اقتباس
ومن هنا نعلم مدى الأهواء التي تحصل في نفوس بعض الناس ممن يتعلقون بأشخاص ويعجبون بهم ويقلدونهم وتتجمد أفكارهم وعقولهم أمام كل ما ينطق به هذا الشخص حتى ربما يحصل في نفوس بعضهم هاجس بأن كل ما ينطق به هذا الشخص أو يراه أو يتوقعه فهو الصواب الذي لا يصح لأحد أن يناقش فيه أو يعترض عليه، والمقصود بهذا كله ما يحصل من الآراء والاجتهادات في المسائل التي ليس عليها دليل صحيح صريح من الشرع، أما ما كان ظاهرًا وليس للاجتهاد فيه مجال فليس مقصودًا بالكلام هنا .فمن جعل معيار الحق والموالاة موقوفًا على موافقته في آرائه واجتهاداته دون برهان مبين، ومعيار الباطل والمعاداة على من خالفه في آرائه وتوجهاته - كان من أهل الأهواء.
تكلمنا في الجزء الأول من هذا المرض الخطير عن تعريف الهوى لغةً واصطلاحاً، وموقف الشرع الحكيم من الهوى، باستعراض نصوص الوحي فيه، وكلام أهل العلم عليها، ثم تكلمنا عن أهم الأسباب الدافعة للوقوع في الهوى، وفي هذا الجزء سوف نتكلم عن أهم المظاهر الدالة على وقوع المرء في آفة الهوى، وعن الأخطار والآثار السيئة لهذا المرض الذي قلّ من سلم منه، مع عرض لروشتة علاج مقترحة من خلاصة تجارب أهل العلم وأقوالهم النفيسة، وآرائهم النفيسة.
رابعاً: مظاهر اتباع الهوى:
إن اتباع الهوى غالباً ما يكون فيه غموض وخفاء، ولذا قد لا يتنبه ولا يدرك المتبع لهواه أنه يفعل ما يفعل أو يقول ما يقول اتباعًا لهواه، وقد لا يشعر الآخرون -أيضًا- أن هذا الشخص يمارس بعض الأشياء اتباعًا لهواه، بل يظنون فيما يصدر منه أن فيه تحريًا للصدق والعدل والحق، وفي الحقيقة فإن هذا الأمر دقيق جدًا، فقد يعمل داعيةً عملاً أو يقول قولاً لهوى في نفسه، ويعمل داعيةً آخر العمل نفسه، أو يقول القول نفسه لا لهوى في نفسه، وإنما نصرة للحق، فيصعب التفريق بين الشخصين ومعرفة الدافع لكل منهما، وإنما يعرف حقيقة ذلك الشخص نفسه عند التجرد، وقد يدركه بعض الناس لأمارات تظهر على القول أو الفعل وقرائن تحف بهما وبصاحبهما، وعلى كل حال يمكن ذكر بعض المظاهر التي يمكن أن يستدل بها على أن من صدرت منه متبع لهواه، فمن ذلك:
أولاً: تعليق الولاء والبراء بما لم يعلقه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، كأن يجعل الشخص ولاءه على من يوافقه في آرائه أو أقوال شيخه، وعلى من ينتصر لأقوال طائفته وتوجهات أصحابه أو أهل بلده وجماعته انتصارًا مطلقًا دون نظر ولا تمحيص ولا اعتراض، ويجعل عداءه لمن يخالف ذلك أو ينصب للناس مقالة أو يرفع شعارًا يوالي ويعادي عليه دون حجة شرعية فهذا من اتباع الهوى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله– في مجموع الفتاوى: "ومن نصب شخصًا كائنًا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) [الأنعام: 159]، وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل اتباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به فهذا زاجر. وكمائن القلوب تظهر عند المحن، وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها؛ لكونها قول أصحابه ولا يناجز عليها بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله أو أخبر الله به ورسوله؛ لكون ذلك طاعة الله ورسوله"، وقال في موطن آخر:" ولهذا تجد قومًا كثيرين يحبون قومًا ويبغضون قومًا لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها، أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلاً صحيحًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها"، وقال في موطن آخر: "وليس لأحد أن ينصب للعامة شخصًا يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون".
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله– في جامع العلوم والحكم: " ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورًا وقد لا يكون معذورًا، بل يكوم متبعًا لهواه، مقصرًا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرًا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعًا، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه، فهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه، خشية أن يقع فيما نهي عنه عن البغض المحرم ".
ومن هنا نعلم مدى الأهواء التي تحصل في نفوس بعض الناس ممن يتعلقون بأشخاص ويعجبون بهم ويقلدونهم وتتجمد أفكارهم وعقولهم أمام كل ما ينطق به هذا الشخص حتى ربما يحصل في نفوس بعضهم هاجس بأن كل ما ينطق به هذا الشخص أو يراه أو يتوقعه فهو الصواب الذي لا يصح لأحد أن يناقش فيه أو يعترض عليه، والمقصود بهذا كله ما يحصل من الآراء والاجتهادات في المسائل التي ليس عليها دليل صحيح صريح من الشرع، أما ما كان ظاهرًا وليس للاجتهاد فيه مجال فليس مقصودًا بالكلام هنا .فمن جعل معيار الحق والموالاة موقوفًا على موافقته في آرائه واجتهاداته دون برهان مبين، ومعيار الباطل والمعاداة على من خالفه في آرائه وتوجهاته - كان من أهل الأهواء.
ثانياً: الاضطراب والتناقض في المواقف والآراء والأحكام، فصاحب الهوى قد يعيب أمرًا ثم يفعله، وقد ينتقص عملاً أو مشروعًا، ثم يشيد به ويشارك فيه، وقد يسفه رأيًا لأن قائله فلان من الناس، فإذا قال به شخص يعظمه عاد إلى تمجيد ذلك الرأي الذي سفهه وقد يذم شخصًا ثم يمدحه أو العكس دون مسوغ صحيح لمدحه أو ذمه، فيكون ميزان قبوله ورده للأشياء والأقوال ومدار مواقفه وتوجهاته أهواء النفس فحسب فيقع في اضطراب كبير وتناقض كثير وفساد في الرأي ، ولهذا حذرنا ربنا –سبحانه وتعالى– من طاعة صاحب الهوى؛ لأن أمره لا يؤول إلى رشد وسداد أبدًا، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )[الكهف: 28].
وقال شيخ الإسلام في (منهاج السنة): "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه". ومن مظاهر التناقض والاضطراب وفساد الموازين لدى صاحب الهوى أن يتحاشى أمورًا ويشدد فيها ثم يفعل ما هو أكبر منها ويتساهل فيها، وما ذاك إلا لغلبة الجهل واستيلاء الهوى. قال ابن الجوزي –رحمه الله– في صيد الخاطر: "رأيت كثيرًا من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ولا يتحاشون من الغيبة، ويكثرون من الصدقة، ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت في أشياء يطول عدها من حفظ فروع وتضييع أصول، فبحثت عن سبب ذلك فوجدته من شيئين: أحدهما : العادة، والثاني: غلبة الهوى في تحصل المطلوب، فإنه قد يغلب فلا يترك سمعًا ولا بصرًا".
ثالثاً: تتبع السقطات والأخطاء في زلات الكلم وسبق القلم وفلتات اللسان وعثرات الأفكار، دون قصد النصيحة أو التألم لحصول ذلك في الأمة، وضلال أخيه عن الصواب، بل إن صاحب الهوى قد يفرح بوقوفه على خطأ أخيه وقرينه؛ ليتخذ من ذلك ذريعة للحط من قدره والتشهير بعثرته وفي المقابل يحصل له –أي لصاحب الهوى– رفعة وشهرة في ظنه. وقد لا يفكر في الاعتذار لأخيه أو تلمس المعاذير له أو التلطف في نصحه وبيان عيبه والستر عليه؛ لأن الدافع له أصلاً ليس الرغبة في الخير وهداية الضال بل لغرض في نفسه من الأهواء والأغراض الخسيسة.
وهناك أناس كأنهم نذروا أنفسهم لاتباع سقطات الآخرين ويعدون هذا دفاعاً عن الحق وربما أحياناً دفاعاً عن الأمة فيأتون إلى هذا الشخص أو الشيخ أو الداعية أو غيره فيتتبعون أخطاءهم أو سقطاتهم ويقولون هؤلاء أخطأوا في الشيء الفلاني وهذا فعل...وهذا فعل...فبعضهم يقضون أوقاتاً ليست باليسيرة؛ لتتبع سقطات الآخرين، وإن كان هذا التتبع نقداً بناءً ليستفاد منه. وقد أحسن ابن القيم –رحمه الله- في وصف من هذا طبعه حيث قال: "ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمّه وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقلها".
رابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الهوى، في أن ينكر بعض المنكرات وينهى عنها لهوى في نفسه لا لكونه منكرًا فحسب، وهذا يظهر من خلال عدة صور منها: أن ينكر منكرًا ويقع فيه أو في شر منه، وقد ينكر أمرًا ويتجاوز في إنكاره الحد الشرعي، وقد ينكر أمرًا ويترك أمرًا آخر أولى بالإنكار دون مسوغ شرعي بل لمجرد الهوى. وقد ينكر منكرًا لكون الواقع فيه شخصٌ لا يحبه ويترك الإنكار إذا وقع فيه من يحبه، وقد يكون الدافع للإنكار الانتصار للنفس أو للطائفة والمذهب والقبيلة أو لحصول الشهرة أو لشجاعة في الطبع دون إخلاص النية لله -تعالى-. قال شيخ الإسلام عن صاحب الهوى الذي يغضب ويرضى لهواه : "ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وهو الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء؛ ليعظم هو ويثني عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعًا، أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله ولم يكن مجاهدًا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعى الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة". وقال في موطن آخر: "وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكارًا منهيًا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر. وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا، إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر".
والناس هنا ثلاثة أقسام:
قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطى أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه.
وقوم يقومون ديانة صحيحة: يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا، وقليل ما هم.
وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة. انتهى كلامه -رحمه الله-.
خامساً: عدم الإنصاف، والتحامل على المخالف، والتشنيع عليه بما يخرج عن الحد الشرعي ويوقع في البغي والعدوان، وهذا التحامل والتشنيع قد يكون في أمور مختلقة لا أساس لها من الصحة، لكنها وافقت هوى في نفس المتحامل فأخذ يلوكها ويشيعها. وقد يكون لها أو لبعضها أساس من الصحة لكن زيد فيها أو نُقص منها وفسرت بتفسيرات لم تخطر في بال قائلها أو فاعلها، وقد يحكم عليه بلوازم لا تلزم أو لا يلتزمها، وقد تكون هذه الأمور التي شُنَّع بها صحيحة النسبة لمن قالها أو فعلها لكن له فيها اجتهاد وهو مستند فيها إلى أدلة ربما تكون مساوية لأدلة من خالفه فيها، وقد تكون تلك الأمور التي شُنَّع به على المخالف خطؤها ظاهر وفاعلها مستحق للإنكار، لكن يقع الناقد لها والمشنع على فاعلها في أمور تخرجه عن سمت العدل والإنصاف، وتوقعه في الظلم والاعتداء وذلك بتجاوزه في النقد والإنكار إلى حد يغمط فيه كل فضيلة للمخالف ويجحدها، ويتبرأ منه، ويناصبه العداء وقد يكون هذا المخالف من أولياء الله، وله حسنات تغمر ما حصل منه من خطأ أو زلة عابرة قد يكون لم يتقصدها، ولم يرفع بها لواء، ولم يدع إليها، لكن عين صاحب الهوى وقعت عليها، فتلقفها وخاض فيها،ويتجاوز في ذمه وبغضه، وينسى حكمة الدعوة إلى الله، ويترك سنة النصيحة سرًا، التي هي خير للناصح والمنصوح فهي خير للناصح من حيث كونها أدعى إلى الإخلاص والبعد عن الرياء وحظوظ النفس، وهي خير للمنصوح من جهة أنها أقرب إلى القبول، وأبعد عن العزة التي تأخذ صاحبها بالإثم وتجعله يجحد ما مع الناصح من الحق ويستكبر عن الاعتراف بالخطأ. وقد حذر شيخ الإسلام –رحمه الله– في معرض ذكره لفوائد قوله تعالى: "عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" [المائدة: 105] حذر من التعدي والتجاوز في عقوبة أشخاص مرتكبين لأمور متفق على إنكارها فقال: "ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم، فإن كثيرًا من الآمرين الناهين قد يعتدي حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين ".
وقد تصل الحال بصاحب الهوى إلى أن يرد ما مع المخالف من الحق ويستكبر عن اتباعه والخضوع له، بل قد يفسر ما يفعله المخالف من الأعمال الصالحة بتفسيرات وتأويلات بعيدة ويحكم على النيات والمقاصد بأحكام قاطعة. قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [آل عمران: 19]، وذكر غيرها من الآيات في هذا المعنى قال: "فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات فاختلفوا للبغي والظلم لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم وهذا حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض، ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغي على الآخر، فيكذب بما معه من الحق مع علمه أنه حق ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم أنه باطل ". والواجب قبول الحق ممن جاء به كائنًا من كان.
سادساً: المبالغة في المدح أو الذم، فإذا أحب طائفة أو شخصًا غلا في حبه وتجاوز في مدحه حتى يثنى عليه بما ليس فيه، بل تعود مَسَاوئُه محاسنَ في نظر الهاوي ويجعله في مقام العصمة أو قريبًا منها، ولا يتقبل أي قدح فيه ولا بيان أي خطأ حصل منه وإن كان ظاهرًا ظهور الشمس في رابعة النهار ويبدأ يتأول أقواله ويفسر أفعاله بما لا يدل عليه سياق الكلام ولا ظاهر الحال فلا يكون حبه لمن أحب خالصًا لله، ولا تكون متابعته لمن تابعه لمعرفة الحق وسلوكه بل لهوى في نفسه، وفي المقابل فإن صاحب الهوى إذا أبغض جماعة أو مذهبًا أو أهل بلد أو شخصًا فإنه يبغي في بغضه ويقذع ويتعدى في ذمه بالاستطالة في قوله أو فعله حتى ربما ينسى أو يتناسى كل خير وفضيلة لمن أبغضه بل ربما عادت محاسنه مساوئَ في نظر صاحب الهوى ويرد ما معه من الحق، فيخرج عن حد الشرع في ذلك وتختل عنده الموازين حتى ربما يحب المذموم ويكره المحمود شرعًا، ويخرج عن الصراط المستقيم ومنهج أهل العدل والإيمان. قال شيخ الإسلام: "وأمام من أحب شخصًا لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه أو لحاجة يقوم لها بها، أو لمال يتأكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان، وما أكثر من يدعي حب مشايخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله، وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسبيل الله، وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله".
سابعاً:كثرة التفرق والاختلاف وتعدد الطوائف والأحزاب وتناحرها، وطعن كل فريق في الآخر والزعم بأن الحق كله معه والباطل كله مع من خالفه ونحو ذلك. فهذا كله لا شك أنه ليس من دين الإسلام في شيء قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام:159]، وقال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ*وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ*ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [الجاثية:16-20]. قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر هذه الآيات: "فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات، فاختلفوا للبغي والظلم، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم، وهذا حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم، لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم، فيبغي بعضهم على بعض ".
ثامناً: الجدل بالباطل وعدم الاعتراف بالخطأ ومحاولة إيجاد الأعذار الوهمية والكاذبة للنفس والتسويغ للتقصير، واستبدال المناقشة الهادئة المبنية على الأدلة والبراهين وتفهم الرأي الآخر، استبدال ذلك برفع الأصوات وتسفيه وتحقير الطرف الآخر والتعالم عليه، ومن استحكم في نفسه اتباع الهوى قد يعلم في قرارة نفسه أن الحق مع خصمه، وأنه في جدله هذا إنما يحاول إلباس نفسه ألبسة الزور وذر الرماد في العيون والظهور بمظهر العصمة من الخطأ، وادعاء الصواب والرشد في كل أقواله وأفعاله بل وفي توقعاته وظنونه، فهذه كلها دليل على أن صاحبها متبع لهواه معجب بقوله غير مخلص في مجادلته. ومن أخطر الأمور أن يضفي على باطله صفة الحق، وأن يستدل لأخطائه وتقصيره بما لا يدل على ذلك من النصوص الشرعية ويضعها في غير موضعها. فصاحب الهوى معجب برأيه ولذا تجده ينفذ ويمضي كل ما يخطر بباله وما تهواه نفسه دون أن يسترشد بآراء الآخرين أو يستشيرهم، وإن استشار فإنما يستشير من يغلب على ظنه أنه يوافقه في هواه، أو يستشير في أشياء تافهة ليست ذات بال.
تاسعاً: اختراع العيوب والعراقيل أمام الأعمال التي لا تهواها نفسه، فقد يصور أمرًا ما بصورة المستحيل ويوهم وجود العقبات والصعوبات أمام القيام به وفعله ، لكن لو وافق هذا الأمر هوى في نفسه فإن كل ما صوره من العقبات والصعوبات يتلاشى ويزول ويذهب أدراج الرياح وتجد هذا الهاوي يقوم بهذا العمل خير قيام متناسبًا أوهامه وأهواءه السابقة وقد يقلل صاحب الهوى من شأن عمل ما لأنه لا يرغب فيه أو لا تهواه نفسه أو لأنه يكلفه، رغم قناعته الداخلية بأهميته وثمرته وجدواه لكنك تجده في وقت أو موقف آخر ينتصر لهذا العمل نفسه ويعلي من شأنه ويحاول إقناع الناس به ويسفه من ينتقصه وما ذاك إلا لأنه وافق هوى في نفسه أو وجد مصلحة شخصية من ورائه دون وزن مواقفه هذه بميزان الشرع.
خامساً: اتباع الهوى آثار وأخطار:
ولاتباع الهوى آثار ضارة، وعواقب مهلكة، سواء كانت على العاملين أو على العمل الإسلامي، من أبرزها:
أولاً: فساد الأمور وبوارها، قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون:71]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله -عز وجل-، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، أي لفساد أهوائهم واختلافها". وقال سيد قطب -رحمه الله-: "فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة، وبالحق الواحد يدبر الكون كله، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة، ولو خضع الكون للأهواء العارضة، والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس، وتأرجحت كلها بين الغضب والرضا، والكره والبغض، وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد، على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد للرغبة والرهبة، والنشاط والخمول".
ثانياً: الاختلاف المذموم بين المسلمين، قال الإمام الشاطبي: "كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء، ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتفسير الآية، وهي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً) [الأنعام:159]. فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103]، فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين". قال الإمام ابن بطة: "أعاذنا الله وإياكم من الآراء المخترعة والأهواء المتبعة والمذاهب المبتدعة، فإن أهلها خرجوا عن اجتماع إلى شتات وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن ائتلاف إلى اختلاف، وعن محبة إلى بغضة، وعن نصيحة وموالاة إلى غش ومعاداة، وعصمنا وإياكم من الانتماء إلى كل اسم خالف الإسلام والسنة".
ومن نظر في كثير من الخلافات بين الجماعات والأفراد، سواء كان ذلك في مسائل العلم أو في مجال التوجيه والعمل، وجد ظاهرها في طلب العدل والإنصاف، أو الصواب وترك الانحراف، وحقيقتها حب عبادة النفس واتباع الهوى، أو أغراض سيئة دنيئة، وقد علم أن الهوى يعمي ويصم ويضل عن سبيل الله، وقد ترجع إلى أمور شخصية أو تطلعات معينة دنيئة، وإن غلفت بالغيرة على الدين وإرادة إظهار الحق، والواقع خلاف ذلك كله.
ثالثاً: مرض القلب ثم قسوته وموته، ذلك أن صاحب الهوى غارق من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه في المعاصي و السيئات، وهذه بدورها لها آثار خطيرة على القلب، إذ أنها تنتهي به إلى المرض ثم القسوة أو الموت، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت، حتى يعلو قلبه ذاك الرين الذي ذكره الله -عز وجل- في القرآن: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [النبأ:14]، وإذا مات القلب وهو لب الإنسان وجوهره، فماذا بقى لهذا الإنسان؟!! إنه لا يبقى له سوى الشحم و اللحم، أو بالأحرى الجانب الطيني وهو جانب حقير لا قيمة له في ميزان الله، وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
رابعاً: فساد الرأي والفكر والوقوع في التناقض، ولهذا حذرنا –سبحانه وتعالى– من طاعة صاحب الهوى؛ لأنه يتكلم بغير هدى ويقع في الغفلة والعمى، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28]، ولأنه لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما وافق هواه ولهذا ورد في الحديث الذي رواه حذيفة، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والأخر أسود مُربادًّا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه" (رواه مسلم) .
خامساً: أنه يورث الكبر والعجب فيزري بصاحبه أمام الآخرين، لاسيما أهل الصدق والعدل، ويكون مستثقلاً عندهم ممقوتًا في نفوسهم لما يرونه فيه من المخالفة للحق والتكبر عن اتباعه وإعجاب صاحبه برأيه وهواه.
سادساً: الابتداع في دين الله، وذلك أن صاحب الهوى يميل كغيره من البشر إلى إثبات ذاته ووجوده وهو لا يرضى منهج الله طريقاً؛ لتحقيق هذا الميل، فلم يبق إلا أن يبتدع منهاجاً يوافق هواه وشهواته، يقول حماد بن سلمة –رحمه الله-: "حدثني شيخ لهم تاب -يعنى الرافضة– قال: "كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً جعلناه حديثاً" والابتداع هو الضلال وكل ضلال في النار كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ".
سابعاً: أنه موجب للعقوبة من الله؛ لأنه يؤدي بصاحبه إلى تزيين الباطل والزهد في الحق وتأليه الهوى فيطبع على قلبه ويختم على سمعه، ويجعل على بصره غشاوة، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:23]، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص:50].
ثامناً: أنه يورث الكبر والعجب، فيزري بصاحبه أمام الآخرين، لاسيما أهل الصدق والعدل، ويكون مستثقلاً عندهم ممقوتًا في نفوسهم لما يرونه فيه من المخالفة للحق والتكبر عن اتباعه وإعجاب صاحبه برأيه وهواه. وهذا الكبر يصد عن قبول الحق واتباعه، ويزين الباطل ويقلبه في صورة الحق، بل ربما صار صاحبه منافحًا عن الباطل مضادًا للصواب من حيث يشعر أو لا يشعر. قال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: "إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: طول الأمل، واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق". وقال شيخ الإسلام: "وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله".
تاسعاً: تفريق أو تمزيق وحدة الصف، وذلك أن صف العمل الإسلامي إذا اشتمل على أصحاب الأهواء، فإنهم ينتهون به إلى التمزيق والفرقة، نظراً لضعف أو تلاشي مبدأ الطاعة عندهم، وحين تقع هذه الفرقة أو هذا التمزق، فقد صار العمل الإسلامي لقمة سائغة في فم الأعداء.
عاشراً: الحرمان من العون والتأييد الإلهي، ذلك أن سنة الله في خلقه مضت أنه لا يمنحهم العون أو التأييد إلا إذا كانوا أهلاً لذلك، حتى إذا مكَّن لهم يكونون كما قال سبحانه: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41]. فإن صاحب الهوى بمعصيته لربه ولرسوله ولإمارة المسلمين، يكون سبباً في حجب هذا العون وذلك التأييد الإلهي للعمل الإسلامي.
وما زالت وصايا عمر لأمراء الجيوش الإسلامية وجندها، إبان الفتوحات الإسلامية ترن في الآذان، إذ قال لسعد بن أبي وقاص حين أمَّره على العراق: "يا سعد بن وهيب لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه الأمر، هذه عظتي إياك، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من الخاسرين".
كما كتب إليه ومن معه من الأجناد :" أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم يكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل -لما عملوا بمساخط الله- كفار المجوس فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم، واسألوا الله –تعالى- ذلك لنا ولكم".
-----
1-آفات على الطريق / الدكتور سيد نوح رحمه الله
2-ذم الهوى / لابن الجوزي
3-اتباع الهوى / سليمان صالح الغصن
4-اتباع الهوى / الدكتور إبراهيم الزهراني
5-الهوى وأثره في الخلاف / الشيخ عبد الله الغنيمان
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم