عناصر الخطبة
1/أحداث غيرت مجرى التاريخ 2/قبض الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد كمال الدين 3/مصيبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 4/بداية مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم 5/بعض أعمال النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته 6/اشتداد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم 7/حمل الرسول صلى الله عليه وسلم هم الأمة 8/بعض وصايا النبي صلى الله عليه وسلم 9/صفة وفاته صلى الله عليه وسلم 10/بعض مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 11/بعض العظات والعبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلماقتباس
أيها الإخوة: إن في حادثة وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم من العظات والعبر الشيء الكثير نشير إلى بعضها: جهل من يحتفلون بالمولد، وذلك أن وقت وفاته صلى الله عليه وسلم هو وقت ولادته، ولو اتبعوا السنة من عدم الاحتفال بالمولد لما وقعوا بذلك. زهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا مع أن الله -سبحانه- ضمن له خزائن الدنيا، والخلود فيها والجنة، فآثر لقاء ربه والجنة؛ لأن الدنيا ليس همها له هم، ولأن لقاء الله لا يعدله شيء من متاع الدينا. إن التنافس على...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
ففي هذا الشهر شهر ربيع الأول وقعت أحداثا عظاما غيرت مجرى التاريخ، ففيه ولد رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا الشهر دخل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- طيبة الطيبة مهاجرًا، وفي هذا الشهر أيضًا وقعت أعظم مصيبة في تاريخ الأمة وهي مصيبتها في وفاته صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: لما بلغ هذا الدين ذروة الكمال، ونزل قول الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].
وبلّغ رسول الله الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وربى الأمة تقلدت مهام النبوة ومسئولياتها، من غير نبوة، وكلفت النهوض بالدعوة وصيانة الدين من التحريف، وكانت كما قال الله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].
وضمن الله لهذا القرآن الذي هو أساس هذا الدين، ومصدر الإيمان واليقين بالبقاء والنقاء، فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
وأقر الله عين نبيه -صلى الله عليه وسلم- بدخول الناس في هذا الدين أفواجا، وبدأت طلائع انتشاره في العالم؛ وظهوره على الأديان كلها، فقال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) [النصر: 1-2]".
في هذا الوقت أذن الله لنبيه –صلى الله عليه وسلم- باللقاء! اللقاء الذي لم يكن أحدٌ أشدَ شوقًا له منه، وقد أحب الله لقاءه كما أحب الرسول لقاء ربه.
وقد هيأ الله الصحابة بما سبق من الآيات لسماع نبأ الوفاة، وهم على يقين على أن رسول الله مودعهم في يوم من الأيام.
ولكن شدة محبتهم له أنست كثيرًا منهم قول الله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)[آل عمران: 144].
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ"
قال ابن حجر: "دعا لهم، واستغفر لهم، حين علم قرب أجله، مودعا لهم بذلك".
"ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: "إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ وَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْحَوْضُ وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا قَالَ فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-"[رواه البخاري].
أيها الإخوة: كانت بداية شكوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد حجة الوداع في ليالٍ بقين من صفر، أو في أول شهر ربيعٍ الأول من العام الحادي عشر الهجري.
عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ أَنّي قَدْ أُمِرْت أَنْ أَسَتَغْفِرُ لِأَهْلِ هَذَا الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي" فَانْطَلَقْت مَعَهُ فَلَمّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: "السّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ لِيَهْنِئَ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمّا أَصْبَحَ النّاسُ فِيهِ، أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوّلَهَا، الْآخِرَةُ شَرّ مِنْ الْأُولَى".
ثُمّ أَقْبَلَ عَلِيّ، فَقَالَ: "يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إنّي قَدْ أُوتِيت مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدّنْيَا وَالْخُلْدِ فِيهَا، ثُمّ الْجَنّةُ فَخُيّرْت بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبّي وَالْجَنّةِ".
قَالَ فَقُلْت: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، فَخُذْ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمّ الْجَنّةَ، قَالَ: "لَا وَاَللّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ لَقَدْ اخْتَرْت لِقَاءَ رَبّي وَالْجَنّةَ" ثُمّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمّ انْصَرَفَ فَبَدَأَ بِرَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَعُهُ الّذِي قَبَضَهُ اللّهُ فِيهِ"[رواه ابن إسحاق بسند حسن].
وعنده بسند صحيح، قَالَتْ عَائِشَةَ: رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ الْبَقِيعِ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي، وَأَنَا أَقُولُ وَارْأَسَاهُ، فَقَالَ: "بَلْ أَنَا وَاَللّهِ يَا عَائِشَةُ وَارْأَسَاهُ" قَالَتْ: ثُمّ قَالَ: "وَمَا ضَرّك لَوْ مُتّ قَبْلِي، فَقُمْت عَلَيْك وَكَفّنْتُك، وَصَلّيْت عَلَيْك وَدَفَنْتُك؟" قَالَتْ قُلْت: وَاَللّهِ لَكَأَنّي بِك، لَوْ قَدْ فَعَلْت ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْت إلَى بَيْتِي، فَأَعْرَسْت فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِك، قَالَتْ: فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَتَامّ بِهِ وَجَعُهُ، وَهُوَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ حَتّى اسْتَعَزّ بِهِ وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَدَعَا نِسَاءَهُ فَاسْتَأْذَنَهُنّ فِي أَنْ يُمَرّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَ لَهُ.
وعند ابن أبي شيبة قَالَ: "أَيْنَ أَكُونُ غَدًا؟" قَالَوا: عَنْدَ فُلاَنَةَ، قَالَ: "أَيْنَ أَكُونُ بَعْدَ غَدٍ؟" قَالَوا: عَنْدَ فُلاَنَةَ، فَعَرَفْنَ أَزْوَاجُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ عَائِشَةَ، فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ وَهَبْنَا أَيَّامَنَا لأُخْتِنَا عَائِشَةَ.
أيها الإخوة: أشدُ الناسِ بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثلُ فالأمثل.
ولقد اشتد على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المرض، حتى قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-"[رواه البخاري].
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: "دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ" قَالَ: فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَجَلْ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"[رواه البخاري ومسلم].
وقالت: "واشتدَ بالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الأمر، حتى أنه لم يَسْتَطِعْ الخُرُجَ من بيت ميمونةَ إلى بيتِي إلا بَيْنَ رَجُلَيْنِ، تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَرْضِ، بَيْنَ عَمِّه العَبَّاسٍ وَعَلِيِّ".
ومع ذلك فإن هم الأمة هو همه الأول، ويتجلى هذا الهم بالمواقف التالية: "حَدِّثَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ بَعْدَمَا دَخَلَ بَيْتَهَا وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ، قال: "اهَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ" وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ -وهو الطست- لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ من تِلْكَ القِرَبِ، حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا بِيَدِه: "أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ".
وذلك من أجل تخفيف حرارة الحمى عليه.
قَالَتْ: "ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ وقَدْ عَصَّبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ المِلْحِ فِي الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ" فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-.
وقالت: "وحَذَّرَ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ منْ فعل اليهودي والنصارى، فقال: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا قَالَتْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا".
ومن ذلك وصيته بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب، ومن وصاياه وصيته بالصلاة، قَالَ عَلِيٌّ: "كَانَ آخِرُ كَلامِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّلاةَ الصَّلاةَ، اتَّقُوا اللهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" [حديث صحيح رواه أحمد].
قال أَنَسُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، كَشَفَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، سِتْرَ الْحُجْرَةِ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا، وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ -عبارة عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته- ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَاحِكًا" قَالَ: "فَبُهِتْنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ فَرَحٍ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَارِجٌ لِلصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ".
قَالَ: "ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَرْخَى السِّتْرَ".
قَالَ: "فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ".
قالت عائشة رضي الله عنها-: "واشتد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المرض، وكان بين يديه علبةٌ فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء، فيمسحُ بها وجهه، ثم يقول: "لا إله إلا الله" إن للموت سكرات".
فلمّا ثقل جعل يتغشاه الموت، فقالت فاطمة -رضي الله عنها-: "وكرب أبتاه" فقال: "ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم".
ثم نصب يده، فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض وفاضت روحه الطيبة الطاهرة إلى بارئها؛ فمالت يده".
قالت عائشة -رضي الله عنها -: "توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري" أي: بين صدري وعنقي.
فصلوات ربي وسلامه عليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتفرد بالبقاء وقد حكم على ما سواه بالفناء، فقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن: 26].
لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.
وأشهد أن محمد عبده ورسوله اختار لقاء ربه على الحياة بدار الفناء، بعد أن أدى أكمل الأداء، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
وتسرب النبأ الفادح من البيت المحزون، وله طنين في الأذان، وثقل ترزح تحته النفوس.
لقد كان موت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حدثًا أذهل العقول، وفزع القلوب، وروع الأنفس، وبدا الناس في شأنه حيارى حتى كأنه شيء لا يمكن أن يكون، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ملءَ القلوبِ والنفوس والأبصار والأسماع وملءَ الدنيا بأسرها؛ فلما مات كان الفراغ الذي تركه شيئًا لا يتصوره العقل، ولا يحده إدراك، وكان وقعه على الناس أشدَ من أن يُحتمل حتى كان من أصحابِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- من أُقعِد عن الحركة ومن أُخرِس عن الكلام فما تكلم إلا من الغد لما راعه من موت رسول الله، وحتى قام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ثائرًا في الناس يتوعد من يقول: إن رسول الله قد مات، ويقول: والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى فليقطعنَّ أيديَ رجالٍ وأرجلَهم زعموا أنه مات.
وأقبل أبو بكر -رضي الله عنه- على فرس من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس؛ حتى دخل على عائشة -رضي الله عنها- فتيمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مغشي بثوب حِبَرَة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله وبكي، ثم قال: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتا، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مِتَّهَا.
ثم خرج أبو بكر، وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبي عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمداً -صلى الله عليه وسلم- فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها".
قال ابن المسيب: "قال عمر -رضي الله عنه-: "والله، ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تُقُلِّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، وحين سمعته تلاها علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، وذلك حين اشتد الضحى من يوم الاثنين وغسل يوم الثلاثاء وهو اليوم التالي لوفاته غسل بثيابه غسله العباس وعلي والفضل وقُثَم وشقران مولاه وأسامة وأوس بن خولى -رضي الله عنهم-، ثم كفنوه في ثلاثة أثواب، وحفروا له في حجرة عائشة لما صح عنه أنه قال: مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ، وصلى الناس عليه أرسالاً يدخلون من باب فيصلون عليه ثم يخرجون من الباب الآخر لا يؤمهم أحد ودفن في ليلة الأربعاء".
قال: "لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء".
فَلَمَّا دُفِنَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ -رضي الله عنها-: "يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- التُّرَابَ، وكأنها تعاتبهم لإقدامهم على هذا الفعل مع ما تعلم من رقة قلوبهم عليه لشدة محبتهم له وسكت أنس ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك، إلا أنا قهرنها على فعله امتثلاً لأمره".
قال أنس -رضي الله عنه-: "وما نفضنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأيدي، حتى أنكرنا قلوبنا".
أيها الإخوة: إن في حادثة وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم من العظات والعبر الشيء الكثير نشير إلى بعضها:
جهل من يحتفلون بالمولد، وذلك أن وقت وفاته صلى الله عليه وسلم هو وقت ولادته، ولو اتبعوا السنة من عدم الاحتفال بالمولد لما وقعوا بذلك.
زهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا مع أن الله -سبحانه- ضمن له خزائن الدنيا، والخلود فيها والجنة، فآثر لقاء ربه والجنة؛ لأن الدنيا ليس همها له هم، ولأن لقاء الله لا يعدله شيء من متاع الدينا.
إن التنافس على الدنيا داء خطير حذر منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد وقع في أمته ما خافه، وما زالت الأمة تعاني من ويلاته على المستوى العام والخاص.
ومن الفوائد: عظم شأن الصلاة فقد شدد بالأمر فيها، وهو في آخر رمق.
ومنها: التسلية لمن أصيب، فإن أي مصيبة تقع بالأمة مهما كانت فهي في مقابل الإصابة.
ثم إن أمره بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب دليل على أن هذه البلاد ستضل بلاد إسلام، ومنبع رشد وهداية للعالمين، ولله الحمد رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم