أكاليل الزمان

عاصم محمد الخضيري

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ ارتقاء الأمة بالعلم 2/ ارتقاء العلماء بالعلم 3/ جهادهم في سبيله 4/ إنزال العلماء منزلتهم 5/ تخلفنا عن الركاب 6/ إعادة مجدنا بالعلم

اقتباس

إن المجد الحقيقي لن يتحقق إلا بأخذنا أسبابَ مجدِ من سبقونا، ولن يكون المجدُ الحقيقي لأمة محمد حتى يصلح آخرها بما صَلُح به أولها، ولن يكون المجدُ الحقيقي إلا بالعلم والمطالعة، وشغل الأوقات والأعمار في سبيلها، حتى نستطيع أن نحقق موعود الله فينا إن ..

 

 

 

 

الحمـد لله حمـدًا مِنْـهُ عنـْهُ لَـهُ *** مدى الـزمان ولا شيءٌ يكافـيه
من ذا الذي يستحقُّ الحمْدَ إنْ طَرَقَتْ *** طوارقُ الخـيرِ تُبدي صُنْعَ خـافِيهِ
إليـك يـا ربّ كـلّ الخلق خاشعة *** ترجو نوالـك فيضًا مَـن يدانيه
شواهدُ الجـودِ لا تُحـصَى سَوَافِكُهَا *** وكيف والأفْـقُ هـذا شاهدٌ فيه

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته:

شهادة حقٍّ أصطفيها لِوَقْفَةٍ *** تمورُ بها السبْعُ الطِّباقُ وتُكْشَطُ!

وأشهد أن محمدًا بن عبدِ الله عبدُ الله ورسوله:

صلَّى عليه اللهُ ما حَيَّا الحَيَا *** أرْضًا فأخصب مَحْلُها والأَجْدَبُ
لاهُمَّ صَلِّ على النبي محمَّدٍ *** مـا فـاه في ذكـراه ثغرٌ طيِّبُ

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

منذ أن فتحت هذه الأمةُ عينيها وهي تُشهد على نفسها، منذ أن أسْمعها بلالُ بن رباحٍ صوتَ الحق يعلو صادحًا والنداءاتُ تنادي المؤمنين، وهذه الأمة تشهد على نفسها، منذ أن قال نبيُّ الأمة لحافظ الأمة أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ابسط رداءك"، وهذه الأمة تشهد على نفسها.

منذ أن أشْهدَ نبيُّ الأمة على معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهذه الأمة تشهد على نفسها، منذ أن قال نبي الأمة لعبد الله بن عمرو بن العاص: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج من هذا -اللسان- إلا حق"، وهذه الأمة لا زالت ولا تزالُ تشهد على نفسها.

منذ أن توالت أفواج أهل الصفة على رسول الله ملتمسين منه قبسًا من حكمة، وخافضين له ثفناتِ ركبِهم مصغين لوحي السماء، وهذه الأمة تشهد على نفسها، منذ أن أتى أبناءُ القبائل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلتمسون منه قُرّاءً من أصحابه يقرؤون عليهم، ثم يوفد معهم سراياه، وهذه الأمة تشهد على نفسها.

تشهد هذه الأمة أن العبق الذي خرج من فِي محمدِ بن عبد الله لا تزال رائحته تأرج في أفواه علمائها:

كالطِّيبِ في قَارُورَةٍ مَصْدُوعَةٍ *** ألْفَى سَبِيلاً للعُلا فَتَضَوَّعَ

تشهد هذه الأمة أن غارَ حراء الذي تنزلت فيه آياتُ "اقرأ" لا يزال نورُه يخِيط أشعة الشموس في تلاميذ محمد بن عبد الله! تشهد هذه الأمة على نفسها أنها ولود ودود، لا يزال فيها الخيرُ إلى قيام الساعة! يشهد نبيُّ الأمة على أمته أنها كالغيث لا يُدرى أولُه خيرٌ أم آخِرُه! لا زالت أصداءُ كلمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتناقلها الثغور، ثغرٌ يحدث عن ثغرٍ، بسند متصل عن مثله، ولن تزال أبدًا، إلى يومِ يقوم الناس لرب العالمين.

يذهب الناس بالشاة والبعير، والخبز وبالشعير، ويذهبون هم بميراث النبوة! مَن هم؟! يتراكض الناسُ حول الذهبِ الأصفر والفضةِ البيضاء، وأما هم فلن تجدَهم يبالون: أَحْمَرَّت الدنيا أم اصفَرَّتْ أم اسودَّت إذا سلم لهم دينهم وما في صدورهم.

مَن هم؟! إنهم الذين:

على الهدى لِمَن استهدى أدِلاَّءُ
ما الفضْلُ إلا إليهمْ عنْهُمُ بِهِمُ *** والناسُ موتى وأمَّا هُمْ فأحياء!

روى الهيثمي والطبراني بسند حسن عن أبي هر -رضي الله عنه- أنه دخل السوق يومًا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنادى في الناس وقال: "أراكم ها هنا وميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقسم في المسجد؟!"، فذهب الناس إلى المسجد وتركوا السوق، فلم يروا ميراثًا، فقالوا: يا أبا هريرة: ما رأينا ميراثًا يقسم في المسجد! قال: فماذا رأيتم؟! قالوا: رأينا قومًا يذكرون الله -عز وجل-، ويقرؤون القرآن، ويُذاكرون في الحلال والحرام. قال: "فذلك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

إني أحدثكم وأحدث الجوزاء عن العلماء، فالسلام عليهم ورحمة الله وبركاته.

ذهب المَلِك بحراسه، وبقيت بركة العالِم في أنفاسه؛ فنِيَ السلاطين، ووُسِّدوا الطين، وخُلِّد ذكرُ أهلِ العلم أبدًا، وبقيَ ثناؤهم سرمدًا؛ العلم أغلى من المال، وأهيب من الرجال، به عُبِدَ الديّان، وقام الميزان، وبه نزل جبريل، على صاحب الغرة والتحجيل، هم الشهداء على الألوهية، والدعاة إلى الربوبية.

إن من رحمة الله على هذه الأمة أنه لا يخلو زمان فيها من قائمٍ لله بالحجة والإمامة، ما أسعد هذه الأمة وربانيوها من العلماء! يُورد عن هداهم ويُصدرُ! ما أسعد أمةً عرفت لعالمها حقه، والتفّت حوله، وقدرت ما يحمل بين جنبيه! ما أسعد أمة أجلَّت قدرَ من أجلَّهم كتاب الله! ما أسعد الأمة حين تحط قلوبُها حولَ من تستغفر لهم حيتانُ الماء، وطيور السماء!!

ما لهذا العلم الذي شرّف الله به أناسًا ووضع بالجهل به آخرين؟! ما له؟! أله كلُّ هذا السمو؟! أله كل هذا الجلال؟! ما لهؤلاء العلماء أُعلي قدرهم في كتاب الله وفي سنة ابن عبد الله؟! وفي صفحات الزمان، لهم سيرة نُقشت بالدم الأخضر!

أي شيء كانوا يحملون حين رفع كتابُ الله من شأنهم، أي زاد تزودوا به في حين غاب عن الناس؟! أنى لهم كلُّ ما حملوا من مجد وجاه وعظمة؟! هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون؟! هذا العلم الذي لم يأمر الله نبيه محمدًا -عليه الصلاة والسلام- أن يستزيد من شيء كما أمره بالاستزادة منه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً) [طه: 114]، هو الذي صيّر العلماء من قديم الزمان إلى حاضر الزمان أحدوثةَ المجالس، ومحاريبَ الأمكنة، وأكاليلَ الدهر، ومصابيح العتمات، وشماريخَ رضوى!

ما كان حديثًا يفترى، ولا فتونًا يترددُ؛ روى التاريخُ أنباءَ أعظم ثلة ولدت لتكون مثلَ النجوم التي يسري بها الساري! بالعلم وحده سادوا وجادوا وخُلدوا، ما ضرّ أحدَهم حداثةُ سنه، ولا طراوةُ شاربه حين رفع العلمُ قدره، وحين بنى حول مجدِه سُرَادِقَه.

بالعلم وحده نالوا ما نالوا، فكانوا للأبدان كالعافية، وللدنيا كالشمس الساطعة! بالعلم وحده كان معاذُ بن جبلٍ -رضي الله عنه- أوحدَ دهره، ونسيج عصره، وأعلم أمة محمد بالحلال والحرام، حتى ملك بعلمه الزمام، قال عنه النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذُ بن جبل".

لقد قال له النبي ذلك ولما يبلغ الثالثة والعشرين! بالعلم نال تلك المنزلة العلية:

وما نالَ ما نالَ إلا بِعِلْمٍ *** سما فيه فوق السَّمَاءِ الْعَلِيَّهْ

بالعلم وحده كان عمرُ بن الخطاب يُدخل في محفله العلميِّ ابنَ عباس وقد ضم مجلسُه أشياخ الصحابة، وقد لاموه في دخوله ولما يزل صغيرًا، فقال لهم: "ذلكم فتى الكُهُول، له لسان سَؤول، وقلب عَقول".

وما نال ابنُ عباسٍ ما نال إلا بعلم سما به فوق السماء العلية! بالعلم وحده، قال مسلم بن خالد يومًا للشافعي -رحمه الله-: أفْتِ -يا أبا عبد الله- فقد -والله- آن لك أن تفتي! ولما يبلغ الشافعيُّ الرابعة عشرة!

بالعلم نال السُّهَى قدرًا وقد بلَغَتْ *** جوزاؤه مُلْتَقَى الأفلاكِ واْلَقَمرِ

نفوسٌ طابتْ وطاب أريجها، فأريجها القرآن والإسنادُ، إنه لا جرَم! فإنما نالوا ما نالوا بعزم أكيد، وصبر شديد. إنه لا غروَ! فقد قيل للشعبي -رحمه الله-: من أين لك هذا العلم كلّه؟ قال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب".

للعلم وبالعلم وحده، رحل جابرُ بن عبد الله من المدينة إلى الشام مسيرةَ شهر إلى عبد الله بنِ أنيسٍ -رضي الله عنه- في حديثٍ واحدٍ سمعه من النبي يقول: "يُحشَرُ الناس يوم القيامة عُراةً غُرْلاً بُهْمًا"، قلنا: ما بُهْمًا؟! قال: "ليس معهم شيء فيناديهم ربهم بصوتٍ يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار واحدٌ من أهل الجنة يطلبه بمظلمة"، قلتُ: كيف وإنما نأتي اللهَ عراةً بُهمًا؟! قال: بالحسنات والسيئات.

بالعلم والبذل نالوا النجم قد بلغت *** جوزاؤهم مُلْتَقَى الأفلاكِ واْلقَمَرِ

للعلم وبالعلمِ وحده قال كثيِّرُ بن قيس: كنتُ مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءَ رجلٌ فقال: يا أبا الدرداء: إني جئتك من مدينة الرسول في حديثٍ بلغني أنك تحدثُ عن رسول الله، قال: ما كانت لكَ حاجةٌ غيره؟! قال: لا، قال: ولا جئتَ لتجارة؟! قال: لا، قال: ولا جئتَ إلا فيه؟! قال: نعم، قال: فإني سمعتُ رسولَ الله يقول: "مَن سلك طريقَ علم سهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتها رضًا لطالبِ العلم، وإنَّ السمواتِ والأرضَ والحوتَ في الماء لتدعو له، وإنَّ فضلَ العالم على العابد كفضلِ القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظٍ وافر".

نفوس طابت وطاب أريجها! رعاها الله فقد تسنمت العلا، ونالت من العلياء كل مكان.

للعلم وحده حدث الإمامُ محمدُ بن عبد الباقي الأنصاريُ -رحمه الله- عن نفسه أنه قال: "حفظت القرآن ولي سبعُ سنين، وما من علم في عالم الله إلا وقد نظرت فيه وحصلت منه بعضه أو كله"!.

حتى وهو -رحمه الله- في حالك الشدائد وليالي الهون، وظلمة السجون، لا يمنعه ذاك من ارتشافِ علمٍ يُنتفع به.

لما أُسِر -رحمه الله- في أيدي الروم قيدوه، وجعلوا الغل في عنقه، وأرادوا منه أن ينطق بكلمة الكفر فلم يفعل؛ بل اهتبل حبسه عندهم وتعلم منهم الخطَّ الرومي! رحمه الله!

فلو أنَّ السماءَ دَنَتْ لِمَجْدٍ *** وَمَكْرُمَةٍ دَنَتْ لَهُمُ السَّمَاءُ
 

ليـت المدائـح تستـوفي مناقبَهُ *** فـمَا كُلَيْبُ وأهلُ الأعصُرِ الأُوَلِ
خُذْ ما تَرَاهُ وَدَعْ شيئًا سَمِعْتَ بِهِ *** في طلعةِ البَدْرِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه: 114].

 

 

الخطبة الثانية:
 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

إنه لا خُلدت أمة تبخس هذا العِلم حقه، وتبخس رجاله وأشرافه ورواده! إنه لا قدست أمة لا يُجل فيها شريفُها وعالمُها! إنه لا قدست -تعست وانتكست- أمة لا يُبلغ عالمُها حيث بلغه الله! إنه لا قدست أمة لم تقدِّر سنين عالمٍ سال مسك عرقه في سبيل معرفة ما يوصله ويُوصل أمته إلى الله.

ألا إنه لا قدسية ولا عصمة لأحد، ولكن؛ أنى لنا أن ننكر استفهام ربِّ العزة في كتابه، عن نفي المساواة بين العلماء وبين غيرهم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9].

ألا إنه تعست وانتكست أمة لا تصدر للأجيال من بعدها قصصَ الخلود من أناس باعوا دنياهم بعلم يركضون له آناء الليل وأطراف النهار وهم لا يفترون، إنه إن شئتَ حدثتك عن أحاديثهم عجبًا! فأحاديثهم أحلى في النفوس من المنى، وألطفُ من مرّ النسيم إذا سرى، في سبيل العلم كانوا لا يأبهون أماتوا في طريقه أم ماتوا دونه، لقد كانوا عجبًا من العجب.

ما الذي يجعل أحدهم يموت في طريق الرحلة في سبيل عدة أسانيد عالية، هو في غنية عنها؟! ما الذي يجعل أحدهم يأكل التراب في طريق الرحلة في سبيل أن يسمع من فلان معين مقصود؟! ما الذي يجعلهم يهيمون في الطرقات والليالي الكالحات الحالكات، الموحشات، في سبيل أشياءَ إن كانت لتُعد عندنا من التوافه الثانويات؟! ما الذي يجعل الإمام أحمدَ بنَ حنبل -رحمه الله- كثيرًا ما يُرى في سكك بغداد حاملاً نعليه راكضًا في دروبها، يتنقل بين حلقة وحلقة، كما يحدثنا عنه محمدُ بنُ إسماعيل؟! لأجل أي شيء كانوا يركضون ويلهثون وينصبون؟! ألأَجْلِ لُعاعة من الدنيا؟!

ما الذي يجعل ابنَ خِراشٍ -رحمه الله- وهو يحدثنا عن رحلته الشاقة في طلب العلم، والتي بها قال قولته الشهيرة التي صفق لها الزمان، وصدح بها كل مكان، يقول بعد رحلة مضنية شاقة صعبة عبوس قمطرير: "والله! لقد شربت بولي في طلب هذا الشأن! -يعني طلب الحديث- خمس مرات".

لقد وصل به حاله من المجاعة إلى أنه كان ينقذ حياته بأن يشرب بول نفسه خمس مرات في طلب الحديث! وذلك أنه كان يمشي في الفلوات والقفار لتحصيل العلم وتلقيه عن أهله، فيناله العطشُ الشديد في طريقه.

رعى الله تلك الأعظمَ النخراتِ! يعز عليها أن لا تموت على ثرى الخلود السرمدي، رعى الله تلك النفوس! فلقد ساروا إلى حيث الطريق مَهَامِه على أنهم قد شاهدوها مغاني؛ وإني أود أن أبشر كلَّ متكئ على أريكته يحسب أن المجد تمرًا يأكله بأن هؤلاء العظماء لم تُخلق نفوسهم من حديد، ولم تُطْلَ يومًا بالنار، بل إن لهم أرواحًا كأرواحنا، إنه لم تكن لأحدهم عظامٌ من صفوان يتحملون فيها البرد والحر وطول السفر؛ بل إن لهم أجسادًا كأجسادنا، ولكنما كانت لهم عزائمُ خلقت من نور لتضيء طرق العالمين بها، لم يتميزوا عن سواهم بغير أن لهم عزماتٍ تنطح النجوم، ونفسًا تقلقل الأجبال.

تلك المكارمُ لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالاً

إن كثيرًا من الناس في زماننا رضوا بأن يكونوا من الخوالف في ركاب الأمم، وفي ركاب الحضارة الحقيقية، فلم يتعلموا النافع، ولم يكابدوا الصعاب في سبيل تحقيق ما تصبو إليه أمتنا العلية؛ بل إنما يريد العلم والمجد والرفعة تأتيه على لحائف الرقود، ونوم كنوم الفهود، وهيهات! فالراحة الكبرى أقسمت ألا تُنال إلا على جسر من التعب!

تريدين لقيان المعالي رخيصة *** ولا بُدَّ دونَ الشّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْلِ

فكان من ثمار ذلك أن طفت فوق السطح أجيال هشّة هزيلة لا يمكن أن تقود، ولا تستطيعُ اللحاق بالقافلة الأممية، عزف بعضهم عن العلم النافع والقراءة المرشدة، فكان من ثمراته ما نرى من تخلف ركبنا عن بقية الركاب، كيف وقد كنا وكنا وكنا، ونحن الآن:

قد صرَّفتْنَا يدٌ كُنَّا نصرِّفُها *** وبات يملكنا شعب ملكناه

إن المجد الحقيقي لن يتحقق إلا بأخذنا أسبابَ مجدِ من سبقونا، ولن يكون المجدُ الحقيقي لأمة محمد حتى يصلح آخرها بما صَلُح به أولها، ولن يكون المجدُ الحقيقي إلا بالعلم والمطالعة، وشغل الأوقات والأعمار في سبيلها، حتى نستطيع أن نحقق موعود الله فينا إن نحن حققنا موعودنا له.

إن المجد والسمو الحقيقيين لا يكونان إلا بمكابدة الصعاب، وملاقاة الأهوال، في سبيل أن يكون المرء لبنة صالحة في هذا المحيط الكبير، بالعلم النافع والعمل الصالح.

إن العلم الذي ارتقى به أولونا وارتقت به أمم حولنا قادت العالم المعاصر لهي مرتبة سامقة من مراتب الحياة، مَن فقدها فهو من جملة الأموات، قبر يمشي على الأرض، يعيش صغيرًا ويدفن على عجل، فلا أثر ولا إيجابية.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا وعملاً.

اللهم إنا نسألك العلم النافع، والعمل الصالح، والفقه في الدين، وعلمنا السنة والتأويل، واجعلنا من العلماء العاملين وللمتقين أئمة.

اللهم صَلّ...
 

 

 

 

المرفقات

الزمان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات