أقصر طرق الجنة (سلامة الصدر)

راكان المغربي

2023-03-03 - 1444/08/11 2023-03-12 - 1444/08/20
عناصر الخطبة
1/أغلى أمنية للمؤمنين 2/سلامة الصدر أقصر طريق إلى الجنة 3/من صفات سليم الصدر 4/فضل ليلة النصف من شعبان

اقتباس

وكلُّ النفوسِ قد يصيبُها شيءٌ من الحسد، لكنَّ سليمَ الصدرِ إن نما في قلبه شيءٌ من ذلك كَبَتَ الحسدَ وأخفاه، وطوَّعَ نفسَه لمحبةِ الخيرِ لأخيه، وألزمَها الدعاءَ له سراً وجهراً بأن يباركَ اللهُ له فيما أعطاه، وكما قيل: "مَا خلا جَسَدٌ من حسدٍ، لَكِنَّ اللَّئِيمَ يبديه...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أما بعد: لو سألتُ كلَّ واحدٍ منكم معاشر الحضورِ الكرام: ما هي قائمةُ أمنياتِك وغايةُ مطامعِك؟ لا شك أن الإجاباتِ ستختلف، فكلٌّ منا له أحلامُه وآمالُه، إلا أن ثمَّةَ أمنيةً لا بد أننا سنجدها متكررةً في كل الإجابات، بل إننا سنجدُها في أعلى القوائم.

 

لعلكم عرفتُم ما هي؟ إنها دخولُ الجنة، الجنةُ! وما أدراك ما الجنة؟! تلك الدار التي جمعت كلَّ صنوفِ المتع، وكَمُلَت فيها كلُّ لذائذ النعيم، تلك الدار التي ما إن تضع رجلَك فيها حتى ينسيك نعيمُها كلَّ بؤس، وتُغَيِّبُ بهجتُها كلَّ تعبٍ وكلَّ كدر؛ (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)[يس: 55 - 58]، اللهم اجعلنا من سكانها وأهلِ الدرجاتِ العلى فيها.

 

عباد الله: حديثنا ليس عن الجنة، بل عن الطرقِ الموصلةِ إليها، وبالأصح سنتحدثُ عن أقصرِ الطرقِ إليها، حديثنا عن طريقٍ إلى الجنة، لا تحتاجُ فيه إلى عظيمِ اجتهاد، ولا طولِ ترحال، ولا كثيرِ حرمانٍ من المحابِّ والشهوات، فهو طريقٌ يوصلك إلى أعظمِ أمانيك وأغلى أحلامك، بأقلِّ الجهود، وأيسرِ السبل، يقول الأكفانيُّ -رحمه الله-: "أقصر طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر"، وقال سفيان بن دينار: قلت لأبي بَشِير: أخبرني عن أعمالِ من كان قَبْلنا؟، قال: "كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا"، قلت: ولم ذاك؟ قال: "لسَلَامة صدورهم".

 

وقد يظنُّ الظانُّ أنهم حين يدخلون الجنةَ فلن يكونوا من خيارِ أهلِها؛ وذلك ليُسْرِ عملهم، ولكن الحقيقةَ أنهم يتربعون على عرشِ الأفضليةِ بين الناس بشهادةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قيل لرسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ-: أيُّ الناسِ أفضلُ؟ فقال: "كلُّ مخمومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ"، قالوا: صدوقُ اللسانِ نعرفُه فما مخمومُ القلبِ؟ قال: "هو التقيُّ النقيُّ، لا إثمَ فيه ولا بغيَ، ولا غِلَّ ولا حسدَ".

 

وسليمُ الصدرِ -يا عباد الله- له صفاتٌ يتحلى بها، وسماتٌ يتزين بها, فمن ذلك: أنه كثيرُ الصفح، عظيمُ العفو، يعفو عن زوجِه وأولادِه، يعفو عن خدمِه وعمّالِه، يعفو عن رئيسِه ومرؤوسيه، يعفو عن أساتذتِه وطلابِه، بل يعفو حتى عن ألدِّ أعدائِه وخُصمائِه.

 

هو كثيرُ الصفح, فيصفحُ المرةَ تلوَ المرة، لا يكلُّ ولا يملُّ، جاء رجلٌ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسولَ اللهِ، كم نعفو عن الخادمِ؟ فصمَتَ، ثم أعادَ عليه الكلامَ، فصَمَتَ، فلما كان في الثالثةِ قال: "اعفُوا عنه في كل يومٍ سبعين مرةً".

 

هو عظيمُ العفو، فيعفو ولو كَبُرَ الخطأ، ويعفو ولو عَظُمَ الأذى، قدوتُه في ذلك سادةُ الخلقِ من الأنبياءِ والصالحين.

 

هذا يوسفُ -عليه السلام- رماه إخوانُه وأقربُ الناس إليه في البئر، بسببِهم انتقلَ من الحرية إلى العبودية، بسببِهم ابتليَ فلبث في السجن بضعَ سنين، بسببهم تغرَّبَ عن أمه وأبيه السنينَ الطوال، فلما لقيهم بعد كلِّ تلك المآسي والمعاناة، إذا به يتكلم بالعجبِ العجاب، وينطقُ بالعذبِ الزُّلال؛ (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 92].

 

وهذا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، تقول له عائشة: هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فقالَ: "لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ، فَنادانِي فقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ"، فقالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا".

 

إنها الأخلاقُ العاليةُ، والقلوبُ الراقيةُ، والنفوسُ السامية؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90].

 

ومن صفاتِ سليمِ: الصدر أنه لا يسجّلُ العداوات، ولا يحفظُ السيئات، ولا يُشغِلُ نفسَه بالخصومات، لن تجدَ في قاموسه الحقد ولا التدابر، ولا الهجر ولا التقاطع، يضع نصبَ عينيه الوصيةَ النبويةَ الغاليةَ، حين قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَباغَضُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْوانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أيَّام".

 

يفرُّ من البغضاءِ لأنه يعلم أنها الحالقةُ التي تحلقُ الدين، الذي طالما عملَ في بنائِه ورَفْعِ عمادِه، ما يلبث أن ينزغَ الشيطان بينه وبين أخيه، حتى يكون هو أسرعَ في الاعتذار، وأسهلَ في تناسي الخصومة.

 

وهو يخشى طالت الشحناءُ أن يُحرم المغفرة، وأن يباعدَ بينه وبين الجنة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ يَومَ الاثْنَيْنِ ويَومَ الخَمِيسِ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا رَجُلًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا".

 

ومن صفات سليمِ الصدرِ: أنه لا يتَقَصَّى العثرات، ولا يبحثُ عن الزلات، بل يحسنُ الظنَّ في إخوانه، ويلتمسُ لهم الأعذار، ويحملُ أفعالَهم وأقوالَهم على أحسنِ المحامل، ويبتعدُ عن كل ما يفسدُ سلامةَ صدره تجاهَهُم، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يدخلْ الإيمانُ قلبَه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم؛ فإنه من اتَّبعَ عوراتِهم يتَّبعُ اللهُ عورتَه، ومن يتَّبعِ اللهُ عورتَه يفضحُه في بيتِه"، قال ابنُ سيرين: "إذا بلغكَ عن أخيك شيءٌ فالتمسْ له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه".

 

ومن صفاتِ سليمِ الصدرِ: أنه يحبُّ الخيرَ لإخوانه، ولا يحَسِدُهم على فضلٍ أعطاهم اللهُ إياه، بل يرجو لهم كلَّ خير، ويحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، قال ابن عباس: "إني لأسمعُ أن الغيثَ قد أصاب بلدًا من بلدان المسلمين فأفرحُ به، ومالي به سائمة".

 

وكلُّ النفوسِ قد يصيبُها شيءٌ من الحسد، لكنَّ سليمَ الصدرِ إن نما في قلبه شيءٌ من ذلك كَبَتَ الحسدَ وأخفاه، وطوَّعَ نفسَه لمحبةِ الخيرِ لأخيه، وألزمَها الدعاءَ له سراً وجهراً بأن يباركَ اللهُ له فيما أعطاه، وكما قيل: "مَا خلا جَسَدٌ من حسدٍ، لَكِنَّ اللَّئِيمَ يبديه والكريمَ يخفيه".

 

ومن صفاتِ سليمِ الصدرِ: أنه مرتاحُ البال، بعيدٌ عن الغموم، سليمٌ من الخصومات، فهو بذلك في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، يتنعمُ بجزءٍ من نعيمها قبل أن يكون من أهلها الذين قال اللهُ فيهم يبين عِظَمَ نعيمِهم؛ (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الحجر: 47]، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- واصفا حالَهم: "قُلُوبُهُمْ علَى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ، لا اخْتِلَافَ بيْنَهُمْ ولَا تَبَاغُضَ".

 

هذا هو سليمُ الصدر، وهذا هو قلبُه المنعم، وروحُه المطمئنة، ونفسُه الهادئة، ووعدُ الصدقِ الذي ينتظره في الآخرة، فهل اشتقت لتكون أنت ذاك الرجل؟ "اسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ"، "وإنما الحِلمُ بالتَّحلُّمِ، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطَهْ، ومن يتَّقِ الشرَّ يُوَقَه".

 

أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

بعد أيام ستقبل علينا ليلة النصف من شعبان، والتي ورد فيها حديث حسنه بعض أهل العلم، يُروى فيه أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يطَّلعُ اللهُ إلى جميع ِخلقِهِ ليلةَ النصْفِ مِن شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَميعِ خَلْقِهِ إلا لِمُشْرِكٍ أوْ مُشاحِنٍ".

 

إذا نحن أمام فرصة للمغفرة، المغفرةُ الشاملةُ للجميع إلا للمشرك والمشاحن، ذلك الذي أساء إلى ربه وظلم نفسَه، وساوى اللهَ الخالقَ بالمخلوقين الضعفاء، فأشرك بالله ولم يُخلصْ قلبُه له، فيكله اللهُ إلى شركائه، ولينظرْ هل يجدُ منهم نفعا أو ضرا؟!.

 

وأما الثاني المحروم، فهو الذي امتلأ قلبُه حسدا وغلا وحقدا على عباد الله، فهو مقاطعٌ لهذا، ومخاصمٌ لذاك، وهاجرٌ لهذا، ومعادٍ لذاك، فإن استمر على ذلك فسيكون في عداد المحرومين.

 

فسابقوا -يا عباد الله- إلى العفو (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22]، طهروا قلوبكم، وسلموا صدوركم، واصفحوا عن إخوانكم؛ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 133، 134].

 

وننبهُ إلى أنه لم يرد في النصوص الشرعية ما يحثنا على تخصيص ليلة النصف من شعبان بشيء من العبادة، كقيام ليلها أو صيام نهارها أو غير ذلك، ففعل ذلك من البدع المحدثة التي لم تشرع في ديننا و"مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ"، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

ربنا تقبل توباتنا وأجب دعواتنا، وثبت حجَجَنا، واهد قلوبنا، وسدِّد ألسنتنا، واسللْ سخائم صدورنا.

 

 

المرفقات

أقصر طرق الجنة (سلامة الصدر).doc

أقصر طرق الجنة (سلامة الصدر).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات