عناصر الخطبة
1/ حقيقة التقوى 2/ الجوارح مرآة القلب 3/ أمراض القلوباقتباس
إذا كان فسادُ الظاهر مرتبطاً بفساد الباطن، وتَرجُماناً له، فإن تقوى الله وخشيتَه في القلوب تنقُص بقدر ما يأتي المرءُ من المعاصي، ولا يُسرف أحدٌ على نفسه بالمعاصي إلا بسبب ضعفِ تقوى قلبِه وخشيته لربه، ولو خشي قلبُه لخشيَت جوارحه، ولأمسكت عن كبائر الإثم والفواحش.
أيها الأحبة في الله: في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألَا وهي القلب.
تلك حقيقةٌ قرَّرها الوحي، خرجت من مِشكاة النبوة على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيها تبيانٌ بأن منشأَ الطاعة والمعصية في القلب، فالجوارح لا تعمل إلا بإرادة القلب، فهي منه بمنزلة الجنود للملك، تطيع بإرادته، وتعصي بإرادته كذلك، وما أفعال الجوارح إلا مرآةٌ لأفعال القلوب.
فمحالٌ أن تصلح الجوارح والقلبُ فاسدٌ، ومحالٌ كذلك أن تفسدَ الجوارح والقلبُ صالح. من المغالطة إذاً أن يدَّعِي أحدٌ صلاح قلبه وهو لا يزال صريعَ الكبائر والفواحش، إذا قيل له اتَّقِ الله اخذَتْه العزّة بالإثم. قال -صلى الله عليه وسلم-: "التقوى ها هنا". وأشار إلى صدره.
هذه المغالطة سببها الهوى وليس الجهل؛ لأن ارتباطَ سلوكِ الجوارح بالقلب صلاحاً وفساداً شعورٌ يحسه الإنسان في نفسه بداهة.
ولقد وصف الله المتقين بصفات كثيرة أكثرها متعلق بصلاح ظاهرهم وسلوكهم، فهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، واذا وقعوا في كبيرة لم يصرُّوا عليها؛ وكلُّ ذلك لأنهم يتقون الله سبحانه.
فلم تكن التقوى مجردَ شعورٍ مستتِرٍ في القلب لا أثر له في السلوك؛ ولكنه شعور حيٌّ تنبعث منه أعمال صالحة في الظاهر.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الأحزاب:70-71]. وفي هذه الآية دلالة ظاهرة على أن صلاح الظاهر مرتبط بصلاح الباطن، فمن حقّق تقوى الله في قلبه أصلحَ له عمله وسلوكه.
ومن الشواهد على أن أعمال الجوارح تدل على تقوى القلوب قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]، فبيَّن أن تعظيم الشعائر من الهدي والمناسك محسوب من تقوى القلوب، وفيه دلالة على أن الأعمال الظاهرة تدل على الأعمال الباطنة من تقوى القلب، وصلاحه، وخشيته.
ومن الأدلة -كذلك- قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات:3]، فقرر أن غضَّهم لأصواتهم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توقيراً له دليلٌ على تقوى قلوبهم.
ولو كان سلوكُ الجوارح لا يتمثّل ما في القلب من صلاح أو فساد لما اعتبرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إن الله لا ينظر إلى صُوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
قال ابن عمر: لا يبلغ المسلم حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في صدره. وحقيقة التقوى هذه تكشف لنا جلياً حقيقة هذا الدين، الذي لا تنفصل فيه الشعائر التعبدية عن المشاعر القلبية.
إذا كان فسادُ الظاهر مرتبطاً بفساد الباطن، وتَرجُماناً له، فإن تقوى الله وخشيتَه في القلوب تنقُص بقدر ما يأتي المرءُ من المعاصي، ولا يُسرف أحدٌ على نفسه بالمعاصي إلا بسبب ضعفِ تقوى قلبِه وخشيته لربه، ولو خشي قلبُه لخشيَت جوارحه، ولأمسكت عن كبائر الإثم والفواحش.
أيها الأحبة في الله: إذا تقرّر أن صلاحَ الباطن لا بد وأن يتبعه صلاح في الظاهر، فيجب أن يتقرر مع ذلك مسألةٌ أخرى في غاية الأهمية، وهي أن الاشتغال باجتناب المعاصي الظاهرة المتعلقة بأعمال الجوارح ينبغي ألا يطغى على الاشتغال بمعالجة القلوب من أدوائها، فإن في القلوب أدواءً مهلكةً، تُفسدُ صلاح الظاهر، وتحبطُ العملَ الصالحَ.
علينا ألا يُشغلنا إصلاحُ الظاهر عن إصلاح الباطن، وألا ننهمك في تسديد السلوك الظاهر انهماكاً يعمِّينا عن تسديد أعمال القلوب وتقويمها.
ولنعلم أن الالتفاتَ إلى إصلاح القلب، وتفقُّدَ عيوبِه الفينةَ بعد الأخرى، عصمةٌ -بإذن الله- من العُجب بالعمل الصالح، والمنِّ به على الله، فمن هُدي إلى محاسبة نفسه، وتفقَّد أدواء قلبه، فقد هدي إلى التواضع لله وخشيته، وكان بذلك أبعدَ عن الكِبر والعجب واحتقارِ الناس والطعنِ في دينهم ونياتهم.
ولذا قال الله سبحانه: (فلا تُزكُّوا أنفسَكم، هُو أعلمُ بِمَن اتَّقَى) [النجم:32]، فقد يزكي المرء نفسَه بأعماله الظاهرة من صلاة وصيام وذكر وقراءة للقرآن، ولو تفقَّد قلبَه وما فيه من الأدواء لرجع على نفسه بالزراية واللوم، ولعرف قدر نفسه التي كان قد قدَرَها فوق قدْرِها.
في القلوب أدواء مهلكة هي أولى بالمبادرة بالتطهير والمجاهدة... في القلوب داء الرياء الذي يحبط العمل الصالح ويحيله عذاباً على صاحبه، داءٌ هو أخفى من دبيب النمل في ظلمة الليل، ولذا علَّمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نقول: "اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم".
ويكفي من قبح هذا الذنب العظيم أنه من ألزم صفات المنافقين: (إن المنافقين يُخادِعونَ اللهَ وهُو خادِعُهُم، وإذا قاموا إلى الصَّلاةِ قاموا كُسَالَى، يُرَاؤونَ النَّاسَ...) [النساء:142].
في القلوب داء الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطب، وهو الداء الذي منع ابليس أن يسجد لآدم، وهو الداء الذي منع أهل الكتاب أن يؤمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ودفعهم للسعي إلى صد المؤمنين عن دينهم، (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق) [البقرة:109].
في القلوب داء الكِبْر الذي يَحْرِم المسلم دخول الجنة ابتداءً مع أول الداخلين، ولو لم يكن في قلبه من هذا الداء إلا مثقالُ ذرةٍ: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبْر". ولا عجب أن يُرتّب هذا الوعيد الشديد على مقدارِ مثقالِ ذرة من الكبر، لأن قدراً كهذا من الكِبر كفيل أن يمنع صاحبه من قبول الحق والتعالي على الانقياد له، كما قال الله عن فرعون وملئه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النمل:14].
وهو الداء الذي يحمل صاحبه على التعالي على الناس وغمطهم واحتقارِهم، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "الكِبر بطر الحق، وغمط الناس".
وفي القلوب أخطر الأدواء وأعظمها، داءٌ إذا مات المرء ولم يتب منه كان مصيره إلى النار خالداً فيها أبداً، (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار) [المائدة:72]. فإن يكن في بطش الجوارح ظلم وبغي، فأعظم الظلم ينبتُ في القلوب، ألا وهو الشرك، كما قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون) [الأنعام:82]، وفسَّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشرك كما يدل قوله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان:13].
إن مضغة هذه أدواؤها لهي أولى بالإصلاح وتفقدِ العيوب، ولا يعني هذا التقليل من شأن إصلاح الظاهر، ولا التزهيد بالاعتناءِ بشعائر الجوارح وسلوكها، فقد تقدم في أول الحديث ما يؤكد وجوب النظر في الحالَيْن جميعاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم