اقتباس
إعذار الآخرين خلق رفيع يتوسط طرفين؛ إفراط وتفريط، مثله مثل سائر الأخلاق الحميدة. البعض لا يقبل أي عذر، بل حتى يرفض الأعذار التي يقبلها الله، في حين أن البعض الآخر يبالغ في قبول الأعذار حتى
في زمن العولمة والرأسمالية المتغلبة أصبح كل شيء عرضة للبيع والشراء والتسليع، يستطيع الواحد أن يدخل المتاجر الكبرى فيشتري منها كل شيء وأي شيء مادام يمتلك ثمنها، ولكن شيئاً واحداً لا يمكن شراؤه بكنوز الدنيا؛ لأن ثمنه لا يُمتلك في حافظة أو خزانة أو حساب بنكي؛ فالثمن يدفعه المرء بعمره من أيام وشهور وسنين، هذا الأمر هو "الخبرة" التي يكتسبها المرء خلال حياته من احتكاكه مع الآخرين وتعامله مع الناس ومكابدة أفراحهم وأتراحهم ومعايشة تقلب أحوالهم.
الخبرة التي تعلم المرء من معاركته للحياة، وتجارب السنين والأيام، كيفية التعامل مع الناس المختلفة طباعهم والمتباينة أفكارهم.
الخبرة التي كلما ازدادت ونضجت نضج معها فكر المرء ونضجت رؤيته وتقييمه للأمور، وزادت دقة ميزانه في التعامل مع الناس، واستطاع ببصيرة السنين وخبرتها التمييز بين الصادق والكاذب، والأصلي والزائف، والمعذور والمدعي، وكلما تقدم به العمر زاد إعذاره للناس وزاد تفهمهم لأعذارهم، وكل ذلك يقودنا لأهمية فن إنساني من أهم فنون الحياة إلا وهو فن إعذار الآخرين.
إذا طوفت ببصرك في كثير من الخلافات المجتمعية تجد سوء الظن وعدم إعذار الآخرين السبب الرئيسي لهذه الخلافات، ولو استعمل الناس فيما بينهم فن الإعذار وربوا أبناءهم عليه، وعودهم منذ الصغر على التفاعل مع الآخرين داخل المجتمع الواحد من منطلق نقص الإنسان وضعفه وكثرة خطئه؛ لانحلت معظم خلافات المجتمع ولتحول هذا المجتمع إلى مجتمع رباني تسوده المحبة والألفة والإخاء بين أفراده.
فن إعذار الآخرين ترجمة عملية لعدة أخلاق إسلامية راقية ومقامات إيمانية سامية؛ فمن يعذر الناس اجتمعت عنده خصال حسن الظن وسلامة الصدر ونقاء السريرة ولين الطبع والعفو والصفح والتغافل والشفقة والرحمة والتسامح وكظم الغيظ، كما اجتمع عنده نضوج العقل وحسن التفكير وجودة التقدير وقوة الشخصية وتحمل المسئولية.
كل هذه الدرر الأخلاقية والإيمانية والحسية اجتمعت في معين واحد فأنتجت لنا الشخص الذي يعذر الآخرين ويقبل معذرتهم ويتفهم أعذارهم.
التماس العذر للآخر من أهم فنون الحياة الغائبة عن كثير منا في تعاملاتنا المختلفة، رغم أنه منهج إسلامي رفيع دعانا إليه الله -تعالى- وحثنا عليه رسوله الكريم وطبقه الصحابة والتابعون والعلماء عبر العصور؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، قوله-صلى الله عليه وسلم-: "لا شخصٌ أحبَّ إليه العذرُ من الله".
وأتى رجل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله؛ إن لي خادما يسيء ويظلم، أفأضربه؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "تعفو عنه كلَّ يوم سبعين مرة". وفي رواية أخرى عند أبي داود: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت فلما كان في الثالثة قال: "اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة" هذا بالنسبة للخادم؛ فما بال أهلك وولدك وأقربائك وأصدقائك ومن لهم حق عليك!!
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرّاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً". وقال ابن سيرين-رحمه الله-: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه"، وروى أبو نعيم في حلية الأولياء عن أبي قلابة الجرمي -رحمه الله- قال: "إذا بلغكَ عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجدْ له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذر لا أعلمه". وروى البيهقي في شعب الإيمان عن جعفر الصادق -رحمه الله- قال: "إذا بلغك عن أخيك الشيء تُنْكره فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذر، فإن أصبته وإلا قل: لعل له عذر لا أعرفه".
ومن ألطف الإشارات النبوية على ضرورة التحلي بخلق إعذار الآخرين كأحد أهم فنون الحياة ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم".
فالصبر على أذى الناس والذي حقق الخيرية والأفضلية لا يكون إلا بالعفو والصفح وإعذار الناس الذين -بطبعهم- يحملون كثيراً من النقص والخلل والخطأ؛ فالبشر مجبولون على ذلك وتلك فطرتهم التي لا مناص منها، ولا يخلو منها بشر كائن من كان، إلا من عصمه الله من الأنبياء والرسل، ومن يسر الله له اليسرى في الأخلاق والمعاملة، وإلا فغالب حال الناس على أنواع من التقصير والقصور، وهو ما تقره الشريعة من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي من حديث قتادة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
كيفية اكتساب خلق الإعذار؟
ليس كل أحد يمتلك القدرة على إعذار الآخرين، وليس كل أحد عنده سعة في جوفه وصدره حتى يبتلع غيظه ويعفو عن الآخرين، وليس كل أحد يمتلك العقل القادر على تفهم أعذار الآخرين، لذلك فثمة سبل لتحصيل هذا الفن الراقي من فنون الحياة، من أهمها:
1-الدعاء: فالدعاء يحقق المعجزات، فلا مستحيلات عند مالك الملك وخالق الخلق، من بيده ملوت كل شيء، وعنده خزائن كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكان من الدعاء النبوي المأثور" واسألك لساناً صادقاً وقلباً سليماً".
2- وضع النفس موضع الآخرين: فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه لحمله ذلك على إحسان الظن به وقبول عذره، وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قال–سبحانه-:(لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً)[النور:12].
3- حمل الكلام على أحسن الوجوه: فلا يحمل المرء كلمة سمعها من غيره إلا على أحسن الوجوه -إلا أن تقوم من القرائن اللغوية والعرفية ما يحملها على غير ذلك- وهكذا كان دأب السلف رضي الله عنهم. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً". وانظر إلى الإمام الشافعي -رحمه الله- حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوى لله ضعفك، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني، قال: والله ما أردت إلا الخير. فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني -وفي رواية دعوت عليّ- ما أردت إلا الخير.
فهكذا تكون الأخوة الحقيقية إحسان الظن بالإخوان حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير. بل إن الأمر قد يتعدى إلى مجال الإيمان والكفر. فقد قال الإمام مالك-رحمه الله-: " إذا تكلم الرجل بالكلمة من الكفر في تسعة وتسعين وجهاً وفي الإيمان من وجه واحد، لحملها على محمل الإيمان".
4- عدم الحكم على النوايا: وهذا من أعظم أصول الإسلام والإيمان، فليس للمسلم إلا الظاهر، وتظاهرت النصوص من الكتاب والسنة على تجنب الحكم على النوايا، وليس لأحد بعد النبي-صلى الله عليه وسلم-أن يدعي أنه لديه من العلم والفقه والإلهام ما يمكنه من الاطلاع على النوايا والتنقيب على ما في الصدور! وبعض الناس ينصّبون أنفسهم حكامًا على نوايا الناس، ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "والله إن العبد ليصعب عليه معرفة نيّته في عمله، فكيف يتسلط على نيات الخلق".
فمن الأخطاء العظيمة التي يقع فيها البعض الحكم على نيات الآخرين؛ فعن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه-: أن النبي-عليه الصلاة والسلام-بعث سرية فرجعوا وأخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالانتصار، ففرح وسر وتهلل وجهه، ثم أخبروه بأن رجلاً من المشركين كان يضرب المسلمين ذات اليمين وذات الشمال، ولا يبرز له أحد من المسلمين إلا قتله، فلما تمكن منه أحد المسلمين ورفع عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقتله هذا المسلم، فدعاه النبي-صلى الله عليه وسلم- وتغيظ عليه، وكان هو من أحب الناس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، أسامة بن زيد حبه وابن حبه، وقال له: "يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!" قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً -أي خوفًا من السيف-، قال: "هلا شققت عن قلبه؛ حتى تعلم أقالها كذلك أم لا؟ فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءتك يوم القيامة؟" حتى قال -رضي الله عنه-: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
إعذار الآخرين بين الإفراط والتفريط
إعذار الآخرين خلق رفيع يتوسط طرفين؛ إفراط وتفريط، مثله مثل سائر الأخلاق الحميدة. البعض لا يقبل أي عذر مهما كانت جديته، بل حتى يرفض الأعذار التي يقبلها الله -سبحانه- من عباده، ويجعل من نفسه سيفاً قاطعاً وحداً فاصلاً بين الصادق والمدعي، في حين أن البعض الآخر يبالغ في قبول الأعذار حتى يقبل الواهي والمختلق والمفبرك وكل من قامت عليه الدلائل والبراهين بكذبه واختلاقه، ويظن أن ذلك من حسن الظن وطيبة القلب، في حين أن ذلك من الغفلة والسذاجة وربما السفاهة في بعض الأحيان. وكلا الطرفين مذموم ومرفوض.
ومما زاد في الغلو بالإفراط والتفريط في هذا الفن الراقي من فنون الحياة جنوح الكثيرين نحو اختلاق الأعذار بسبب الكسل وخشية الفشل وهروباً من المساءلة والمسئولية وطلباً للسلامة وخوفاً من المقارنة مع الغير إلا آخر المبررات النفسية التي تدفع الكثيرين لاختلاق الأعذار وما يستتبعه من قبول أو رفض لهذه الأعذار من قبل الآخرين، والإسلام ينأ بأتباعه عن الدخول في دائرة الكذب أو حتى الاقتراب منها، كما ينأ بأتباعه أن يكونوا غلاظ القلوب فيرفضوا إعذار الآخرين.
من الطبيعي والمنطقي أن تلتمس الأعذار للآخرين، لكن ليس من الطبيعي ولا المنطقي أن تظل طوال الوقت تبرر لهم أفعالهم وتقبل أعذارهم حتى لو كانت هزيلة وواهية ولا يقبل عقل سليم أو فكر قويم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم