أمطار خير بإذن الله تعالى

الشيخ خالد القرعاوي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ فضائل نعمة الأمطار 2/ بعض السنن النبوية عند نزول الأمطار 3/ تحذيرات مهمة عند هطول الأمطار 4/ وجوب شكر نعمة المطر 5/ رُخص شرعية عند سقوط المطر 6/ السيول ودورها في كشف إهمال الفاسدين.

اقتباس

إنَّنَا لَنَحمَدُ اللهَ ونَشكُرُهُ فَنحنُ في نِعَمٍ زَاخرةٍ وخَيرَاتٍ وَافِرَةٍ، سَمَاؤُنا تُمطِرُ، وشَجَرُنا بِإذْنِ اللهِ يُثمِرُ، وأَرْضُنا تَخْضَرُّ، وآبَارُنا تَمتَلئُ، فَحَمْداً لَكَ يَا رَبُّ، لقد أَنزَلتَ عَلينَا غَيْثَاً مُغِيثَاً، عمَّ الأَرَاضِي رِيِّاً، وَلَمْ تَزلْ بِنا رَءوفَاً حَفِيَّاً، فَأَصبَحنَا وأَمْسَينا مُستبَشِرِينَ وبِرَحمَتِكَ وَرِزقِكَ فَرِحِينَ. لَقَدْ شَهِدْنا هُطُولَ أَمْطَارٍ غَزِيرَةٍ لَمْ نَشْهَدْهَا مُنْذُ أمَدٍ طَوِيلٍ، عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَهَا غَيْثَاً مُغِيثَاً، وَأَنْ يُبَارِكَ فِيهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وأنْ يَقِيَ المُسلِمينَ أخطَارَها! وَهَذِهِ وَقَفَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِالأَمْطَارِ والأخْطَارِ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ للهِ الذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورَاً؛ لِيُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةَ مَيْتَاً وَيُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقَ أَنْعَامَاً وَأَنَاسِيِّ كَثِيرَاً.

 

نَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرَاً، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيراً وَنَذِيرَاً، وَدَاعِيَاً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجَاً مُنٍيرَاً، صَلَّى اللهُ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَإيمَانٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) [النور: 43].

 

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَإِذَا تَأَمَّلْتَ السَّحَابَ الْكَثِيفَ الْمُظْلِمَ كَيْفَ تَرَاهُ يَجْتَمِعُ فِي جَوٍّ صَافٍ لا كُدُورَةَ فِيهِ، وَكَيْفَ يَخْلُقُهُ اللهُ مَتَى شَاءَ وَإِذَا شَاءَ، وَهُوَ مَعَ لِينِهِ وَرَخَاوَتِهِ حَامِلٌ لِلْمَاءِ الثَّقِيلِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ فِي إِرْسَالِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ، فَيُرْسِلَهُ وَيُنْزِلَهُ مِنْهُ مُقَطَّعَاً بِقَطَرَاتٍ مُفَصَّلَةٍ لا تَخْتَلِطُ قَطْرَةٌ مِنْهَا بِأُخْرَى, بَلْ تَنْزِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي الطَّرِيقِ الذِي رُسِمَ لَهَا! قَدْ عُيِّنَتْ كُلُّ قَطْرَةٍ مِنْهَا لَجُزْءِ مِنَ الأَرْضَ لا تَتَعَدَّاهُ. فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا مِنْهَا قَطْرَةً وَاحِدَةً، أَوْ يُحْصُوا عَدَدَ الْقَطْرِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لَعَجَزُوا عَنْهُ، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ يَسُوقُهُ سُبْحَانَهُ رِزْقَاً لِلْعِبَادِ وَالدَّوَابِ وَالطَّيْرِ وَالذَّرِّ وَالنَّمْلِ"! انْتَهَى كَلامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

 

 عبادَ اللهِ: إنَّنَا لَنَحمَدُ اللهَ ونَشكُرُهُ فَنحنُ في نِعَمٍ زَاخرةٍ وخَيرَاتٍ وَافِرَةٍ، سَمَاؤُنا تُمطِرُ، وشَجَرُنا بِإذْنِ اللهِ يُثمِرُ، وأَرْضُنا تَخْضَرُّ، وآبَارُنا تَمتَلئُ، فَحَمْداً لَكَ يَا رَبُّ، لقد أَنزَلتَ عَلينَا غَيْثَاً مُغِيثَاً، عمَّ الأَرَاضِي رِيِّاً، وَلَمْ تَزلْ بِنا رَءوفَاً حَفِيَّاً، فَأَصبَحنَا وأَمْسَينا مُستبَشِرِينَ وبِرَحمَتِكَ وَرِزقِكَ فَرِحِينَ.

 

سُبحَانَ مَن أَنزلَ سَيلاً في البَلَدِ *** فَكيفَ لو صَبَّ جِبَالاً مِن بَرَدٍ

 أَنزَلَهُ رِفْقَاً بِنَا قَطَّارا *** وبعضُهُ سَخَّرَهُ أَنهَارَاً

 

إي واللهِ: لَقَدْ عمَّتِ الفَرحَةُ الصِّغارَ والكِبَارَ، فَخرَجَ النَّاسُ لِمشهَدِ ذَلِكَ الغَيثِ، وتِلْكَ الأَودِيَةِ والشِّعَابِ، فالحَمْدُ لِلَّهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ القَائِلِ فِي كِتَابِهِ المَجِيدِ: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى: 28]، فَسُبحَانَ "مَنْ يَدُهُ مَلأى لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ سَحَّاءُ الَّليلِ والنَّهَارِ".

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ شَهِدْنا هُطُولَ أَمْطَارٍ غَزِيرَةٍ لَمْ نَشْهَدْهَا مُنْذُ أمَدٍ طَوِيلٍ، عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَهَا غَيْثَاً مُغِيثَاً، وَأَنْ يُبَارِكَ فِيهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وأنْ يَقِيَ المُسلِمينَ أخطَارَها!  وَهَذِهِ وَقَفَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِالأَمْطَارِ والأخْطَارِ:

 

الأُولَى: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى السَّحَابَ خَافَ وَارْتَعَبَ حَتَّى يَنْزِلَ الْمَطَرُ فُيُسَرَّى عَنْهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخَافَ ألَّا يَكُونَ عُقُوبَةً. كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤْمِّنني أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟!" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). فَهَلْ نَحْنُ نَخَافُ إِذَا رَأَيْنَاهَا؟ أَمْ قَدْ نُطَارِدُهَا لِنَرَى أَيْنَ تَهْطُلُ؟ لِنَقُومَ بِتَصْوِيرِها! فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ!

 

الْوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ: مَا السُّنَّةُ إِذَا نَزَلَ الْمَطَرُ؟ فالْجَوَابُ: أنْ نَدْعُوَ بِمَا وَرَدَ، فَقَدْ كَانَ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى اَلْمَطَرَ قَالَ: "اَللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَمَعْنَاهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْمَطَرَ يُصِيبُ الْمَكَانَ الْمُنَاسِبَ مِنَ الأَرْضِ وَيَكُونُ نَافِعَاً مُنْبِتَاً.

 

ومِنْ السُّنَّةِ كَذلِكَ أنْ تَقِفَ تَحْتَ الْمَطَرِ وَتَحْسُرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَلابِسِكَ لِيُصِيبَ الْمَطَرُ جَسَدَكَ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ، ولِفِعْلِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- ولِقَولِهِ: "لأَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ" (رَوَاهُ مُسْلِم). وَمَعْنَاهُ: بِتَكْوِينِ رَبِّهِ إِيَّاهُ، فَالْمَطَرُ رَحْمَةٌ وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِخَلْقِ اللهِ –تَعَالَى- لها.

 

ومِنْ السُّـنَّةِ كَذلِكَ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ أَثْنَاءَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَتَسْأَلَهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَإِنَّهُ مَوْضِعُ إِجَابَةٍ.

 

ومِنْ السُّـنَّةِ أَنْ تَقُولَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ. فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَصْبَحَ يُعَلِّقُ نُزُولَ الْمَطَرِ عَلَى الظَّوَاهِرِ الْجَوِّيَّةِ، وَيَتَشَبَّثُ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الأَرْصَادِ فَحَسْبُ، وَيَنْسَى أَنَّ إِنْشَاءَهُ كَانَ بِقُدْرَةِ اللهِ الْعَظِيمِ, وَأَنَّ نُزُولَهُ بِمَشِيئَتِهِ الحَلِيمِ الكَرِيمِ سُبْحَانَهُ!

 

عبادَ اللهِ: أَمَّا وَقْفَتُنَا الأخُرَى فَهِيَ ما قَد يَكُونُ مَعَ الْمَطَرِ مِنْ أَضْرَارٍ تَلحَقُ الزُّرُوعَ وَالْبُيُوتَ؛ بَلْ وَقَد يَحَصَلُ غَرَقٌ وَهَدْمٌ وَخَسَائِرُ، فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَوِّضَ مَنْ أَصَابَتْهُ أَضْرَارٌ خَيرَاً، وَأنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُم.

 

 ثُمَّ اعْلَمُوا يا كِرَامُ أَنَّ مَا بِنَا مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَأنَّ مَا أَصَابَنَا فَبِقدَرِ اللهِ، فَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْمَشِيئَةُ النَّافِذَة، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23]، لا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلا مُعِقّبِ لِحُكْمِهِ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلا مُعْطِي لِمَا مَنَعَ.

 

وَقَدْ كَانَ نَبِيُّنا -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ اللهَ وَإِذَا أَصَابَهُ بَلاءٌ حَمِدَ اللهَ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: "الْحَمْدُ للهِ الذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ". وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: "الْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ" (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَقَالَ الأَلْبَانِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ).

 

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُبَارِكَ لَنَا فِيمَا أَنْزَلَ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ رَحْمَةً لا عَذَابَاً، وَأَنْ يَرْزُقَنَا شُكْرَ نِعْمَتِهِ، أَقُولُ قَوْلِي هذا، وَأَسْتغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِروهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.  

 

 

الخُطبةُ الثانيةُ:

 

 الحمدُ للهِ مُغيثِ المُستَغِيثينَ، ومُسبلِ النِّعمِ على خَلقِهِ أَجمعِينَ، عَظُمَ حِلمُه فَستَرَ، وَبَسطَ يَدَهُ بِالعطَاءِ فَأكثَرَ، نِعَمُه تَترَى، وَفضلُهُ لا يُحصى، نَشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ المُطَّلِعُ على السِّرِّ والنَّجوَى، ونَشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، أَصدَقُ العِبَادِ عِبَادَةً وأحسَنُهم قَصداً، وأَعظَمُهم لِرَبِّهِ خَشيَةً وَتَقوى، صلَّى اللهُ وسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَن سَارَ على نَهجِهم واتَّبعَ طريقَ التَّقْوَى.

 

أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، واعلَمُوا أَنَّ المَاءَ جُندٌ مِنْ جُندِ اللهِ –تَعَالَى-! فَإِمَّا أنْ يَكُونَ رَحمَةً وطَلاًّ، وإمَّا عَذَاباً وَبِيلاً! لمَّا خرجَ رَسُولُ اللهِ بأصحابِهِ إلى مَعرَكَةِ بَدرٍ، استَغَاثَ المؤمنُونَ رَبَّهم فَاسْتَجَابَ لهم! بِأَنْ أَنزَلَ عَلَيهم مَطَرَاً طَهَّرَهُم بِهِ مِن الحَدَثِ والخَبَثِ، وطَهَّرَ قُلُوبَهم من وسَاوِسِ الشَّيطَاِن وَرِجْزِهِ، وَأكثَرَ اللهُ المَطَرَ فِي جِهَةِ الكَافِرِينَ لِيَكُونَ لَهم مَدْحَضَةً ومَهلَكةً، فاللهُ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصرِفُهُ عَمَّن يَشَاءُ!

 

وَهُوَ من جُندِ اللهِ يُسلِّطُهُ على مَن يَشَاءُ، فقد استَمَعَ اللهُ إلى استِغاثَةِ نُوحٍ عليهِ السَّلامُ فَأَجَابَهُ: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)[القمر:11-12]. وبِالمَاءِ عُذَّبَ فِرعَونُ وَقَومُهُ! كَفَانَا اللهُ وإيَّاكم شَرَّ مَا فِي المياهِ من المخاطِرِ والأَضرَارِ.

 

 وقَد كانَ -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتَدَّ المَطَرُ وَخَشِيَ الضَّرَرَ قالَ: "الَّلهمَّ حَوالَينَا ولا علينا، الَّلهمَّ على الآكَامِ والظِّرَابِ وبُطُونِ الأَودِيَةِ ومَنَابِتِ الشَّجَرِ".

 

مَعاشِرَ الكِرَامِ: وعندَ نُزُولِ الأَمطَارِ مَعَ الأَسَفِ الشَّدِيدِ هُناكَ تَهَوُّراتٌ وأَخطارٌ تَقعُ مِن شَبَابِنا، دَافِعُها التَّهوُّرُ وحُبُّ المُغَامَرَةِ, فَبَعضُهم يُغامِرُ بِدُخُولِ سَيَارِاتِهم إلى الشِّعابِ والأَودِيَةِ ممَّا يَنتُجُ عنه خُطورة بَالِغَةٌ، فَكيفَ بِمن يُهملُ الأَطفالَ والنِّساءَ ويَسمَحُ لهم بِذَلِكَ؟! رغمَ التَّحذيراتِ المُتَتَالِيَةِ مِنْ مَرَاكِزِ الدِّفاعِ المَدَنيِّ بِوُجوبِ أَخْذِ الحَيطَةِ والحَذَرِ، والبُعدِ عن مَوَاقِعِ الخَطَرِ! فَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

 

والمطَرُ عبادَ اللهِ: رَحمَةٌ بِالعِبَادِ وَتَخْفِيفٌ عليهم، وَقد ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جمعَ بينَ المغربِ والعِشَاءِ حالَ نُزولِ المَطَرِ، ولكن لا تُقصَرُ الصَّلاةُ لِمَنْ كَانَ مُقِيمَاً، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعلمَ خُطُورةُ التَّساهُلِ والتَّسارُعِ في الجمعِ بينَ الصَّلواتِ، فقد بيَّنَ العُلماءُ أنَّ الجمعَ يكونُ بِوجُودِ مَشقَّةٍ على المُصلينَ، أو وجُودِ وحَلٍ وطِينٍ، أو مَطَرٍ يَهطِلُ أثناءَ الصَّلاةِ يَبُلُّ الثِّيابَ، ويُؤذِي المُصلِّينَ.

 

وَلا يَنْبَغِي لِجَمَاعَةِ مَسْجِدٍ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ خُصُومَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَالْمَوْكُولُ بِتَقِدِيرِ الأَمْرِ هُوَ الإِمَامُ، فَإِذَا لَمْ يَرَ الْجَمْعَ فَلا يَجُوزُ لِجَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ الافْتِيَاتُ عَلَيْهِ وَإِقَامَةُ الصَّلاةِ بِدُونِهِ. فَإِنَّ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ لِلصَّلاةِ التَّالِيَةِ صَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَيُكْتَبُ لَهُمْ أَجْرُ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوهُا لِعُذْرٍ.

 

وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلاةُ وَدَخْلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْجَمَاعَةِ فَلا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ مُنْفَرِدا؛ لَكِنْ لَوْ أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُمُ الصَّلاةُ مَعَ الإِمَامِ كَانُوا جَمَاعَةً فَجَمَعُوا فَلا بَأْسَ.

 

أيُّها المُؤمِنُونَ: عِشْنا هَذِهِ الأيَّامِ أَحدَاثَاً مُؤلِمَةً جَرَّاءِ السُّيُولِ والفَيَضَانَاتِ! فَبُيُوتٌ تَهدَّمَت، وَأَنْفَاقٌ امتَلأت، وَمَرْكَبَاتٌ غَرِقَتْ، وَمَسَاجِدُ تَعَطَّلتْ! وهَذِهِ حَوادِثٌ تَكَرَّرتْ! والنَّاسُ لا زَالتْ تُتَابِعُ الأَخبَارَ! وتَنْتَظِرُ نَتَائِجَ التَّحقِيقَاتِ! ولا غَرَابَةَ فَنَحنُ أُمَّةَ الجَسَدِ الوَاحِدِ! فَمَعَ إدْرَاكِنا لِلأَسبَابِ الشَّرعيةِ كَقولِ البَارِي جَلَّ وعَلا: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، فَإنَّ هُنَاكَ أَسْبَابَاً جَوهَرِيَّةً أَهَمُّهَا تَضييِّعُ الأَمَانَةِ!

 

وأُقسمُ لَكُم بِاللهِ العَظِيمِ أنَّهُ بِسَبِبِ خِيَانَةِ الأَمَانةِ فَقَدْ فُقدَتْ أَرْوَاحٌ وَمُمْتَلَكَاتٌ, وَحَلَّتْ بالنَّاسِ نَكَبَاتٌ! ألمْ يَقُلِ اللهُ تَعَالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27]، وَحِينَ قَالَ -صلى الله عليه وسلم- : "إنَّهُ لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانةَ لَهُ"؛ فإنَّهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُدركُ أنَّ الأَمَانةَ صَمَّامُ أَمَانٍ, وأنَّ الخيانةَ بِئْسَتِ البِطَانَةُ! نَعَمْ آمنَّا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَرَضِينَا بِهِ وَلَكِنْ على كُلِّ غَيُورٍ أنْ يَبحَثَ عَنْ الأَسبَابِ والمُتَسَبِّبِينَ وأَنْ يَسْعَى لِلعَلاجِ!

 

الأَمَانَةُ يَا مُؤمِنُونَ: مَفهُومٌ شَامِلٌ كَامِلٌ! فَالقَاضِي أَمِينٌ، والأَمِيرُ أَمِينٌ، وَرُؤَسَاءُ الدَّوائِرِ وَمُدِيرُوهَا أُمَنَاءُ، فَعَليهم تَقْوى اللهِ وتَحقِيقُ الأَمَانَةِ! قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا جَمَعَ اللهُ بَينَ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ يَومَ القِيَامَةِ يُرفعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِواءٌ يُعرَفُ بِهِ فَيُقَالُ: هَذهِ غَدْرَةُ فُلانٍ, أَلا ولا غَاِدِرَ أَعظَمُ مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ" أي: ليسَ أعظمَ خيانةً من رجلٍ تولَّى أمورَ النَّاس وَمَشارِيْعَهُم وَمَصَالِحَهُم فَخَانَهَا. هِيَ دَعْوَةٌ لاختِيَارِ الأُمنَاءِ الشُّرَفَاءِ: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص: 26].

 

 مِنْ هَذا المَبدَأِ نُنَاشِدُ وُلَاةَ أمْرِنَا بِمُحاسبةِ الْمُقَصِّرِينَ والضَّرْبِ عَلَيهم بِيَدٍ مِنْ حَدِيدٍ, والعَمَلِ الجَادِّ لإصلاحِ الْخَلَلِ, فَالنَّاسُ يَنْتَظِرونَ أَفْعَالاً لا أَقْوَالاً, وَأَعمَالاً لا إِعلامَاً! وَأَنْ يُشكَرَ المُخلِصونَ ويُكَرَّمونَ.

 

لَعلَّ أحدَاثَ الأمطَارِ هَذِهِ تُوقِظُ الضَّمَائِرَ, وَتُخرِجُ الخَبَثَ! وَكَمَا قَالَ إمَامُ الحَرَمِ: "السَّيلُ مَخْلُوقٌ أوضَحُ مِنْ المِجْهَرِ, يَكشِفُ الخَلَلَ, فَلا يُحابِي ولا يَرتَشِيْ. كَأَنَّهُ حَكَمٌ يَقْضِي عَلى عَجَلٍ وَهُوَ الصَّدُوقُ وَعَدْلٌ حِينَ يُحتَكَمُ".

 

أَسْأَلُ اللهَ أَنَّ يَجْعَلَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْمَطَرِ غَيْثَاً مُغِيثَاً، هَنِيئَاً مَرِيئَاً، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ بِهِ الزَّرْعَ وَأَدِرَّ بِهِ الضَّرْعَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ بَلاغَاً لِلْحَاضِرِ وَالْبَادِ، اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. الَّلهمَّ أعنا جَمِيعًا على أداءَ الأَمَانَةِ اللهم إنَّا نَعوذُ بِكَ مِنْ المَكرِ والخِيانَةِ.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِنا دِينِنا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا، وَأَصْلِحْ لِنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشنا وَأَصْلِحْ لِنا آخِرَتنا الَّتِي فِيهَا مَعَادنا، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِنا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. رَبَّنَا آتِنَا فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً, وَفِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً, وَقِنَا عَذَابَ اَلنَّارِ، اَللَّهُمَّ إِنِّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلَاةَ أَمْرِنَا وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، اللَّهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَتَهَمْ عَلَى الحَقِّ يَا رَبَّ العَالَمِينَ فاللهمَّ اجعلنا لِنِعَمِكَ من الشَّاكِرينَ، وَلَكَ من الذَّاكِرينَ، اللهمَّ اجعل مَا أَنزلْتَهُ عَلينا رَحمَةً لَنا وبَلاغَاً إلى حِينٍ، اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عنَّا، لا إلهَ إلاَّ أنتَ سُبحانَكَ إنَّا كُنَّا مِنَ الظَّالِمينَ، (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].

 

 

 

المرفقات

خير بإذن الله تعالى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات