علي بن غالب الشهري
ملتقى الخطباء: قدر لي في هذا الصيف زيارة ألبانيا، حيث أعرف عدداً لا بأس به من أصدقائي الطلاب الألبان الذين يدرسون في جامعات المملكة، ومعرفتي ببعضهم تمتد منذ أيام الدراسة في الجامعة، وكانت ومازالت تأتيني منهم دعوات متكررة لزيارة هذا البلد المسلم الذي لم يحظ بحقه من الرعاية والعناية من قبل إخوانهم المسلمين من حكومات أو دعاة أو تجار.
كانت ألبانيا إحدى المناطق الخاضعة للنفوذ العثماني الواسع، وقد بدت آثار العمران العثماني المميزة واضحة في ألبانيا، إلا أن هذه المنطقة تعرضت لحملات عسكرية أيام الحرب العالميتين الأولى والثانية حتى سقطت ضحية للغزاة الإيطاليين ثم الألمان، وقد دخل الإسلام إلى ألبانيا حسب رواية من قابلت من أبنائها عن طريق التجار المسلمين أيام الأندلس، وليس كما تزعم الروايات المسيحية الحاقدة أن الإسلام دخل ألبانيا بالسيف العثماني!! وقد كان هناك عمل منظم وقديم لسلخ ألبانيا من دينها الإسلامي، فقد منعت الكتابة بالحرف العربي تقريباً عام 1920م كما حصل مع تركيا، كما قام الملك الظالم أحمد زوغو بإلغاء المدارس الدينية ونزع الحجاب عن النساء الألبانيات. ومع سقوط هذا الملك الظالم وهروبه ذليلاً بعد سقوط مملكته على يد الإيطاليين سنة 1939م لم تنته معاناة الألبان بل بدؤوا قصصاً من النضال ضد المحتلين.
ومن الحقب التاريخية المظلمة التي مرت بها ألبانيا تلكم الحقبة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية والتي تولى فيها الزعيم الشيوعي المجرم أنور خوجهالحكم أو كما يسميه الألبان أنفر هوجه، والألبان يلعنونه كلما ذكر اسمه، وقد التقيت بأحد كبار السن الذي كان يتحدث لي عن المدارس الدينية وتاريخها في ألبانيا وفي ثنايا الحديث أتى ذكر أنور خوجه على لسانه فأعقبه مباشرة باللعن بقوله: أنور خوجه لعنة الله عليه،
لكن ماذا فعل أنور خوجه بالألبان حتى يتبعون اسمه باللعنات؟
الحقيقةأنه ومن خلال وصْفِهِم لي لتلك الفترة المظلمة من حكمه أدركت أنه لم يكن سوى أحد الطغاة الذين حكموا بالحديد والنار، بل إنه جعل من ألبانيا السجن الأكبر في العالم، فكان يحظر على الألبان السفر إلى خارج ألبانيا!! وفرض عليهم قناة إعلامية واحدة يتيمة تسبح بحمده وتمجده ليل نهار، وكان بعض الألبان في عهده يظنون أنهم الشعب الوحيد في الأرض وأنهم كانوا يعيشون في جنة الدنيا بينما الأمر لا يعدوا كونه تلميعا إعلاميا لواحد من أقسى حكام زمانه، ويمكن أن ينافِسَ وبكل جدارة هتلر أو ستالين إلا أن الفرق أنه لم يخض حروبا خارجية وإنما جعل حربه على شعبه الذي جعل سيفه مصلتا على رقابهم لمدة تقارب الأربعين عاما، أو تزيد.
بعد هلاكه تنفست البلاد الصعداء، وأخذت في الانفتاح التدريجي على دول الجوار، والدول الأخرى العربية والإسلامية، إلا أنه انفتاح تدريجي بطيء نوعاً ما،
كان في نظري لهذا الانفتاح المفاجيء - من دولة مغلقة إلى دولة وجدت نفسها في أحضان قارة غنية وصناعية متطورة – أثر مباشر على ما سآتي على ذكره من الحالة الدينية والاجتماعية التي لاحظتها في هذه الزيارة.
تعيش ألبانيا حالة من الصراع على الهوية بين هويةٍ ذات جذورٍ إسلاميةٍ ممتدةٍ لمئات السنين، وما بين هوية غربية منفتحة على كل شيء، ولكل من الهويتين تجد المظاهر التي تدل عليها، فالمآذن المنتشرة في ألبانيا التي يوجد في مساجدها بقايا مصلين، وصوت الأذان الذي يصدح من هذه المآذن، والأسرة المتماسكة، والأسماء الإسلامية في أفرادها توحي لك أنك في بلد إسلامي عريق، بينما الكنائس المنتشرة أيضاً، والمظهر الخارجي للناس في الشارع ولباس النساء – إن صحت تسميته لباساً- فما هو إلا بقايا لباسٍ في الحقيقة، والموسيقى الصاخبة في الشارع والمطاعم والمقاهي، تدفعبالبلد دفعاً للهوية الغربية التي لا تمت للإسلام بصلة، وبين الهويتين أرى فجْراً يؤذن بالانبعاث كما يبدو بين الرمادِ خروج زهرة بيضاء ذاتِ رائحة عبقة.
حرصت في هذه الجولة أن تكون استكشافية أكثر من كونها استجمامية، وبالتالي تنقلت بين أكثر من ثمان مدن من العاصمة تيرانا إلى مدينة الشيخ الألباني أنزل الله على قبره شآبيب الرحمة والرضوان مدينة شكودرا في الشمال إلى ميناء ألبانيا الرئيس دورس، ومدينة الباسان ذات المصانع الممتدة من العهد الشيوعي والتي تضفي على المدينة الجميلة طابعاً كئيباً بمداخن تلك المصانع وألوانها الحديدية، ثم مدن الجنوب بيراتوفلورا وفير وسارانداوجيروكاستراحتى وقفنا على حدود اليونان جنوباً وشاهدنا جزرها وشواطئها المتاخمة للجنوب الألباني، وغيرها من المدن التي عبرناها عبوراً، وجميع هذه التنقلات كانت بالسيارة، في طرق جبلية ذات منعطفات كثيرة، عبرنا خلالها مختلف أشكال التضاريس الطبيعية، من حقولٍ خضراءَ إلى شواطيءَ جميلةٍ، إلى غاباتٍ ذات أشجارٍ كثيفةٍ، إلى جبالٍ شاهقةٍ، ومررنا بأنهار جارية، وعيون متدفقة، وبحيراتٍ طبيعية، وشلالات رقراقةٍ، في طبيعة بكر، أشد ما تكون حاجةً إلى التفاتة من الدول الإسلامية المانحة لدعم هذه الدولة النامية ومساعدتها للوقوف على رجليها، وإنقاذها من براثن الدول الرأسمالية التي تحرص أشد الحرص على إغراق الدول الصغيرة والضعيفة في ديون وقروض ربوية لاتنتهي!
وقد أشاد الإخوة الذين التقيتهم بالبنك الإسلامي للتنمية بجدة، والذي دعم عدداً من مشاريع الجسور والطرق هناك إلا أن المؤمل أكبر مما حصل.
على الرغم من نسبة المسلمين الكبيرة التي تقدر بين 70 و 80 % إلا أن المسلمين المتمسكين بتعاليم دينهم والمحافظين على الصلاة تحديداً قد لا يتجاوزون الربع من هؤلاء والربع كثير، وهذا بحسب إفادة الكثير ممن التقيتهم، كما أن نسبة المحجبات من النساء المسلمات هناك نسبة ضئيلة جداً، فضلا عن ذوات اللباس الساتر على الأقل، وتتركز هذه النسبة في القرى والأرياف، أما في المدن الكبيرة فكما ذكرت أن المنظر السائد هو ما يشبه اللباس وليس بلباس، ولقد وصل الأمر مبلغاً لا يكمن أن تشاهده في دول أوروبية أخرى، وأصبح المحافظون هناك يعانون عند الإقبال على الزواج، إذ أنهم يتسامعون بقرية أو مدينة فيها نشاط للمحجبات فيتهافتون عليها، كما هو الحال في مدينة الشيخ الألباني مدينة شكودرا، حيث أصبحت مشهورة مع بعض ضواحيها بإقبال النساء على الحجاب، ولم يكن هذا الإقبال من قبيل الصدفة، ولكنه نتيجة عمل دؤوب ومخلص من قبل عدد من الإخوة المخلصين هناك، أثمر بفضل الله إقبال عدد لا بأس به من اخواتنا المسلمات هناك على الحجاب، كما أنه يوجد عددٌ من الجمعيات المحلية التي تعنى بتعليم العلوم الشرعية الأساسية كالوضوء والصلاة والعقيدة الإسلامية الصحيحة، وقراءة القرآن وبعض الأحاديث النبوية، إلا أنه ينقصها الكثير والكثير من الدعم لكفالة الدعاة الموجودين هناك، وتفريغهم للعمل الدعوي برواتب تؤمن لهم ولأسرهمالعيش الكفاف ، وكذلك القيام ببعض المشاريع الضرورية. واللافت للانتباه هنا هو الحضور التركي الكبير في ألبانيا، سواء على المستوى التجاري أو المستوى الخيري، حيث يقوم التجار الأتراك والمؤسسات الخيرية بتغطية مصاريف عدد من المدارس الألبانية، مع تولي التدريس هناك بمناهج ومدرسين أتراكاً.
وحتى لا ينسى لأهل الفضل فضلهم فقد كان لعدد من تجار الخليج والمملكة على وجه الخصوص قصب السبق في هذا الميدان، حيث يوجد عدد من الجوامع والمساجد تم بناؤه من قبل هؤلاء التجار كتب الله لهم الأجر، مثل جامع الزامل في شكودرا، ويقع في قلب المدينة النابض، وهناك جامع وهو يعتبر أكبر الجوامع في البانيا وأوروبا الشرقية وهو جامع ومركز فيير في الجنوب الذي بناه الشيخ إبراهيم السليمان إلى غير ذلك من الجوامع والمراكز الإسلامية، كما أن من طليعة المؤسسات الخيرية التي عملت في ألبانيا منذ وقت مبكر مؤسسة الوقف التي كانت رائدة أكثر هذه المشاريع الخيرية جزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
إن ألبانيا كما ذكرت تعيش حالة من الصراع على الهوية، وبتدخل من قوى أجنبية، لتعميق الهوية الغربية على حساب الإسلامية، ومن أبرز الضغوطات التي تواجهها ألبانيا تلك الضغوطات الناجمة عن الشروط المتتالية والمتسلسلة مقابل الانضمام للاتحاد الأوروبي، وكان من آخرها ولن يكون الأخير الموافقة على زواج المثليين!! مع أن الألبان يقولون بأن هذا الأمر ليس منتشراً أو معروفاً أصلا بينهم ولله الحمد حتى يكون مسموحاً، ولكنها غطرسة القوي أمام الضعيف الذي سلمه كل ما بيده!
وبهذا يكون الدور الإسلامي المطلوب في ألبانيا كبيراً وكبيراً جداً، والمنظمات الإسلامية والمؤسسات الدعوية الخيرية ستجد في البانيا بيئةً خصبةً وتعطشاً حقيقياً لمنهج أهل السنة والجماعة، قبل أن تمتد يدٌ أخرى بمنهج ضال وعقيدة منحرفة ويكون عندها الندم ولات حين مندم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم