُ في لحافِ امرأةٍ سواها، عَفيفةٌ في نفسها، عابِدة لربِّها، لا تخرُج من دارِها إلاّ ليلاً لئلا يراها الرّجال، تقول عن نفسِها: كنّا لا نخرُج إلاّ ليلاً، محقّقةً قولَ الله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب:33].

 

ابتُليت بحادثة الإفك، واشتدَّ بها البلاء، قال ابن كثير -رحمه الله-: "فغارَ الله لها، وأنزَل براءتها في عشرِ آيات تتلَى على الزمان، فسمَا ذكرُها وعلا شأنها، لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها. فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم".

 

لم تزل ساهِرةً على نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-، تمرِّضُه وتقوم بخدمتِه، حتى توفِّيَ في بيتها وليلَتِها وبين سَحرِها ونحرِها، وقد بقيت معه تسع سنوات وخمسة أشهر.

 

ثم تزوج حفصة بنت عمر -رضي الله عنه وعنها- القوّامة الصوّامة، تزوجها بعد الهجرة بسنتين وأشهر. تزوجها ثيباً بعدما عرضها أبوها على أبي بكر وعثمان وعليّ فلم يستجيبوا، فوعده النبي -صلى الله عليه وسلم- خيراً منهم وتزوجها.

 

نشَأت في بيتِ نُصرةِ الدين وإظهارِ الحق، سَبعةٌ مِن أهلها شهدوا بدرًا، تقول عنها عائشة -رضي الله عنها-: هِي التي كانت تُسامِيني من أزواجِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.

 

ثم تزوج زينب بنت خزيمة الهلالية: المنفقة ذات البذل والمسارعةُ في الخيرات، وكان زوجها الأول عبد الله بن جحش الأسدي المستشهد يوم أُحد، مكثت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- شهرين ثم توفيت.

 

ثم تزوج أم سلمة هند بنت أبي أمية -رضي الله عنها-: الصابرة الحيية، وكانت قبله زوجاً لأبي سلمة الذي جرح في أُحد، وظل جرحه يعاوده حتى مات به، فتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وضم إليه عيالها من أبي سلمة.

 

كانت مِنَ المهاجرات الأُوَل، ولماّ أرادتِ الهجرةَ إلى المدينة مع زوجِها أبي سلمة فرَّقَ قومُها بينها وبين زوجِها وطِفلِها، قالت: فكُنتُ أخرج كلَّ غداة وأجلس بالأبطَح، فما أزال أبكي حتى أُمسِي سنةً كاملة أو قريبًا منها، حتى أشفَقوا عليَّ فأعادوا إليَّ طفلي.

 

يقينُها بالله راسِخ، توفِّيَ عنها زوجها أبو سلمة فقالت دعاءً نبويًّا، فعوَّضها الله برسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوجًا لها، تقول: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما مِن مسلم تصيبُه مصيبةٌ فيقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون اللّهمّ أجُرني في مصيبتي وأخلِف لي خيرًا منها إلا أخلَف الله له خيرًا منها"، قالت: فلمّا مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أوّل بيت هاجر إلى رسول الله؟! ثمّ إني قلتُها فأخلَف لي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم. فاجعَل هذا الدعاءَ يا عبدالله ذُخرًا لك عندَ حلولِ المصاب يعوّضْك خيرًا من مصيبَتِك.

 

ثم تزوج زينب بنت جحش بنت عمته: أم المساكين، تزوجها بعد أن زوّجها لمولاه ومتبناه زيد بن حارثة فلم تستقم حياتهما فطلقها. وكانت جميلة وضيئة، نَعِمت بالحسَب والنّسب والشرف والبَهاء، زوَّجَها الله نبيَّه بنصِّ كتابِه، بلا وليٍّ ولا شاهد، قال عز وجل: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) [الأحزاب: 37].

 

زواجُ النبيِّ بها بركَةٌ على المسلِمات إلى قيامِ الساعة حين فُرِض الحجابُ على بناتِ حوّاء بعد أن تزوَّجها، ليكونَ صِيانة للشّرَف والعفاف والنقاء. كانت سخِيَّة العطاءِ للفقراءِ والضّعفاء، كثيرةُ البرّ والصدقة، ومع شريف مكانتِها وعلوِّ شأنها كانت تعمَل بيدها، تدبَغ وتخرزُ وتتصدَّق من كسبِها، قالت عنها عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيتُ امرأة خيرًا في الدّين من زينب، أتقَى لله وأصدَق حديثًا وأوصَل للرّحم وأعظم صدقة".

 

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: نكمل معكم هذا التاريخ الموجز من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين.

 

وبعد أم المساكين زينب بنت جحش تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها-: العابدة من بني المصطلِق، أبوها سيِّدٌ مطاع في قومه، وهي مبارَكَة في نفسها وعلى أهلها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيتُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومِها منها".

 

كثيرةُ التعبُّد لربِّها، قانتةٌ لمولاها، كانت تجلِس في مصلاَّهَا تذكرُ الله إلى نصفِ النّهار، تقول: أتى عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غُدوة وأنا أسبِّح، ثم انطلَقَ لحاجته، ثمّ رجع قريبًا من نصف النهار، فقال: "أما زِلتِ قاعدة؟" يعني: تذكرِينَ الله، قالت: نعم. (رواه مسلم).

 

تقول عائشة -رضي الله عنها-: "لما قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبايا بني المصطلِق وقعت جويرية بنت الحارث في أسهم الثابت بن قيس بن شماس فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مليحة ملاّحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تستعينه في كتابتها.

 

قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها! وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي صرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس فكاتبته على نفسي، فجئت أستعينك على كتابتي. قال: "فهل لك في خير من ذلك؟" قالت: وما هو يا رسول الله؟. قال: "أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟" قالت: نعم يا رسول الله. قال: "قد فعلت".

 

ثم تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها-: المهاجرة المحتسبة، وكانت مهاجرة مع زوجها إلى بلاد الحبشة، فارتد زوجها عبد الله بن جحش إلى النصرانية وتركها، فخطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمهرها عنه نجاشي الحبشة، وجاءت من هناك إلى المدينة.

 

ليس في أزواجِهِ مَن هي أقربُ نسبًا إليه منها، ولا في نسائِه مَن هي أكثرُ صَداقًا منها، ولا فيمَن تزوَّج بها وهي نائِيَة الدارِ أبعَدَ منها، عقَدَ عليها وهي في الحبَشَة فارّةٌ بدينها، وأصدَقَها عنه صاحِبُ الحبَشَة وجهَّزها إليه.

 

ثم تزوج صفيّة بنت حيَيّ -رضي الله عنها-: تزوجها بعد فتح خيبر، الوجيهةُ مِن ذرّيّة هارونَ عليه السلام، كانت شريفةً عاقلة ذاتَ مكانةٍ ودين وحِلم ووقار، قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لابنةُ نبيّ - أي: هارون -، وإنَّ عمَّك لنبيّ - أي: موسى -، وإنّك لتحتَ نبيّ" (رواه الترمذي).

 

كانت وليمةُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عليها في زواجِها السّمن والأقِط والتمر، فكان زواجًا ميسَّرًا مباركًا.

 

ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية -رضي الله عنها-: واصلة الرحم، من عظماءِ النساء، منحَها الله صفاءَ القلب ونقاء السريرة وملازمةَ العبادةِ، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "أما إنَّها كانت من أتقانَا لله وأوصلِنا للرحم". وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس، وهي آخر من تزوج -صلى الله عليه وسلم-.

 

أيها المسلمون: فتلك سيرةُ الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل، حقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَهنّ نِبراسًا للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرهنّ، ويقتدينَ بهنّ في الدين والخُلق، ومراقبَةِ الله، والانقياد التام لله ورسوله، وملازمةِ العبادة، والإكثار من الطاعات، والصّدق في الحديث، وحفظ اللسان، والبذل للفقراء، وتفريجِ كرُبات الضعفاء، والسعيِ لإصلاح الأبناء، والصّبر على تقويمِ عوَجِهم، والتحصُّن بالعلم، وسؤالِ العلماء الراسخين، وملازمة السّترِ والعفاف، والقرارِ في البيوت والحِجاب، والبعد عن الشبهات والشهوات، والحذَرِ من طول الأمل، والغفلة في الحياة أو الاعتِناء بالظاهِر مع فسادِ الباطن، وإطلاق البصَر في المحرّمات، والخضوع بالقول مع الرجال، وليَحذَرن من الأبواقِ الدّاعية إلى التبرّج والاختلاط بالرّجال، فشموخُ المرأة وعزُّها في دينِها وحِجابها.

 

أيّها المسلمون: زوجاتُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عِشن معه في بَيتٍ متواضِع، في حجراتٍ بنِيت من اللّبِن وسَعَف النخل، ولكنه ملِيء بالإيمان والتقَوى، صبَرن مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- على الفقرِ والجوع، كان يأتي عليهنّ الشهر والشهران وما يوقد في بيوتهنّ نار، وتأتي أيّامٌ وليس في بيوتهنّ سِوى تمرة واحدة، ويمرّ زمنٌ من الدّهر ليس فيها سِوى الماء بدون طَعام، قناعةٌ في العيش وصَبر على موعودِ الله، أجورهنّ مُضاعفة مرتين، (وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) [الأحزاب:31].

 

خمسٌ منهنّ تزوَّجهنّ عليه الصلاة والسلام وأعمارهنّ مِن الأربعين إلى الستّين عامًا، حقَّق بذلك رعايةَ الأراملِ وكفالة صبيانهنّ الأيتام. تزوَّجَ خديجةَ -رضي الله عنها- وعمرها أربعون عامًا ولها ثلاثةُ أولادٍ من غيره، وهو لم يتزوَّج بعد، وتزوَّجَ زينبَ بنت خزيمة وهي أرملةٌ ناهزَت الستّين من عُمرِها، وتزوّج أم سلَمَة وهي أرمَلَة ولها ستّة أولاد، وتزوَّجَ سودَةَ وهي أرملةٌ وعمرها خمسَةٌ وخمسون عامًا.

 

تزوَّج من الأقارب من بناتِ عمّه وعمّاتِه، وتزوّج من الأباعد، وكان لهنّ زوجًا رحيمًا برًّا كريمًا جميلَ العِشرة معهنّ دائمَ البِشر متلطِّفًا معهنّ، فمن طلَب السعادةَ فليجعَل خيرَ البشَر قدوةً له، ولتلحَقِ المسلمة بركابِ زوجاتِه الصالحات، فلا فلاحَ للمرأة إلا بالاقتفاءِ بمآثرهنّ في السترِ والصلاح والتقوى والإحسان إلى الزّوج والولد.

 

اللهم ..

 

 

المرفقات

المؤمنين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات