عناصر الخطبة
1/ كثرة أعداء الأمة 2/ وجوب وحدة الصف واجتماع الكلمة 3/ ثمرات تحقيق الأخوة الإيمانية والترابط في المجتمعاقتباس
لقد طافت بأمة الإسلام منذ أزمان طوائف من أعاصير الإحن والمحن، ووجد الشيطان فيها منفذًا ينفذ منه هنا أو هناك، محاولات التفريق أو التمزيق، وكانت لكيده عواقب وخيمة ونتائج أليمة، لكن التجارب التي مرت بها أمة الإسلام بعد ذلك صهرتها فذكَّرتها وأدَّبتها فعلَّمتها، وخرجت الأمة الإسلامية من هذه التجارب وهي توقن بأن الفُرقة ضعف في أيّ مجال كان، وأن الوحدة قوة..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وخلفائه الراشدين وزوجاته وصحابته الأكرمين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اتقوا الله -عز وجل- وأصلحوا ذات بينكم وكونوا على الخير أعوانًا، وفي الإسلام إخوانًا ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
عباد الله: للأمة المؤمنة أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر عن يمين وشمال، وهؤلاء الأعداء لا يغيظهم شيء كأن يروا هذه الأمة متآلفة متماسكة، ولا يسرهم شيء كسرورهم حين يرونها متفرقة متمزقة؛ لأنهم حين ائتلافها واتحادها لا يستطيعون أن ينالوا منها منالاً أو يكيدوا لها كيدًا، ولكنهم حين تفرّق الأمة وتمزّق وحدتها يجيدون الثغرات التي ينفذون منها إلى مأربهم الخبيثة التي يريدون، ولذلك أرسل الله -عز وجل- رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليكون نبي الوحدة والتوحيد فيثبت كلمة التوحيد، ويدعو إليها، ويحقق توحيد الكلمة، قال الله -جل شأنه-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة:2].
وقال: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103]، وقال -عز وجل-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وقال سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103]، وقال سبحانه: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46].
وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ومن تبعهم أن يكونوا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا في كل شيء في حركاتهم وسكناتهم حتى إن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا في أول أمرهم إذا نزلوا واديًا أثناء سفرهم تفرَّقُوا في الشِّعاب والأودية، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن تفرقكم هذا من الشيطان"، فصاروا لا ينزلون بعد هذا منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى لو بُسط عليهم ثوب لعمهم".
ولقد طافت بأمة الإسلام منذ أزمان طوائف من أعاصير الإحن والمحن، ووجد الشيطان فيها منفذًا ينفذ منه هنا أو هناك، محاولات التفريق أو التمزيق، وكانت لكيده عواقب وخيمة ونتائج أليمة، لكن التجارب التي مرت بها أمة الإسلام بعد ذلك صهرتها فذكَّرتها وأدَّبتها فعلَّمتها، وخرجت الأمة الإسلامية من هذه التجارب وهي توقن بأن الفُرقة ضعف في أيّ مجال كان، وأن الوحدة قوة حتى في مجال الأسرة والبيت الواحد، فما ظنك بالبلد الواحد والمجتمع الواحد والأمة الواحدة؟!
وإن العوارض الطارئة التي تعرض للأمة من حين إلى حين لتنال من قوتها أو هيبتها يجب أن تمحى عن طريق المسلمين بجهاد متواصل يجمع القلوب ويمحِّص النفوس ويصفِّي القلوب ويعيد الجموع إلى طريق الهدى والرشاد والمحبة والإخاء (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
فلا قَبَلِيَّة ولا عنصرية ولا إقليمية ولا شيء من هذه التفرقات ولا قومية ولا غيرها؛ هؤلاء أهل الإسلام يعودون من إحدى الغزوات مع النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهي غزوة بني المصطلق، وقد انتصروا انتصارًا باهرًا، وغنموا غنائم كثيرة، ولم يستشهد إلا رجل واحد قُتل خطأ عادوا عودة الظافرين الظاهرين على أعداء الله دينه.
ولكن حكمة العليم الخبير وضعت في طريقهم درسًا ليؤدبهم به ويهديهم فقد ازدحم على سقي الماء خادمان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار فاقتتلا فصاح الأول يا للمهاجرين، وصاح الثاني يا للأنصار، وهمت الدعوة الجاهلية المنتنة أن تتحرك وتثور بين قوم أسلموا لله وجوهم وأخلصوا للإسلام جهودهم، فهذه عوامل الشر تتجمع وهذه حوافز الفتنة تتأهب، وبخاصة أن بعض المنافقين كشأنهم في كل زمان ومكان استغلوا الحادث فأخذوا يحاولون بعث الفتنة النائمة من مرقدها وفي طليعتهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي.
فما كان من النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وقد سمع بهذا وعلم إلا أن عجَّل المسير وهو الدواء والعلاج، فأمر بارتحال الجيش في وقت لم يكن محددًا للرحيل، وظل يسير بالجيش طيلة نهاره وليله وصدرًا من طليعة اليوم التالي، ثم أذن بالراحة فما كاد القوم يمسون الأرض بجنودهم حتى ذهبوا في سبات عميق، وقاموا بعد نوم طويل وقد كان التعب الشديد الذي تعبوه والعرق الذي تصبب من جباههم خلال مسيرهم فاصلاً قويًا بين الحادث العارض، وبين الحاضر المشرق الذي أصبحوا عليه فنسي القوم ما كانوا فيه وأصبحوا بنعمة الله متحابين كما هم قبل.
وهكذا شأن أهل الإسلام أو هكذا يجب أن يكون يعرض لهم العارض من ذلل أو خلل أو تقصير فيتخلصون من ذلك ويتطهرون بالمجهود يبذلونه فيصلح ما كان من فساد ويعوض ما فات، ويخرجون طاهرين متطهرين مخلصين لله حنفاء (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
ولقد تصاب الأمة في بعض الأوقات بشدة أو أزمة فيصبر أبناؤها عليها حتى ترحل عنهم، ويخرجون منها أقوياء أشداء مهما ظنت الظنون أن صبرهم على هذه الشدة سيؤدي بهم إلى مضاعفة الأذى لهم، ونحن نتذكر موقفًا يشير إلى هذا المعنى، ويرمز له وهو حال المسلمين حين ذهبوا إلى مكة في عمرة القضاء، وأخذوا يطوفون حول الكعبة وكانت الحمى قد فعلت بهم الأفاعيل فانتهزها المشركون السفهاء فرصة ليسخروا من المسلمين ويشمتوا بهم فجعلوا يتهامسون قائلين: "إن محمدا وصحبه قد أنهكتهم حمى يثرب".
فأرد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقضي على أثر ذلك الهمس الخبيث فشمَّر ثيابه واستعد للهرولة وهو يطوف ويسعى، وقال لأصحابه -رضي الله عنهم-: "رحم الله امرأً أرى القوم قوةً من نفسه اليوم"، واستجاب الأصحاب -رضي الله عنهم- مسرعين فنفَّذوا ما أمرهم به النبي الكريم والعَرَق يتصبب من الجباه الشريفة السامية اقتداءً وامتثالاً وإغاظة لأعداء الله، فكان خير ردّ على هؤلاء السفهاء، وكان علاجًا أي علاج لنفوس البررة الأوفياء.
وإذا كانت الأمة كما رأينا تطهر نفسها من ذللها بسبحها في بحر الجهاد والنضال والعمل والذكر والإخاء، فكذلك الفرد قد يذل ذلة، ثم يفيء ويندم ويلقي بنفسه في غمار العمل الصالح والتكفير الصادق حتى يرتفع في مراقي الصلاح والطاعة درجات فوق درجات وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولربَّ معصية أورثت ذلاً وانكسارًا خير من طاعة أورثت غرورًا واستكبارًا، وإذا كانت السيئات تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فإن المباهاة الكاذبة أو الكبرياء الأحمق تمحق عمل الإنسان فلا هو لآخرته ادخر ولا هو بحاضره انتفع، وذلك هو الخسران المبين؛ عياذًا بالله من ذلك.
وأفضل المسلمين شأنا من عَلِمَ عِلْمَ اليقين أن حياته أجلٌ مضروبٌ له ومدعو فيه إلى أن يبذل أقصى جهده ليكون مؤمنًا صادقًا موقنًا مخلصًا عمله لله، سليم الصدر لإخوانه المسلمين بعيدًا عن الحسد والبغضاء مقبولاً مرضيًا في غده يوم يلقى ربه -جل جلاله- فهو لا يقصر ما دام قادرًا على التمام؛ إذ ليس هناك عيب كنقص القادرين على التمام وهو لا يغتر بمجهود يقدمه لئلا يمحق عمله بغروره وفجوره، يتذكر دائمًا أن خير ما يقدم لإخوانه المسلمين هو النصيحة والدعاء لهم وبذل السلام وإطعام الطعام وإعانة الضعيف.
يتذكر دائما قول الحسن البصري: "ما من يوم ينشق فجره إلا نادى منادي يا ابن آدم! أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة".
من شأن المؤمن الجاد أن يبتعد عما يهدم كيان المحبة فلا غيبة ولا نميمة ولا بهتان ولا قذف ولا ظن السوء بالمسلمين.
من شأن المسلم الجاد أن ينتهز الفرصة قبل فواتها، وإلا انقلبت عنه، وأن يحسن استغلال الوقت؛ لأن الوقت كالسيف إن لم تقطعه بعمل صالح وإلا قطعك وأن يحسن استغلال قواه البدنية والمالية والمعنوية قبل أن تتحطم فيه تلك القوى فيقول يا ليتني قدمت لحياتي.
ولقد صدق النبي الكريم وهو الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ".
فيا أيها المسلمون: ما قيمة الأمة إذا لم تكن بنيانًا مرصوصًا شامخًا، الصغير يحترم الكبير والكبير يعطف على الصغير، لها مكانتها، ولها حرمتها، أمة لها في الحياة هدفها ورسالتها (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران:110].
ما قيمة الفرد إذا لم يكن كائنًا حيًّا صالحًا مصلحًا يسعى بين الناس بالعمل الصالح يبتعد عن الغيبة والنميمة والغش وقالة السوء يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا، ويعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، فليعمل كل فرد على أن يرفع قيمته في هذه الحياة الدنيا، ويغلي ثمنه بإصلاح قلبه وعمله بصبره وصدقه، ومن تذكر حلاوة الإيمان والعافية هان عليه مرارة الصبر.
قال -عز وجل-: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) [محمد:21].
اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق، اللهم طهِّرها من الحسد والغل والضغينة على المسلمين اللهم اجمع قلوبنا وقلوب المسلمين على طاعتك ومحبتك والإيمان بك وبرسولك اللهم اهدنا وسددنا اللهم نقِّ قلوبنا من الغل والحسد والرياء يا ذا الجلال والإكرام.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينًا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أيها المسلمون: فلقد أنعم الله على أمة الإسلام بهذا الدين العظيم الذي انتقلت به من الظلام الدامس إلى النور الساطع من الجهل الفاضح إلى العلم النافع، من التفرُّق والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، من التباغض والتقاطع والتعادي إلى التحابّ والتواصل والتولي والإحسان أصبحت أمة الإسلام بهذا الدين العظيم أمة متآلفة قلوبها متحدة أهدافها مجتمعة كلمتها منتظمة صفوفها.
هذه الأمة المباركة قال الله في حقها وحق نبيها -صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 62- 63].
فلا وشيجة حسب ولا نسب ولا طين ولا لسان ولا لون يبنى عليها ولاء أو براء أو تعطى التبعية المطلقة سوى وشيجة الإيمان ورابطة التقوى التي ترابطت بها الأمة وتآلفت بها النفوس.
هذه النعمة التي منحها الله -جل جلاله- عباده المؤمنون ووصفهم بها في آيات متعددة (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)، ووصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله "المسلم أخو المسلم"، وقوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، وشبك بين أصابعه، وقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
هذه النعمة إذا أُخذت بحقها صارت قوة ضاربة تغذي بها القلوب، وتهد بها الحصون، وتفرق بها الجموع بإذن ربها، لكن آثارها لا تتحقق في الواقع إلا بتحقق مقتضياتها في النفوس.
فالأخوة المطلوبة والولاية الحقة فيما بين أهل الإسلام هي أن ينطلق المسلم في حبه لأخيه من محبة الله لأخيه، ويعامل المسلم أخاه المسلم بما يحبه أن يعامل به من الغير في مال أو عرض أو دم، أو غير ذلك من المعاملات المادية أو المعنوية.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (رواه البخاري ومسلم).
وقال جرير بن عبدالله: "بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" (رواه مسلم).
ألا فاتقوا الله عباد الله وكونوا كما يريده الله منكم إخوانًا في الله متحابين في الله متآلفين في الله تبذلون السلام، وتطعمون الطعام، وتقومون بالإحسان، وتكفُّون عن أسباب الفُرقة والبغضاء (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
اللهم اجمع قلوب المسلمين على طاعتك..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم