عناصر الخطبة
1/بركات نشر السلام وإفشائه 2/إطعام الطعام يجلب المودة والألفة والرحمة 3/صلة الرحم سعة في الرزق وبركة في العمر 4/فضل قيام الليل وبركاته 5/العاقبة الحسنة لأهل البر والتقوىاقتباس
صلةُ الرحمِ بالقولِ الطَّيِّبِ، والوجهِ النيِّر، وتعاهدهم بالزيارة والنصح، ومسانَدة المكروب، وعيادة المريض، والصفح عن عثراتهم، واجتناب الإضرار بهم قولًا أو فعلًا، الأرحام مِنْ نِعَم الله، فهم سند في الحياة متين، وعضد في النوائب معين، هم سرور في الحزن، وعز في الذل، وسعة في الضيق...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله صاحب الفضل والإنعام، أحمده -سبحانه- وأشكره، على نعمة الهداية للإسلام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ)[الْمَائِدَةِ: 16]، وأشهد أن سيدنا ونبينا عبده ورسوله، نطق بالحكمة والبيان وخير الكلام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فمن اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
عن عبد الله بن سلام قال: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-ثَلَاثًا-، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"(رواه الترمذي، وابن ماجه).
حديث عظيم، جمع جَلال الدين وجَمال الإسلام؛ ليؤسس منظومة المجتمع المتآخي الراقي، المتكاتف، مجتمع العطاء والرحمة والسخاء، الذي يتَّسم بمكارم الأخلاق ونُبل المعامَلة، وهو حديث عميق في معناه، قويٌّ في مبناه، عظيمٌ في مغزاه، يَبقى أثرُه في نفس من سمعه ورواه، فيه أعمال تُقوِّي الوشائج، وترتقي بسلوك المجتمع وتنميته، وتخفف الفقر، وتشيع الأمن، وتنقي المجتمع من الضغائن والأحقاد ولوثات النفوس، هذا الحديث من أوائل أقواله -صلى الله عليه وسلم- أول مقدمه المدينة؛ ليؤكد أهمية التكافل في المجتمع، وتقوية لحمته، ورص صفوفه قلبا وقالبا، وأن يحمل الغني الفقير، والميسور المعسر، وأن يبذل المستطيع ما يستطيع من كلمة طيبة، وسلوك ندي، وصلة موصلة إلى الدرجات العلا، الغاية التي يسعى إليها كل مسلم، ويتمنَّى بلوغها كلُّ عاقل، هي الجنة، والحديث يرسم المسار الذي يُبلِّغك المبتغى، فإذا أردتَ بلوغَ الجنة فطريقُ ذلك عمارةُ الأرض، وإصلاحُ الحياة الدنيا، بنفس مشرقة بالبِرِّ والخيرِ، في تناسُق بديع بين أعمال الدنيا وأشواق الآخرة؛ "يا أيها الناس، أفشوا السلام"، انشروا السلام، وأحيوا سنته، بالإكثار ورفع الصوت به، فعن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- أنه قال: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار"(رواه البخاري مرفوعًا).
السلام عليكم، جملة قصيرة المبنى، عظيمة المعنى، تحمل في مضامينها رسالة محبة، وعنوان مودة، يحلو بها اللسان، يرسل قائلها إلى كل من سمعها الأمن والأمان على الأنفس والأعراض والأموال، فيشيع السلم والسلام في المجتمع، والسلام غاية الإسلام، روى مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ".
السلام تحية من عند الله، وعبادة وثواب، وسمة المسلم التي يعلو بها على من سواه، فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: قيل: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان، أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال: أولاهما بالله"(رواه الترمذي)؛ أي: أقرب المتلاقيينِ إلى رحمة الله، مَنْ بدأ بالسلام، والسلام مِنْ موجبات المغفرة والرحمة، فعن هانئ بن يزيد -رضي الله عنه- قال: "قلتُ: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يدخلني الجنة. قال: إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام"(رواه الطبراني).
"أفشوا السلام" إحسان بالقول، و"أطعِموا الطعام" إحسان بالفعل، وترسيخ لقيمة البذل والتآلف، واستدعاء لمعاني الأخوة وحسن الجوار، فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الإسلام خير؟ قال: تُطعم الطعامَ، وتقرأ السلام على من عرفتَ ومَنْ لم تعرف".
وإطعام الطعام يشمل الصدقة والهدية والضيافة وإطعام الفقراء ابتغاء وجه الله، وتزداد الحاجة إليها في أوقات المجاعة وغلاء الأسعار، وإطعام الطعام يشمل سائر المخلوقات؛ فإن الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا: "يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لَأجرًا؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر"(رواه البخاري).
لا يستقلُّ المرء في إطعام الطعام أيَّ مقدار، ولو كان شق تمرة، فإنها تربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذَها الرحمنُ بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله"(رواه البخاري، ومسلم).
تلك قِيَم نبيلة يُربِّي عليها الإسلام، وصفات جليلة، تغرس في بنية المجتمع المسلم التقوى، وتبرز قيم الإسلام السمحة للعالم أجمع.
"وصِلُوا الأرحام"، الأرحام هم كل من تربطك بهم رحم أو قرابة، من جهة الأب أو الأم، وحقهم في البذل والعطاء مقدم على اليتامى والفقراء، قال الله -سبحانه-: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[الْبَقَرَةِ: 215]، والسخاء عليهم ثواب مضاعَف، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان؛ صدقة وصلة"(رواه النسائي).
صلة الرحم بالقول الطيب، والوجه النيِّر، وتعاهدهم بالزيارة والنصح، ومسانَدة المكروب، وعيادة المريض، والصفح عن عثراتهم، واجتناب الإضرار بهم قولًا أو فعلًا، الأرحام مِنْ نِعَم الله، فهم سند في الحياة متين، وعضد في النوائب معين، هم سرور في الحزن، وعز في الذل، وسعة في الضيق، وجبر نفس في المصاب.
"وصلوا بالليل والناس نيام"، وردت هذه العبادة العظيمة بعد الدعوة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام؛ للدلالة على أثرها في التعاملات والمعاملات، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ عَمَّا تَقُولُ"(رواه أحمد). صاحب قيام الليل يصبح طيب النفس، نشيطا، يعان على عمله سائر يومه، وقت عظيم، تخلو فيه النفس وتناجي خالقها، زمن إجابة الدعاء، ونزول الرب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَنْزِلُ رَبُّنَا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟"(رواه البخاري).
"تدخلوا الجنة بسلام"، وصفٌ بليغ طيب، من رب رحيم، وصف ناطق بالحفاوة، التي هي عطاء الله الخالص لخواصه، ودخول الجنة بسلام ظاهره أنه بلا عقاب ولا عذاب، تدخلوا الجنة بسلام، فمن صبر على المشقة، وصابَر على جفاء الناس، وأمضى حياته في طريق السلام والإحسان، بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وقيام الليل، فإن الجزاء من جنس العمل، قال الله -تعالى-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)[النَّحْلِ: 30].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولي الصابرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا"، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "هِيَ لِمَنْ قَالَ طَيِّبَ الْكَلَامِ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ"(رواه الترمذي من حديث علي -رضي الله عنه-)، وقد أشار العلماء إلى أن العطف بالواو في هذا الحديث يقتضي اشتراط اجتماع الأمور المذكورة.
ألَا وصلُّوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، نسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم إنا نسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير الفلاح، وخير العمل، وخير الدعاء برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تَدَعْ لنا ذنبا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا دَينًا إلا قضيتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا مبتلًى إلا عافيتَه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظ رجال أمننا، واحفظ حدودنا، واحفظنا بحفظك يا رب العالمين، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين، ووفق ولي عهده لما تحب وترضى يا أرحم الراحمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم