أقسام الذنوب والمعاصي (2)

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:
عناصر الخطبة
1/ المصائب من آثار الذنوب 2/ باب عظيم معين على ترك المعاصي 3/ الخطأ طبيعة بشرية 4/ خطر تسويف التوبة

اقتباس

والواجبُ على العبد أن يتقيَ الله تعالى، وأن يُحقِقَ العبوديةَ التي خلقَهُ الله لأجلِهَا وأوجَدَه لتحقيقها، فيكون عبدًا لله، مستكينًا لجَنابه، متواضعًا مطمئنًا، خاشعًا متذلِّلاً مقبلاً على طاعة ربه وسيده ومولاه، بعيدًا كل البعد عن المعاصي والآثام، والذنوب والخطايا التي لا يزداد فيها من الله إلا بعدًا، ولا يزداد فيها إلا قربًا من الشر، فيجني على دينه ودنياه.

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. 

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى، وراقبوه في السر والعلانية، والغيبِ والشهادة، مراقبةَ من يعلم أن ربَّه يسمعه ويراه، واعلموا رعاكم الله، أن تقوى الله -جلّ وعلا- هي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه، وهي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وهي وصية السلف الصالح فيما بينهم، ولما قال رجل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: اتقِ الله، قال: لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها.

وتقوى الله -جلّ وعلا-: عملٌ بطاعة الله، على نور من الله، رجاء رحمة الله، وتركُ معصية الله، على نور من الله، خيفة عذابِ الله.

معاشر المؤمنين: وعَودًا إلى الحديث عن الذنوب والمعاصي، حيثُ سبق بيان أقسامها، وأنها تنقسم إلى فعل محظور، وترك مأمور، وتنقسم إلى أمور تتعلق بحقوق الله، وأمور تتعلق بحقوق العباد، وتنقسم من حيث حجمها إلى كبائر وصغائر، وهي أخطر ما يكون على الإنسان، وأضر ما يكون على العبد في دينه ودنياه؛ فأخطارها لا تُحصى، وأضرارها لا تعد ولا تستقصى، ولو حاول مُحَاولٌ حصرَ واستقصاء أضرار الذنوب - لما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ كيف -عبادَ الله- يكون ذلك، وكلُ بلاءٍ يَحلُّ وكل مصيبة تَنْزِلُ إنما هي أثر من آثار الذنوب ونتيجةٌ من نتائجها؛ كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة".

وشاهد هذا -عباد الله- في القرآن في مواضع كثيرة جدًّا، منها قول الله تعالى: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت: 40]، وقول الله -تبارك وتعالى-: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً) [نوح: 25]، أي بسبب خطيئاتهم، ويقول الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، ويقول الله -تبارك وتعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) [الروم: 41]، ويقول الله -تبارك وتعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، والآيات في هذا المعنى -عباد الله- كثيرة، ولهذا الواجب على العبد في حياته، أن يكون مجانبًا للذنوب، مبتعدًا عنها، غير مُقارف لها، وإذا ألَمَّ بشيء منها سارع إلى التوبة إلى الله والإنابةِ إليه -سبحانه وتعالى-.

عبادَ الله: وها هنا أمرٌ عظيم يجدر التنبيه عليه، يتعلق بالذنوب ووجودها في العباد، وسببِ تحركِهَا في نفوسهم، وهيجانها في قلوبهم، وإقبالهم عليها، قد يقول قائل من الناس: ما الباعث إلى الذنوب؟! معَ علمِ الإنسان بأخطارها وأضرارها عليه في دينه ودنياه؟! وهذا باب عظيم يتعلق بالمعاصي والكبائر يجدر بالمسلم أن يعرفه، وأن يكون على علم به؛ ليسُدَّ الطريق ويُغلِقَ المنافذ.

قال أهل العلم: إن الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام من حيث أصلها وبواعثها ومهيجاتها في النفوس: أما القسمُ الأول: فهي الذنوبُ الملكية: وهي التي يتعاطَى فيها العبد من صفات الله -تبارك وتعالى- ما لا يليق بالعبد، كالعلو والعظمة، والتكبر والتعالي والجبروت، والاستعباد للناس والتعالي عليهم، إلى غير ذلك من الخصال، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله -تبارك وتعالى- يقول: "العظمةُ إزاري، والكبرياءُ ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار". وقال الله -جلّ وعلا- في وصف فرعون بأنه علا في الأرض: (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:72]، والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ فالتكبر والتعالي والجبروت والطغيان واستعباد الناس ونحو ذلك أوصاف إذا اتصف بها العبد، أذل نفسه وأهانها، وكان من أحقر العباد وأهونهم على الله؛ ومن يُهِنِ الله فما له من مكرم.

القسم الثاني -عبادَ الله-: الذنوبُ الشيطانية، وهي الذنوب التي يتشبهُ فيها العبد بالشيطان الرجيم، ومنها الغِشُّ والحقدُ والحسدُ والكذبُ، والأمرُ بالمعاصي والترغيبُ فيها، والنهي عن الطاعات وتهجِينُها، والدعوةُ إلى البدع والضلالات واقتراف الآثام؛ فكل هذه الأعمال والصفات من أعمال الشيطان وصفاتِه؛ فَمَن قَارفها وفَعلها كان مُتشَبهًا بالشيطان الرجيم.

والقسمُ الثالثُ -عباد الله-: الذنوبُ السَبُعية: وهي التي يتشبه فيها العبد بالوحوش الضارية والحيوانات المفترسة، وهذا يتناول أنواعًا عديدة من الذنوب؛ منها الغضبُ والعدوانُ، والبغيُ والظلمُ، والتعدِّي على أعراضِ الناس وأموالهِم وحقوقِهم وممتلكاتهم، ومنها القتلُ وأكلُ الأموال بالباطل، والتعدِّي على الناس والجورِ؛ فكل هذه الذنوب -عباد الله- ذنوب فيها تشبه بالسباع الضارية والحيوانات المفترسة، ولهذا يقول بعض الناس عن بعض الأشخاص ممن تظهر عليهم هذه الصفات، يقولون: هذا وحش من الوحوش، هذا ليس بإنسان؛ بسبب ما ظهر عليه من صفات الوحوش الضارية والحيوانات المفترسة.

والقسمُ الرابعُ -عبادَ الله- من الذنوب: هي الذنوب البهيمية: وهي التي يتشبه فيها الإنسان ببهيمة الأنعام، ومنها الشّرَهُ، والحرصُ على شهوة البطن والفرج؛ فلا هم له إلا شهوة بطنه وشهوة فرجه، ويتولد منها -عباد الله- الزنا واللواط والسرقة، وأكلُ أموال اليتامى، والشحُّ والبخلُ والأنانية، وغير ذلك من الصفات التي يولِّدُها الشّرَهُ ويولدها حرص الإنسان على شهوةِ فرجهِ وبطنِه كيفمَا اتفق.

هذا؛ والواجبُ على العبد أن يتقيَ الله تعالى، وأن يُحقِقَ العبوديةَ التي خلقَهُ الله لأجلِهَا وأوجَدَه لتحقيقها، فيكون عبدًا لله، مستكينًا لجَنابه، متواضعًا مطمئنًا، خاشعًا متذلِّلاً مقبلاً على طاعة ربه وسيده ومولاه، بعيدًا كل البعد عن المعاصي والآثام، والذنوب والخطايا التي لا يزداد فيها من الله إلا بعدًا، ولا يزداد فيها إلا قربًا من الشر، فيجني على دينه ودنياه.

نسأل الله -جلّ وعلا- أن يعيذنا وإياكم من سخطه، وأن يجنبنا كل ما يُسخِطُه، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيمًا، وأن يرزقنا توبة نصوحًا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يعيذنا من شر كل دابة هو آخذ بناصيتها، وأن يوفقنا لهداه، وأن يجعل عملنا في رضاه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلي الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله؛ فإن من اتقَى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه. عبادَ الله: إن كلَّ بني آدم خَطَّاء، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "وخيرُ الخطائين التوابون"، وفي الحديث الآخر يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم".

عبادَ الله: الخطأ من طبيعة الإنسان، لكن ليس مما يليق به أن يكونَ متمادِيًا في الخطأ مستمرًا عليه؛ ليلقى الله بأخطائه وآثامه وجرائره وذنوبه ومعاصيه، بل الواجبُ على العبد العاقل، أن يُقبِلَ على الله تائبًا، وأن يرجع إليه منيبًا، وأن يكونَ دائمًا ملازمًا للاستغفار، والله -جل ّوعلا- دعا عباده أجمعين إلى التوبة النصوح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم: 8]؛ أي بالندمِ على فعل الذنوب، والعزمِ على عدم العودة إليها، والإقلاعِ عنها تمامًا، ومن تاب تاب الله عليه، مهما بلغَ جُرمُه ومهما كان ذنبُه، فإن الله -تبارك وتعالى- يغفرُ الذنوب جميعًا، وأرجى آية في كتاب الله قول الله -تبارك وتعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].

ولا يليق بالمسلم أن يُؤخِّرَ التوبةَ، أو يُسَوِّفَ في الإتيانِ بها؛ لأنه لا يدري متى يَدهَمُهُ الموتُ، وقد جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تقبل توبة أحدكم ما لم يغرغر"، وكذالك جاء في الحديث أن باب التوبة مفتوحٌ، ما لم تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طُبِعَ على كلِّ قلبٍ بما فيه، فالواجب علينا أجمعين -عباد الله- أن نبادرَ إلى توبة نصوحٍ إلى الله -جلّ وعلا-، نغادر فيها الذنوب، ونُوَدِّعُ فيها الخطايا، ونُقبل على الله إقبالاً صادقًا، راجين رحمتَه، خائفين من عذابه، مقبلين على طاعته وما يقرب إليه.

اللهم وفقنا للتوبة النصوح، اللهم وفقنا للتوبة النصوح، اللهم وَفِّقنا للتوبة النصوح، اللهم اشرح صدورنا للتوبة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اهدنا للتوبة، اللهم أعنا على التوبة، اللهم وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واغفر زلتنا، واستر عيبنا، يا ذا الجلال والإكرام، واجعلنا من عبادك المتقين.

وصلوا -رعاكم الله- على قدوة الموحدين وإمام التائبين، محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا". اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمّة المهديين: أبى بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين، وعنّا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأَذِلِّ الشرك والمشركين، ودَمِّر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين، الله أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وأعنه على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام، وارزُقه البطانةَ الناصحةَ الصالحةَ، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة ورأفةً على عبادك المؤمنين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقي والعفة والغنى، اللهم أصلِحْ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرِجْنا من الظلمات إلى النور، ورُدَّنا إليك رَدًّا جميلاً يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم وتب علينا يا تواب، اللهم اغفر لنا ذنبنا كلَّه: دِقَّه وجلَّه، أوَّلَه وآخِرَه، سرَّه وعلنه، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونَنَّ من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
 

 

 

 

 

 

المرفقات

الذنوب والمعاصي2

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات