أمنياتنا بين الحقيقة والسراب

حسان أحمد العماري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ تأملات في الأمنيات والرغبات 2/ معظم أمانينا مرتبطة بمتاع الدنيا وحظوظ النفس وشهواتها 3/ أمنية عُمَريّة فريدة 4/ أمنيات الخداع والسراب 5/ ما الذي نتمناه لأبنائنا؟ 6/ أعظم أمنية هي الجنة 7/ صور من أمنيات الصالحين

اقتباس

إن الإنسان بطبيعته البشرية يتمنى تحقيق رغبات والوصول إلى غايات خلال مسيرة حياته، وكلما تحققت له رغبة أو وصل إلى غاية ظهرت أخرى، ولا تنقضي ولا تنتهي، ويستمر الصراع بين هذه النفس البشرية وبين طموحاتها وأمنياتها وشهواتها.. وتختلف الأمنيات من حيث أهميتها وفضلها وأثرها.. إن الإسلام رغم أنه ترك للإنسان حرية التفكير والأمنيات والوصول إلى تحقيق الرغبات مهما كانت؛ إلا أنه وضَّح الطريق الصحيح التي ينبغي أن يسلكها المرء لتحقيق أمنياته، وربطها بالغايات السامية والقيم النبيلة التي تعمر الدنيا وتبني الآخرة، وينال بها العبد رضوان الله ومغفرته وجنته...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله فاطرِ الأرض والسموات. عالم الأسرار والخفيات. المطلع على الضمائر والنيات.

أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً. وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفَهم ولا يحيطون به علماً. لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار، ولا تتوهّمه الظنون والأفكار. وكل شيء عنده بمقدار، أتقن كلَّ ما صنعه وأحكمه، وأحصى كلَّ شيء وقدره وخلق الإنسان وعلّمه....

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الحق والتزامه.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه، اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه وسلم تسليماً كثيراً .

 

أمَّا بَعْد: عباد الله: إن الإنسان بطبيعته البشرية يتمنى تحقيق رغبات والوصول إلى غايات خلال مسيرة حياته، وكلما تحققت له رغبة أو وصل إلى غاية ظهرت أخرى، ولا تنقضي ولا تنتهي، ويستمر الصراع بين هذه النفس البشرية وبين طموحاتها وأمنياتها وشهواتها؛ فيصل الإنسان إلى تحقيق بعضها أحياناً ويعجز أحياناً.

 

 وقد تختلف هذه الأمنيات من حيث أهميتها وفضلها وأثرها ومن حيث إنها حق أو باطل أو خير أو شر، ولذلك فإن الإسلام رغم أنه ترك للإنسان حرية التفكير والأمنيات والوصول إلى تحقيق الرغبات مهما كانت؛ إلا أنه وضَّح الطريق الصحيح التي ينبغي أن يسلكها المرء لتحقيق أمنياته وربطها بالغايات السامية والقيم النبيلة التي تعمر الدنيا وتبني الآخرة، وينال بها العبد رضوان الله ومغفرته وجنته..

 

فهناك من يتمنى أن يكون غنياً ذا مال لينفق على نفسه وأهله ويؤدي حق الله فيه ويقدم النفع لمن حوله، وهناك من يتمنى أن يكون غنياً ليحقق شهواته ولا يؤدي حق الله فيه، وربما ارتكب بسببه الظلم والعدوان على الناس من حوله، وربما دفعه هذا المال إلى الكبر والشح والغرور، وهكذا في كل الأمنيات والرغبات..

 

 وشتان بين هذا وذاك، والله عز وجل يقول: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء 18-21].

 

وقال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آل عمران 145].. وعن أَبي كَبْشَةَ الأَنْمَارِيّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ" (رواه التِّرمِذي وصححه الألباني 2325)..

 

ولقد وقف الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوماً مع أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ينظر في أمنياتهم فَقَالَ: "لَهُمْ: تَمَنَّوْا؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَمَنَّوْا؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ لُؤْلُؤًا وَجَوْهَرًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَلَكِنِّي أَتَمَنَّى رِجَالًا مِلْءَ هَذِهِ الدَّارِ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ وَمُعَاذ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، أَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَةِ اللهِ.."..

 

إنها أمنيات حقيقية ذات رسالة وهدف مرتبطة بسلوك المسلم، وعقيدته ودينه، ودنياه وآخرته، وأما أمنياتنا اليوم فكثير منها سراب؛ لأنها مرتبطة بمتاع الدنيا وحظوظ النفس وشهواتها.. يتمنى المرء الأموال والعقار والمناصب والأتباع ورغد العيش والأولاد، وهذا من حقه، ولا يحرم الإسلام ذلك لكن يبدأ الانحراف عن طريق الحق والخير والصلاح ويحدث الفساد في الأرض بسبب سوء النية والمقصد وسوء العمل.

 

أيها المؤمنون/ عباد الله: إن الإنسان الذي لا يربط سلوكه وأعماله وأمنياته بما يحبه الله ويرضاه، ويقصد من ذلك إقامة الحق وعمارة الأرض وإصلاح النفس.. الذي لا يعمل ذلك لا يمكن أن تشبع نفسه ولا يمكن أن يجد الراحة حتى وإن وصل إلى مبتغاه ولا يهمه أي طريق يسلك، حق أم باطل، خير أم شر، حلال أم حرام.. فترتكب الآثام وتتضاعف الأوزار ويحرم الأجر ورضا الرب -سبحانه وتعالى-.

 

 ولذلك عندما أعطى الله قارون تلك الأموال والكنوز العظيمة انقسم الناس في أمنياتهم ورغباتهم وهم ينظرون إلى هذه الأموال والكنوز التي تبهر العقول قال تعالى (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ? لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)[القصص79-82].

 

نعم هناك من يتمنى أي متاع في هذه الدنيا، وليس له من الآخرة أي حظ أو نصيب.. يتمنى أن يكون موظفًا أو مديرًا أو وزيرًا أو صاحب جاه ومركز اجتماعي؛ لا ليخدم مجتمعه وأمته، ويساهم في تحسين الأوضاع ومحاربة الفساد، ولكن ليصل من خلال هذه الأمنية إلى مال وفير وبيت ضخم وسيارة فارهة كما يراها فيمن سبقه، ولا غبار عليه إن جاءت هذه الأمور عن طريق الحلال والكد والعمل والإبداع..

 

لقد وجدنا من الآباء من يقول لابنه الموظف الذي يتقي الله في عمله: لماذا لا تكون مثل فلان بن فلان؛ فعنده أرض وبيت ورصيد وسيارة؟! وكيف أنه رجل استطاع أن يدبر أموره ويمشي حاله؟! وأنت لا تملك شيء!! وكأنه يريد منه أن يصل إلى مستواه ولو عن طريق الغش والرشوة والتحايل والتزوير إن أمكن ذلك..

 

هل فكر بمصالح الأمة وبالآخرة وبالجزاء والحساب وبجنة عرضها السموات والأرض وبنار يأكل بعضها بعضاً.. إنها أمنيات سراب يحسبها صاحبها أنها طريق للسعادة والنجاة ويكتشف بعد فوات الأوان أنها سبب للخسارة والخذلان؛ لأن الإيمان ضعف في القلوب فضعفت الهمم والغايات ولا يمكن أن يشبع منها قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ، لاَبْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ" (مسلم: 2379)...  

 

يقول الشاعر: هكذا الدنيا:

صغير ود لو كبرا *** وشيخ ود لو صغرا

وخال يشتهى عملا *** وذو عمل به ضجرا

ورب المال في لعب *** وفى تعب من افتقرا

وهم لو آمنوا *** بالله رزاقا ومقتدرا

لما لاقوا الذي *** لا قوة لا هما ولا كدرا

 

عباد الله: لما جاءت سكرات الموت نبي الله يعقوب -عليه السلام- جمع أولاده فكانت أمنيته أن يرحل من الدنيا وهو مطمئن على إيمانهم وعقيدتهم، قال تعالى (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 133]..

 

وهذا نبي الله إبراهيم وإسماعيل عليها السلام وهما يرفعان قواعد البيت الحرام ماذا كانا يتمنيان قال تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ? إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة/128)..

 

 فهل تمنينا أن يتربى أبنائنا على الإيمان والتقوى والعقيدة الصحيحة وحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبته والمسلمين وحب الخير والمعروف للناس جميعاً.. أم تمنينا أن يصبح طبيبًا بلا إيمان، ومهندسًا بلا أخلاق، وأستاذًا بلا قيم، وموظفًا بلا مسئولية أو مواطنًا بلا مواطنة صالح وحب للوطن والأرض التي ترعرع فيها أو أن يكون ذا مال أو منصب بلا تقوى أو خشية من الله قال تعالى (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [النساء: 132]..

 

وانظروا إلى أمنية امرأة كانت ملكة تعيش في قصور مختلفة، ولديها خدم وأموال وجواهر، وما لا يمكن أن يخطر على بال، وهي زوجة ملك له مملكة مترامية الأطراف، ومع ذلك كله تمنت جوار ربها وطمعت بما عنده من أجر وثواب وتركت سراب الأمنيات الذي يعيشه الكثير من أبناء هذه الأمة رجالاً ونساء.. إنها آسية زوجة فرعون، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم: 11].

 

وهذا عمر بن عبد العزيز الخليفة الذي حكم الدنيا يقول لوزيره رجاء بن حيوة: "يا رجاء إن لي نفساً تواقة؛ تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة، فأرجو أن أدركها؛ إن شاء الله عز وجل" (وفيات الأعيان 2/301).

 

في النهاية ليس هناك أمنية أعظم من الجنة وما يقرب إليها؛ لأن فيها الحياة الأبدية والنعيم المقيم.. كان الربيع بن خثيم قد حفر في داره قبرًا، فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فاضطجع، ومكث ما شاء الله، ثم يقول: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون99-100] يرددها، ثم يرد على نفسه: يا ربيع! قد رجعتَ فاعمل.. وهكذا كانت هذه الأمة عندما قلوبها حية تنبض بالإيمان، وجوارحها تثمر العمل الصالح، وألسنتها تفصح القول السديد، ونفوسها تتوق إلى رضوان الله وجنته..

 

قال إبراهيم بن يزيد العبدي -رحمه الله تعالى-: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نُحدثُ بقربهم عهدًا، فانطلقت معه فأتى المقابر، فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيًا لو مُنِّي؟ -أي: لو قيل له: تمنى-. قلت: أن يُردَّ - والله - إلى الدنيا، فيستمتع من طاعة الله وُيصلح، قال: ها نحن في الدنيا، فلنطع الله ولنصلح، ثم نهض فجدَّ واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات -رحمه الله تعالى-.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها وموالها.. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: ليتمنى المسلم ما شاء في هذه الحياة، ويسعى جادّاً إلى تحقيق هذه الأمنية ببذل الأسباب والتوكل على الله الذي بيده كل شيء، وليكن من أصحاب الهمم العالية، فلا يرغب ولا يطمح إلا إلى عظيم يزكّي به نفسه، ويرفع به شأنه عند ربه، ويذكر بخير في مجتمعه وأمته، وإن طريق ذلك يبدأ من طاعة الله والاستقامة على دينه، والعمل من أجله والثبات عليه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

ولتكن أمنياتنا بعد ذلك تدور حول المال الحلال، والذرية الصالحة، والأسرة الطيبة، والمجتمع الآمن الذي يسود بين أبنائه الأخوة والحب والتعاون، وكذلك الوطن السعيد الذي يتنافس الجميع من أجل تطويره وازدهاره، ويعود لهذه الأمة مجدها وعظمتها، وتتحرر الأراضي المقدسة والمسجد الأقصى، وتتحرر الأمة من التبعية والخضوع والعمالة لغيرها..

 

ولنتذكر جيداً أن المقصر يتأسف على تقصيره في جنب الله -تعالى-, ويتمنى أن يعود إلى الدنيا بعد رحيله عنها ليكون من المحسنين قال تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [الزمر56-58].

 

يتمنى لو عاد إلى الحياة حتى يتصدق، وينفق ماله في سبيل الله –تعالى-، قال سبحانه: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون10-11].

 

فأحسنوا العمل، وأحسنوا الظن بالله، وتوكلوا عليه، واسألوه من فضله، وتمنوا عليه رضاه والجنة، ثبت في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس.. فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن".

 

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك أن نقول زوراً، أو نغشى فجوراً، ونعوذ بك اللَّهُمَّ من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع.. واحفظ اللهم بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل مصيبة وفتنة وبلاء يا أرحم الراحمين..

 

هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

المرفقات

بين الحقيقة والسراب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات