أمة لا يقدسها الله

عبد الله بن صالح منكابو

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ حادثة عجيبة رآها الصحابة بأرض الحبشة 2/ سمات المجتمع الذي لا ينصره الله 3/ وجوب إقامة العدل ومنع الظلم 4/ نأي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه عن مظالم الناس وحقوقهم 5/ خطورة تفشي الظلم بين الناس 6/ صور من المظالم المنتشرة في المجتمع 7/ الظالم سيجد عقوبة ظلمه.

اقتباس

إن الله لا يقدِّس تلك الأمة، التي يُقال فيها للمظلوم: اسْكُتْ، ولا تَتَظَلَّم، ولا تشتكِ؛ حتى لا تُصابَ بأكثر مما أصابك. إن الله لا يقدِّس أمةً يقال فيها للمظلوم المقهور: لست أوَّلَ واحدٍ ولا آخرَ واحد، واحمد الله، فأنت أحسن من غيرك!! إن الله لا يقدِّس أمَّةً يُحمَى فيها الظالم، وتكون له الحصانة، فلا يُطالَب، ولا يُحاسَب، ولا يُعاتَب. تلك أمةٌ لا يقدِّسها الله، لا يُعِزُّها، لا يرفعُ منزلتَها، ولا يُقيم لها وزناً بين الأمم؛ لـمَّا تركتِ العدلَ، الذي قامت عليه السماوات والأرض،...

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد..

 

روى الإمام ابنُ ماجه -رحمه الله- في سننه بإسنادٍ حسن: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما - قال: "لما رجَعَتْ إلى رسولِ الله مُهاجِرَةُ البحر عامَ خيبر - وهم الصحابةُ الذين هاجروا إلى الحبشة- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا تُحدِّثوني بأَعاجِيْبِ ما رأيتم بأرض الحبشة؟". فقال فتيةٌ منهم: بلى يا رسول الله.

 

ثم ذكروا له موقفاً شدَّ انتباههم، وأثار عَجَبَهم واستغرابَهم، قالوا: "بينا نحن جلوسٌ مرَّت بنا عجوزٌ من عجائز رهَابِيْنِهِم، تحملُ على رأسها قُلَّـةً من ماء، فمرّت بفتًى منهم، فجعل إحدى يديه بين كَتِفَيْها، ثم دفعها فخرَّتْ على ركبتَيْها، فانكسرتْ قُلَّتُها.

 

فلما ارتفعَتْ.. التفتَتْ إليه فقالت: سوف تعلمُ يا غُدَرُ، إذا وَضع الله الكرسيَ، وجَمَعَ الأوَّلين والآخِرين، وتكلَّمت الأيدي والأرجُلُ بما كانوا يكسبون.. فسوف تعلمُ كيف أمْرِي وأمْرُكَ عنده غدًا!!".

 

لقد تعجَّب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من تلك المرأة، التي تُخبِرُ بشيءٍ مما سيقعُ للخلق يوم القيامة، ويوافقُ كلامُها بعضَ ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحُقَّ لهم أن يَعْجبوا ويُعْجبوا.

 

لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لَفَتَ انتباهَهم إلى أمرٍ آخر! إلى فائدة عظيمة، وعبرةٍ بليغة في كلام تلك المرأة؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "صدقت صدقت، كيف يُقَدِّسُ اللهُ أمةً لا يُؤخَذُ لضعيفِهم من شديدِهم؟!".

 

وعند البيهقي والحاكم بإسناد صحيح: "إنَّ الله لا يُقدِّسُ أمةً.. لا يأخُذُ الضعيفُ حقَّه من القوي، و هو غيرُ مُتَعْتِع".

 

وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. إن الله لا يقدِّس تلك الأمة، التي يُقال فيها للمظلوم: اسْكُتْ، ولا تَتَظَلَّم، ولا تشتكِ؛ حتى لا تُصابَ بأكثر مما أصابك.

 

إن الله لا يقدِّس أمةً يقال فيها للمظلوم المقهور: لست أوَّلَ واحدٍ ولا آخرَ واحد، واحمد الله، فأنت أحسن من غيرك!!

 

إن الله لا يقدِّس أمَّةً يُحمَى فيها الظالم، وتكون له الحصانة، فلا يُطالَب، ولا يُحاسَب، ولا يُعاتَب.

 

تلك أمةٌ لا يقدِّسها الله، لا يُعِزُّها، لا يرفعُ منزلتَها، ولا يُقيم لها وزناً بين الأمم؛ لـمَّا تركتِ العدلَ، الذي قامت عليه السماوات والأرض، واستمرأتِ الظلم الذي حرَّمه ربُّ العزة على نفسه وعلى الناس، وقال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124].

 

تلك أمة لا يقدِّسها الله، بل يعجِّلُ لها العقوبة والهوان، قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "إن الناسَ إذا رَأَوا الظالمَ، فلم يأخذوا على يديه، أوشَكَ اللهُ أنْ يَعُمَّهُم بعقابٍ منه".

 

عباد الله:

إن قضية إقامة العدل ومنع الظلم، هي قضية كبرى في هذا الدين، وقيمة مطلقة ومبدأٌ راسخٌ لا تنازل فيه، أمر الله جل وعلا به عباده..مرارا وتكرارا.. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء: 58].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90].

(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].

(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات: 9].

والآيات في هذا المعنى كثيرة مستفيضة.

 

وقد كان نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقرِّرُ لأصحابه قدسية هذا المبدأ، ويغرسه في قلوبهم وضمائرهم بأقواله وأفعاله، صلوات الله وسلامه عليه.

 

لما كان يومُ بدر، مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه وقد اصْطَفُّوا وتهيَّؤوا قبل القتال، وفي يده قِدْحٌ – عودٌ من خشب –، يُعَدِّلُ به صفوفَهم، فمرَّ بِسَوَّادِ بنِ غَزِيَّة، حليف بني عَدِي بنِ النجَّار، وهو مُسْتَنْثِلٌ من الصَّف –أي: بارزٌ متقدِّم-، فغمزه بالعود في بطنه وقال: "استوِ يا سَوَّاد"؛ إنه أمرٌ نبويٌ لأجل مصلحة الجيش وتنظيمه.

 

وإذا بالجندي يقول لقائده: "يا رسول الله، لقد أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، فَأَقِدْني".

 

وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يسمع تلك المظلمة، وهو يومئذٍ القائد الأعلى، والحاكم، والقاضي، وإمام المسلمين جميعاً بلا استثناء، صاحبُ أعظم منصب ديني ودنيوي، وهو قبل ذلك: سيدُ ولد آدم، وخيرُ من مشى على الأرض.

 

وقف لتلك المظلمة... ولم يكن خصمه فيها وجيهًا من الوجهاء، ولا ثريًا من الأثرياء.

لم يكن خصمه سيدًا في قومه، أو مُتَنفِّذًا ممن يُحسب له ألف حساب.

 

لقد كان المتظلِّمُ: سَوَّاد بن غزية، رجلٌ مغمورٌ.. من آحاد المسلمين وأفرادهم وعامتهم، لا يُعرَف بثراء ولا جاه ولا سلطان، بل لا تُعرَف أخباره، ولا تكاد تجد له في كتب السيرة والتاريخ إلا هذا الموقف!!

 

ثم هو يطالب رسول الله أن يقتصَّ منه، ويغمزه بالعصا أمام الناس جميعًا، يريد أن يقتصَّ من النبي أمامَ أتباعِهِ! ومِنَ القائدِ أمامَ جيشِه!

 

ووقف الناس.. ينظرون إلى فعل رسولهم -صلى الله عليه وسلم-.

هل برَّر موقفه ذلك بخطأِ سوَّاد، واستحقاقِهِ العقوبةَ لإخلالِه بالصَّف؟

هل حاول أن يرضيه بشيء من المال ليسكت، ويتنازل عن الدعوى؟

هل أخَّر القضية إلى انتهاء المعركة، ليكون القصاص على انفراد؟

 

لقد ألغى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل تلك الاعتبارات، فما كاد سوَّادُ يُنهي كلماته، حتى مدَّ -صلى الله عليه وسلم- يده دون تردد، ليكشف عن بطنه الشريف، ويقول لصاحب المظلمة: "استقد".

 

فأقبل عليه سوَّاد، فاعتنقه وألصق وجهه ببطنه، وقبَّله، وقال: "يا رسول الله، لقد حضر ما ترى يعني القتال، فأردتُ أن يكون آخرُ العهد بك.. أن يمسَّ جِلدي جلْدَك".

 

هكذا -يا عباد الله- يكون العدل مع الناس جميعًا دون استثناء، في كبير الأمور وصغيرها، وجليلها وحقيرها، مهما كانت الأحوال، وأيًّا كان المَقام.

 

إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. لا يرضى أن تكون لأحدٍ عنده مظلمة، ولو كانت غمزةً بالعصا، فأين من يضرب مسلمًا ظلمًا.. بأشد الضرب، ولا تهتزُّ شعرة فيه؟!

 

أين من يأكل أموال الناس، ويمنعهم من حقوقهم، ثم لا يشعر بشيء من تأنيب الضمير؟!

 

أين من يظلم الضعفاء لمنصبه أو جاهه أو علاقاته، حتى تكون حياتُهم جحيمًا، ثم ينامُ قريرَ العين كأنْ لم يفعل شيئًا؟!

 

أين هؤلاء.. من أخلاق نبيهم الذي ينتسبون إليه، ويشهدون أنه رسول الله، الذي تجب طاعتُه فيما أمر، واجتنابُ ما نهى عنه وزجر.

 

عباد الله.. لقد عاش نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مُقرِّرًا للعدل، آمراً به.. مطبقًا له، فلما دنا منه الأجل، وخيَّره الله -عز وجل-، فاختار الرفيق الأعلى، وأصبح طريحَ فراشه، قد اشتدَّ وجعُهُ وأنهكتْهُ الحمَّى، حتى ما يقدِرُ أن يصلي بالناس، كان في نفسه -صلى الله عليه وسلم- أمرٌ يُشغله، ولا يزال يفكر فيه حتى تلك اللحظات، يريد ألا يفارق الدنيا حتى يستوثق منه.

 

فخرج على الناس قبل وفاته بخمسة أيام، وفوجِئَ أصحابه بخروجه مع شدة مرضه؛ إذ كان لا يستطيع أن يصلي معهم الصلاة المفروضة، فما الأمر العظيم الذي أخرجه في هذه الساعة؟!

 

وإذا به يصعد المنبر، فيقبل عليه الناس، ويلتفون حوله، فينادي فيهم، ويكرر عليهم الدرس الخالد.. وهو يودعهم، "يا أيها الناس! من جلدتُ له ظهرًا.. فهذا ظهري فليستقد منه، ومن أخذتُ له مالاً.. فهذا مالي فليستقد منه".

 

يريدُ أن يخرج من الدنيا، خفيفَ الحِمْل من مظالم الناس وحقوقهم، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد..

 

اللهم واجزه عنا خير ما جزيت نبيًّا عن أمته..

اللهم اجعلنا من أتباعه، وأنصار دينه، والمتمسكين بهديه وسنته..

أقول قولي هذا.. وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد عباد الله.. لقد عاش نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم- آمراً بالعدل، ناهياً عن الظلم، مدافعاً عن الحق، حتى أتاه اليقين.

 

فما بالنا – أيها الإخوة الكرام – نرى ونسمعُ صوراً من الظلم الصريح، تنتشر بيننا.. ونحن أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

ظلم يتفشى بين الناس.. حتى على مستوى الأقارب والأرحام.

والمصيبة أن بعضَهم يظلم الناس، ويعتدي عليهم بصورٍ شتى، ولا يشعر أنه ظالم !

 

إن الاعتداء على أعراض الناس، وتتبع عوراتهم، وهتك أسرارهم، ونشر عيوبهم، ظلمٌ وأيُّ ظلم.

 

والاعتداء على العمال والأُجَراء، بتأخير حقوقهم، ومماطلتهم في أجورهم، أو تكليفهم بما لم يُتَّفق عليه في العقد، أو استغلالهم في مصالح شخصية لا صلة لها بالعمل.. كلُّ ذلك من الظلم والعدوان.

 

وأكل أموال الناس بالباطل، وإنكار الحقوق، وجحْدُ الديون، ظلم بلا شك.

 

وتقديم المعارف والأقارب وأصحاب الواسطات.. على من هو أكفأُ منهم وأقدر على العمل.. ظلمٌ وفسادٌ.

 

والاعتداء على النساء، بتعليق المرأة وتركها في بيت أهلها، لا يُطلِّقُها ولا يُراجِعُها إضراراً بها... وظلمُ المُطَلَّقة بمنعها من الحضانة، أو منع الأبناء من زيارتها والمماطلة في ذلك، أو قطع النفقة عن عيالها، وإيغارُ صدور الأبناء على أمهم بالطعن والهمز واللمز، كل ذلك من الظلم والبغي والعدوان.

 

وتفضيلُ بعضِ الأولاد على بعض في الهبات والهدايا، وعدم المساواة بين المتماثلَيْن، ظلم وجَوْر.

 

وقد أخبرنا رسولُنا وهو الصادق المصدوق.. أن الظالم سيجد عقوبة ظلمه.. وأثره في الدنيا قبل الآخرة، فقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "ثنتان يُعَجِّلُهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين".

 

وقال: "ما مِنْ ذنب أجدر أن يعجِّل الله –تعالى- لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدَّخِرُه له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم".

 

فمن ظلم الناس في أموالهم أو حقوقهم أو أعراضهم.. فسيرى عقوبة ذلك في الدنيا.. سيراها في صحته وعافيته، أو في شقاء قلبه وضيق صدره، أو في أولاده وأهله، أو في أمواله وتجارته، أو في تسلط الناس عليه يوما،... وما ظالمٌ إلا سيُبلى بظالِـمِ.

 

وأما في الآخرة... فقد توعَّده الله بأشد من ذلك، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42].

 

وفي المقابل –أيها الإخوة-، هنيئًا لمن وفَّقه الله للعدل في أهله، وفي عمله وتجارته، ومع كل من يعامله من الخلق: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ-.. وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا".

 

 

 

المرفقات

لا يقدسها الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات