اقتباس
الترف كان ومازال وسيظل أحد أهم أسباب سقوط الأمم والجماعات وانهيار منظومة الأخلاق والقيم الاجتماعية، بغض النظر عن ديانة هذه الأمم والمجتمعات، فالترف داء مهلك للجميع. لذلك فإن الترف إذا تسلل لدعوة ما فإنه يهلكها ويبيدها بالكلية، فالترف من أسباب زوال الدعوات وأفولها؛ لأن انتشار الترف بين مجموعة من الدعاة من غير نكير يؤدي إلى اتساع انتشاره بين فئات أخر، نظراً لحب النفوس لذلك واتخاذ كل فئة لمن قبلها قدوة، مما يؤدي إلى ضعف الأنشطة في البداية نتيجة فتور بعض الدعاة، وبعد ذلك يبدأ تساقط الفاترين مجموعة بعد مجموعة نتيجة الانهماك بزخرف الحياة والتشاغل بزينتها..
الترف داء عضال ومرض مهلك إن استشرى في أمة ذهب بعزمها وأورثها تباطؤاً وخمولاً، هذا هو الترف وما يجره على العامة، لكن كيف هو إن صار علامة على عدد من الصالحين وشارة لبعض الدعاة، هنا يعظم الخطب ويستشرى الفساد، وكلما اتسعت دائرته فيهم واستوعب منهم رهطاً إثر رهط، قل الرجاء في الإصلاح وانقطع حبل الأمل في الفلاح، ليس هذا مبالغة بل هو عين الصواب، وهذا ما خبرته ووقفت عليه من أحوال الأمم وواقع الناس، منذ العصور الغابرة إلى العصر الحاضر.
أولاً: الترف لغة واصطلاحاً:
مفهوم الترف يحتاج إلى ضبط شرعي ولغوي لأن حده قد اختلف فيه الناس كلٌ حسب رؤيته ونظرته للحياة ومتاعها، وذلك بين إفراط وتفريط. فالبعض ضاقت نظرته لمتع الحياة فعدّ أي صورة من صور التمتع بالمباحات نوعاً من الترف المذموم. ويقابله على الجهة الأخرى أقوام اتسعت نظرتهم بحيث اعتبروا الانغماس في المباحات لا يضر مادام صاحبه لم يقارف إثماً أو ينتهك محرماً. وحقيقة الترف لا إلا هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
جاء في لسان العرب: الترف: التنعم، والترفه النعمة: وأترفته النعمة أطغته، والمترف: هو الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش، والمترف: المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها، ورجل مترف: موسع عليه.
وقال الراغب: الترف: التوسع في النعمة. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه، والمترف: المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هلك.
وعليه فإن المراد بالترف هنا: مجاوزة حد الاعتدال بالتنعم وسعة العيش، والتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها توسعًا يلهي عن طاعة الله، ونسيان إدراك الغاية من وجوده في هذه الدنيا. والمراد بالمترفين هم: الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش، وتوسعوا في التنعم بشهوات الدنيا وملذاتها الحريصون على الزيادة في أحوالهم وعوائدهم، حتى وصلوا إلى حد الطغيان وعدم شكر النعم، ونسيان غايتهم التي خلقوا من أجلها.
والدعاة إلى الله جزءٌ من أفراد المجتمع الإسلامي يصيب بعضهم -سواء أكان ذلك في حياتهم الشخصية والاجتماعية أو في البيئة الدعوية التي يعملون من خلالها- ما يوجد في مجتمعاتهم من أمراض وأدواء، ومن ذلك وجود ظاهرة الترف والرفاهية الزائدة في حياة بعضهم، وانشغالهم بذلك عن تربية أنفسهم والقيام بواجبهم تجاه دينهم وأمتهم.
ثانياً: الترف في ميزان الشرع:
ورد ذكر الترف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع كلها في موضع الذم له والتحذير منه، كما ورد العديد من الأحاديث النبوية التي ينهى بعضها عن الترف جملة، وتحذر من تعلق القلب به، وغلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وبعضها الآخر ينهى عن مظهر من مظاهر الترف، ويحث على تركه والانصراف عنه إلى مـا هو خير في الدارين. وبالجملة الترف مذموم كله في الإسلام.
قال تعالى واصفاً الرافضين لرسالات السماء والمؤثرين لاتباع الآباء (وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) [الزخرف: 23] وكما في قوله عن سبب عذاب وشقاء أصحاب الشِّمال (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ*وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ*وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الواقعة: 45: 47].
كما ورد عدد من الأحاديث النبوية تنهى عن الترف وتحذر من تعلق القلب به، ومن غلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وتحث على تركه والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين. فعن عمرو بن عوف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم" رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة" رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
وليس معنى هذه الآثار من القرآن والسنة أن دين الإسلام يدعو إلى الرهبنة والتبتل وقطع الصلة بالكلية بمتع الحياة، ولكن التوسط والقصد في كل الأمور هو شعار الإسلام الأكثر شمولية واتساعاً. فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس" [رواه البيهقي في الشعب وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/359].وقال -صلى الله عليه وسلم- لوالد أبي الأحوص: "فإذا آتاك الله مالاً فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته" [رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/284].
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي" [رواه مسلم 4/2087].
ثالثاً: مظاهر ترف الداعية:
السمات العامة للمترفين تدور في فلك التبذير والإسراف والانغماس في المتع الدنيوية والشهوات الحسية من مأكل ومشرب ومسكن وملبس ومركب وموطئ وهكذا. أما مظاهر الترف عند بعض الدعاة قد تأخذ منحنى آخراً غير ما ذكرناه، ومن أبرزها:
1-الحرص على التأنق الشديد في ملابسه أثناء الخطبة وإلقاء الدرس أو الموعظة، بدعوى أن ذلك أبلغ وأوقع في نفوس السامعين، حتى إن بعض الدعاة يتفنن في توفيق أطقم الملابس، ويحتفظ بالكثير منها، بل ويستحي من الظهور بها عدة مرات، حتى إن بعضهم قد أصبح دولاب ملابسه أضخم وأكبر من دولاب أشهر الممثلين والفنانين. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها" [رواه الترمذي وأحمد وسنده حسن].
والبعض قد يسبل الإزار تحت الكعبين خيلاء إذا كان المقام والموعظة بين يدي الأكابر والأغنياء من رجال الدولة وغيرهم، وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جرَّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه " [رواه أبو داود وإسناده صحيح]. والبعض الآخر ينوِّع من استعمال الملابس حسب أوقات اليوم فللصباح ملابس وللمساء أخرى، حتى كثرت بسبب ذلك الملابس غير المستخدمة وتكدست، وأكثر ما يكون هذا الترف لدى النساء.
2-الحرص على المظهر الخارجي لجسده، حيث يبالغ في العناية بنعومة جسده وطراوته وترهُّل الأطراف ويستكثر من الكماليات ووسائل العناية بالنفس، والإفراط في التدهن والتطيُّب وترجيل الشعر، واستخدام أغلى العطور، وبذل الأموال الطائلة من أجل اقتنائها. وعن عبد الله ابن مغفل -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الترجل إلا غباً" [رواه أبو داود وحسنه العلامة الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة. قال السندي معنى غِبَّاً: أي أن يسرح شعره يوماً ويترك يوماً، والمراد كراهة المداومة على ذلك.
وعن عبد الله بن بريدة: أنَّ رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رحل إلى فضالة بن عبيد -رضي الله عنه وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد ناقة له أي يسقيها مديداً من الماء، فقال: إني لم آتك زائراً، وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجوت أن يكون عندك منه علم، فرآه شعثاً، فقال له: ما لي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟ فقال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، ورآه حافياً فقال: مالي أراك حافياً؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا أن نحتفي أحياناً [أخرجه أحمد وأبو داوود وصححه الألباني في الصحيحة 2/4]. والإرفاه هو كثرة التدهن والتنعم، وقيل التوسع في المشرب والمطعم، أراد -صلى الله عليه وسلم- ترك التنعم والدعة ولين العيش؛ لأنه من زي العجم وأرباب الدنيا.
3 ـ قد يكون الترف في قاعات المحاضرات أو منابر الدعوة في المساجد وغيرها، صورة من صور الترف الخفية، حيث يحرص بعض الدعاة المتلبسين بهذا المرض الخطير على أناقة وفخامة المكان الذي سوف يلقي في درسه أو محاضرته، ويرفض البساطة والعمومية في قاعات درسه. فقد حدثني بعض الثقات عن داعية مشهور كان يقدم حلقات يومية في شهر رمضان الماضي، أنفق على ديكورات الاستديو الذي سجل فيه حلقاته عن الزهد والورع واليقين مبلغاً طائلاً يكفي لإطعام حياً بأكمله طوال شهر رمضان!!
رابعاً: أسباب الوقوع في داء الترف:
1-طول الأمل ونسيان الموت: فالانشغال بمتاع الدنيا وشهواتها ناتج عن طول الأمل ونسيان الإنسان كونه في رحلة إلى الدار الآخرة تكتمل بنزول ملك الموت لقبض الروح، ونظراً لخطورة تلك الغفلة عن ذلك المصير وما تنتجه من ضعف الخوف من الله –تعالى- وقلة الخشية له، وبالتالي عدم المحاسبة للنفس والمراقبة لعملها، قال عز وجل محذراً من ذلك: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3]، وقال -عليه الصلاة والسلام- موصياً ابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وذلك لأن الغريب لا تعلق له ببلد الغربة، ولا تشاغل لديه بملذاتها وملهياتها، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه ، والمسافر لا هم له في الاستكثار من متاع الدنيا أثناء قطعه لمنازل السفر، وإنما يكتفي بتحصيل زاد السفر.
2-عدم موازنة الإنسان بين جوانبه المختلفة: فالانغماس في متع الحياة وزينتها وشهواتها ناتج عن تغليب الإنسان لمتطلبات، جسده من مأكل ومشرب وخلافه، وإغفاله لمتطلبات مهمة أخرى من عقل وروح، وعدم قيامه بالأخذ بالهدي النبوي الرشيد الداعي إلى الموازنة بين تلك الجوانب المختلفة، روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن عمرو حين علم بمغالاته في العبادة: "ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً ". وروى البخاري أيضاً أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
3-حب التقليد أو التأثر بضغوط الواقع: فقد يرغب بعض الدعاة في أن يكون ابن بيئته -كما يقولون- فيرى أنه لابد له من الظهور بالمظهر اللائق به مطعماً ومشرباً ومركباً ومسكناً وخدماً وترفيهاً فيضطر لكي يصل إلى ذلك الهدف إلى تقليد المترفين في بيئته ممن لا خلاق لهم مباهاةً وتفاخراً وحباً في مساواتهم في أحوالهم ومعاشهم، إن لم يصل به الأمر إلى حد الرغبة في التفوق عليهم وتجاوز ما هم فيه من ترف.
وقد يكون الأمر على العكس من ذلك فلا يوجد لدى ذلك الداعية رغبة ذاتية في الترف، لكن أفراد مجتمعه الذي يعيش فيه من أقارب وأصحاب مترفين يدفعونه إلى ذلك دفعاً من خلال المطالبة بإلحاح شديد من قِبَلِ الأهل والأقارب بتوفير وسائل الترف، أو من خلال النقد الجارح واللوم اللاَذعَ من الأصحاب على ما يسمونه بحرمان النفس من خيرات الله ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، بل إن المطالبة واللوم قد يصحبهما سوق العديد من المبررات التي يجدها الداعية تحت ضغط الواقع الشديد مقنعة نوعاً ما فتتغير نظرته شيئاً فشيئاً إلى أن تزول قناعاته السابقة فتتبدل حاله، ويصبح في غالب أمره كسائر أفراد مجتمعه. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" [متفق عليه واللفظ لمسلم]. وقد ندب الله المؤمنين إلى التنافس في أمور الآخرة والمسارعة إلى مغفرته ورضوانه وجنته فقال: (اسْتَبِقُوا الْخَيْرَات) [البقرة: 148] وقال سبحانه: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً مُنْسِياً أو غنى مُطْغِياً أو مرضاً مُفسداً أو هرماً مُفنِداً أو موتاً مجْهِزاً أو الدجال فشرُّ غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر" [رواه الترمذي وهو حديث حسن].
4-ضعف التربية: ويعتبر من أبرز أسباب الترف ضعف التربية وضعف التوجيه الجاد والمناسب للشباب من قبل بعض المربين في كيفية التعامل مع فتنة الحياة الدنيا وزخرفها وما نتج عن ذلك من عدم تربية النشء على الجَلَدَ والخشونة بذريعة الخوف من انفراط اجتماع الطلاب حول المربي والخشية من انصرافهم عنه بالكلية!. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]. وقال عمر -رضي الله عنه-: "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم".
5-كثرة المال ووفرة النعم: فزيادة المال ووجود النعم ووفرتها تكون أحياناً من أكبر دواعي الترف وأسبابه، وذلك لأن المال يعمي ويصم، ويدعو إلى الركون والمتعة والراحة ويدفع صاحبه إلى البذخ والإنفاق في غير حاجة، وقد أوضح الله –تعالى- في كتابه هذه الحقيقة في آيات، منها قوله: (كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتغنى) [العلق:6-7]، ومن أجلى صور الطغيان وأوضحها البطر بالنعمة والإنفاق في غير حاجة ترفاً ومباهاة وحباً للظهور. يقول سبحانه على لسان المترفين الذين أبطرتهم النعمة: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)[سبأ:35]، فكثرة الأموال قادتهم إلى الترف والبطر والكبر، وتلك الأمور جرتهم إلى تكذيب الحق، ورفض قبوله والإذعان له. ويزداد تأثير كثرة المال ووفرة النعم على الإنسان وجره إلى الترف وغاية الرفاهية حين يكون مولوداً في النعم، لم تمر به حالات بؤس، ولم يعرف شدة البلاء ومعاناة الفقر، بل جاءه المال وتوفرت لديه النعم بسهولة ويسر من دون ما كسب أو بذل جهد.
6-الإغراء بالوقوع في الشهوات: فدائما يسعى أعداء الدين من يهود ونصارى وأذنابهم في أوساط المسلمين إلى إلهاء الأمة -وبخاصة الشباب والدعاة- بالشهوات وغمسها بالملذات لتلهو وتعبث حتى لا تفيق على ما يفعلون بها من محاولة طمس عقيدتها، وعدم استعادتها لمكانتها وكرامتها، حيث أغرقوا أسواق المسلمين بوسائل الترف وفنون الملذات، وزينوا ذلك في نفوسهم وبثوا لها الدعايات وأقنعوا الكثيرين بأنها دليل من أدلة الحضارة وعنوان من عناوين التقدم والتميز والرقي في المجتمع.
خامساً: آثار الترف على الدعوة:
الترف كان ومازال وسيظل أحد أهم أسباب سقوط الأمم والجماعات وانهيار منظومة الأخلاق والقيم الاجتماعية، بغض النظر عن ديانة هذه الأمم والمجتمعات، فالترف داء مهلك للجميع. لذلك فإن الترف إذا تسلل لدعوة ما فإنه يهلكها ويبيدها بالكلية، فالترف من أسباب زوال الدعوات وأفولها؛ لأن انتشار الترف بين مجموعة من الدعاة من غير نكير يؤدي إلى اتساع انتشاره بين فئات أخر، نظراً لحب النفوس لذلك واتخاذ كل فئة لمن قبلها قدوة، مما يؤدي إلى ضعف الأنشطة في البداية نتيجة فتور بعض الدعاة، وبعد ذلك يبدأ تساقط الفاترين مجموعة بعد مجموعة نتيجة الانهماك بزخرف الحياة والتشاغل بزينتها.
فالترف يدفع الدعاة إلى عدم نشر الدعوة بقوة وجدية بين كافة فئات المجتمع، كما أنه يؤدي إلى فتور المربين عن ممارسة الأعمال التربوية نظراً لمشقة ذلك على النفس وما تتطلبه العملية التربوية من وقت وجهد وبذل، وذلك ما يعجز عنه المترفون نظراً لعدم تعودهم عليه. فالداعية المترف أقل إفادة للمدعوين من غيره، وذلك لأن انغماسه في النعيم وتحصيل أسبابه مانع له من التزود بالعلم الشرعي، مما يعني اكتفاءه بتقديم ما عنده من معلومات، فإذا انتهت بدأ بتكرارها، وهكذا. كما أن الداعية المصاب بداء الترف أكثر عرضة للفتور والتراجع عما هم عليه من خير ودعوة أمام الفتن التي تلازم عمل الدعاة، والعقبات التي تعترض مسيرة الدعوة، بل إن بعضهم قد يتحول -أمام المغريات والخوف من أفول الترف وانصرام الملذات- إلى الوقوف في وجه الدعوة، وكيل التهم لها، وإثارة الشُبَه حولها، ومحاولة الوقيعة بين حَمَلتها، وهو أمر مشاهد تأسى له قلوب المؤمنين.
وأخيراً:
يجب على الداعية المترف أن ينظر في مدى الخسارة التي يجنيها نتيجة الاشتغال بمظاهر الترف، ومن تلك الخسائر على سبيل المثال: ذهاب أمواله سدى، وكون الوقت الذي يفنى في ذلك غير نافع له في الآخرة مع أنه يدنو بصاحبه من الآخرة، وضعف محبة العبد لربه؛ لأن اشتغاله بملذات الدنيا وشهواتها يؤدي به إلى حبها حباً يصد عن الطاعة، ومثل ذلك مُضعف لحب العبد لربه، قال ابن القيم -رحمه الله-: "لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة".
فالترف مما لا يليق بالدعاة أبداً، وأن اللائق بهم هو إيثار العمل بدين الله والدعوة إليه والذود عنه؛ لأن ما عند الله خير وأبقى، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه؛ قال الله –تعالى- في الحديث القدسي: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال ابن القيم: "قال لي شيخ الإسلام -في شيء من المباح-: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة، ثم يقول: فالعارف يترك كثيراً من المباح إبقاءً على صيانته ولاسيما إذا كان ذلك المباح برزخاً بين الحلال والحرام، وقال -رحمه الله- في الفوائد: "من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم