اقتباس
تكفير المخالف؛ من أبرز الإمارات المميزة للمخالفين لأهل السنة، هو مسارعتهم في التكفير لأدنى مخالفة لمذهبهم وطريقتهم، فهم يخلطون دائما بين الخطأ و الإثم، فأهل الابتداع لا يتحملون الاجتهاد أو التأويل المخالف، ويعتبرونه خروجا عن الدين تستحل به الحرمات من الدماء والأموال، وما فعله الخوارج مع المؤمنين دليل...
تكلمنا في المرتين السابقتين عن نشأة مصطلح أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية بنص حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهج التلقي عندهم، وأهم الملامح العامة لهم، والأصول الأخلاقية والسلوكية لأهل السنة والجماعة، وأهم الأصول العقدية التي اتفق عليها أهل السنة، وما يقبل وما لا يقبل الخلاف فيه، وهذه المرة سنتكلم عن الصفات العامة للمفارقين لأهل السنة، وحكمهم في الشرع، ونظرة أهل السنة والجماعة لأهل البدع، والضوابط الشرعية في التعامل معهم.
أولا: الصفات العامة للمخالفين لأهل السنة والجماعة
1 ـ الجهل بالحق وإتباع الهوى؛ فمفارقة أهل السنة ومخالفتهم تأتي دائما من أمرين رئيسين: الجهل بالحق، فيحكمون بالظنون والأوهام والاعتقادات الخاطئة، والثاني إتباع الهوى، فيحكمون بما يميله هذا الهوى، فيجافون العدل ويتنكبون الظلم، وإمامهم في ذلك هو إبليس لعنه الله الذي استكبر على أمر الله عز وجل بالسجود لآدم عليه السلام، ورد الأمر بجهله وهواه، فرأى نفسه خيرا من آدم، وقال خلقتني من نار وخلقته من طين، وكان أول من ظهر منهم في أمة الإسلام ذو الخويصرة الذي اعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، وفي رواية أخرى قال: هذه قسمة لا يراد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد خبت وخسرت إن لم أعدل "، فجهله وضيق عطنه وإتباعه لهواه جعله يحكم على خير خلق الله بهذا الحكم الجائر.
2 ـ التضارب والمعاداة والاختلاف، فطريق الحق؛ طريق واحد، بيّن واضح، ولا عوج فيه، فالحق أبلج، والباطل لجلج، وإتباع الأهواء يقود إلى التفرق والتشرذم، وهو ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث افتراق الأمة، والناظر لهذه الفرق جميعا، يجدها متفرقة متشرذمة، يكفر بعضها بعضا، ويفسق ويبدع بعضها بعضا، وبجولة سريعة على واحدة من هذه الفرق، ولتكن فرقة الخوارج نجدها قد فارقت جماعة المسلمين وخرجت عنها وعليها، ثم ما لبثت أن تفرقت واختلفت وتشرذمت لعدة فرق مثل الأرزارقة، والقعدة، والشبيبية، والصفرية، والإباضية، والتكفير والهجرة، والتوقف والتبين، ولا يعلم متى يتوقف هذا التشقق والافتراق.
3 ـ الغلو في الدين، فالجهل وإتباع الهوى دائما ما يقود صاحبه إلى الغلو، سواء أكان بالتفريط أو الإفراط، فهدي النبي صلى الله عليه وسلم هي الوسطية وحد الاعتدال الذي يناسب حال كل الناس، والتجافي عن سنته وهديه وطريقته يقود إلى الغلو والتشدد ،وهذا ظاهر من حديث الثلاثة الذين أتوا بيوت النبي يسألون عن عبادته، فلما علموها كأنهم تقالوها، واختار كل واحد منهم طريقا يظن فيه أن موصل لمرضات الله، فمن من نذر صوم الدهر، ومنهم من نذر قياما لا نوم فيه، ومنهم من نذر تبتلا ورهبانية كرهبانية أهل الكتاب، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، نهاهم عن هذه السبل جميعا، وأطلعهم على حاله الوسطية، ثم ختم كلامه بقولته النفيسة: " فمن رغب عن سنتي فليس مني "
البدعة خصيم السنة، لا تسكن قلب عبد ولا عقله إلا أخذته في أودية الضلال، وأضل الضلال ؛ إتباع الظن الهوى، كما قال الله عز وجل ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) [النجم: 23]، وفي الحديث " إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين "
4 ـ التعصب والبغي؛ المخالفون لأهل السنة مغالون في التعصب للأشخاص والأقوال والآراء، بلا علم ولا عدل ولا بينة، مغالون في التعصب في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد مع البغي والعدوان على المخالف لهم، وقد عد أهل العلم أن الموالاة والمعاداة على أي شخص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة البدع الذميمة التي تفتح الباب على مصراعيه للتعصب والبغي والتكفير والتفسيق للمخالف، واتخاذ شخص يوالى ويعادي على كلامه ومواقفه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أكبر الأمور التي تفرق الأمة وتزكي نار الخلاف بين أبنائها، خاصة وأن الموالاة والمعاداة تقود حتما ولابد لاعتقاد العصمة في الشخص الموالى والمعادى عليه، وبالتالي رفض أدنى مخالفة له، والناس لا يفصل بينهم النزاع إلا الوحي، فإذا ردوا الأمر إلى عقولهم، فلكل واحد منهم عقل معتد به، ومن هنا تنفتح أبواب الاختلاف والتباين، ومنم ثم التعصب والبغي، ولقد شهد التاريخ في بعض فصوله مشاهد مأساوية من جراء التعصب للأشخاص والجماعات والمذاهب، وصلت لحد استباحة الدماء والحرمات، كما حدث بين الشافعية والحنفية في خراسان في القرن الخامس، وبين الحنابلة والشافعية في بغداد في القرن الرابع.
5 ـ تكفير المخالف؛ من أبرز الإمارات المميزة للمخالفين لأهل السنة، هو مسارعتهم في التكفير لأدنى مخالفة لمذهبهم وطريقتهم، فهم يخلطون دائما بين الخطأ و الإثم، فأهل الابتداع لا يتحملون الاجتهاد أو التأويل المخالف، ويعتبرونه خروجا عن الدين تستحل به الحرمات من الدماء والأموال، وما فعله الخوارج مع المؤمنين دليل بين على ذلك الغلو والشطط في التفكير، والذي انعكس على السلوك في استباحة حرمات المخالفين، وما فعلته المعتزلة مع أهل السنة أيام تسلطهم على خلفاء بني العباس دليل آخر على هذا الغلو والشطط والمسارعة في التكفير، وما زال شعار تكفير المخالف هو السمة المميزة لأرباب البدع حتى وقتنا الحالي.
ثانيا: أقسام المخالفين لأهل السنة
1 ـ مجتهد مخطئ؛ وهو لا يعتبر مخالفا لأهل السنة على وجه التعمد والمعاندة، بل خالف نتيجة اجتهاد أخطأ فيه، ولا أحد معصوم من الخطأ، وهذا الخطأ أما لقلة بضاعته في العلم الشرعي، أو لنوع من التأويل خاصة مع كثرة الشبهات من المخالفين الأصليين، أو لفهم خاطئ للنصوص من حيث الدلالة أو الثبوت، وهذا الصنف معدود من أهل السنة، فمخالفته لا تعتبر تقديما بين يدي الله ورسوله، وردا للثابت المحكم، فهم مؤمنون ظاهرا وباطنا، وهذا النوع من المخافة لم يسلم منهم أحد من أهل العلم إلا الأفذاذ والقلائل، فمن من عالم إلا وله زلة ورأي خالف به جماهير العلماء، وهو في المسائل العملية كثير جدا، كما ثبت عن بعض أئمة السلف تجويز بعض المعاملات الربوية، وشرب بعض أنواع الخمر، وقليل جدا في المسائل العلمية، كما حدث الاختلاف حول مسمى الإيمان عند أبي حنيفة رحمه الله، والقول بفناء النار عند ابن تيمية رحمه الله، وهذا المخالف لا يجوز رميه بالفسق أو الفجور أو الكفر، أو حتى التشهير به والتنقيص من قدره.
2 ـ جاهل معذور؛ وهو من كانت بضاعته في العلم مزجاة، يكثر من الاعتماد على أقوال الأئمة والسابقين، وكتب المتون والشروح والحواشي والاختصارات، ويبعد عن استدلالات القرآن والسنة، فلا يعلم مرامي كلام من يقلده ويتبع آراءه، ولو علم من فيها من مجافاة ومخالفة للسنة لرجع عنها وتبرأ منها.
3 ـ متعد ظالم؛ وهو الذي يصر على خطئه، ويعتقد أنه على الحق الذي لا مرية فيه، ثم يتجاوز تعصبه لما يعتقده إلى البغي والعدوان على من خالفه، فإذا كان إصراره على المخالفة نتيجة تأويل واجتهاد منه كتأويل أهل العلم والدين، ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق الذي يجب الدفاع عنه ولو بكل نفيس، فهذا متأول معذور، أما إذا كان من استبان له الصواب من الخطأ، ولكنه أصر على العناد والمخالفة، ثم جاوزه إلى البغي والاعتداء، كان ظالما معتديا، خارجا على الأمة مفارقا لجماعتها، وجب ردعه وقمعه.
4 ـ منافق زنديق؛ وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر والغل والغيظ على المسلمين، وإذا كان النفاق واردا من أهل الصلاة والعبادات، فإن أهل البدع المخالفة لأهل السنة، أولى بوجود هذا الصنف من النفاق والزندقة، وهذا الصنف موجود بكثرة في رؤوس الفرق الضالة المخالفة لأهل السنة مثل الرافضة والجهمية، فالزنادقة المشهورون في تاريخ أمة الإسلام إنما ظهروا من رحم هذه الفرق، مثل القرامطة الباطنية، والفاطميين الزنادقة، ومجاهرتهم بعداوة الإسلام والاستهزاء بشعائره ثابتة تاريخيا. أما حديثا فأكثر ما نجدهم في العلمانيين والليبراليين وأتباع المذاهب الشيوعية والاشتراكية، فمعظمهم يظهرون العداوة للإسلام فضلا عن إبطانها.
5 ـ مشرك ضال؛ وهم الذين يصرحون بالعقائد الشركية والوثنية بلا تأويل أو اجتهاد أو أدنى شبهة، مثل الدروز والنصيريين، وهؤلاء يجب أن يستتابوا عن شركهم وكفرهم، وإلا ضربت أعناقهم، وتقرب إلى الله بدمائهم، وأقرب إليهم من قال بالحلول والاتحاد بين الله سبحانه وخلقه، مثل الحلاج المقتول وابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وغيرهم من غلاة المتصوفة، وهؤلاء أيضا لابد من استتابتهم من ضلالاتهم الشركية، وإلا لحقوا بإخوانهم.
ثالثا: الضوابط العامة للتعامل مع المخالفين عند أهل السنة
أولا: أهل السنة يرون أن البدع المخالفة للسنة قد تكون في أمور دقيقة، وقد تكون في أصول الدين الكلية، وقد يكون النزاع في ألفاظ وأسماء، وقد يكون في معاني وحقائق، لذلك فثمة تفاوت كبير بين أقسام البدع بعضها بعضا، والنظرة الكلية لأهل السنة تجاه أهل البدع تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ بدع لا خلاف على عدم تكفير أصحابها، مثل " المرجئة " و " الشيعة الزيدية "
2 ـ بدع لا خلاف على تكفير أصحابها، مثل " الجهمية "
3 ـ بدع يوجد خلاف حول تكفير أصحابها، مثل " عامة الرافضة " و " الخوارج " و " المعتزلة " الذين لا ينفون العلم.
ثانيا: أهل السنة والجماعة يفرقون بين الحكم المطلق على أصحاب البدع بالعصيان أو الفسق أو الكفر، وبين الحكم على شخص بعينه، فهم يعتقدون أن من ثبت له وصف الإسلام بيقين، لا يزول عنه هذا الوصف إلا بيقين مثله، ولا يحكمون على من أتى بنوع من هذه البدع بالكفر أو الفسق أو العصيان حتى يقيموا الحجة الرسالية عليه، بإزالة الشبهات، وإقامة البينات، ومراعاة عوارض الأهلية، وموانع لحوق الوعيد كلها، وهم أيضا يفرقون بين نصوص الوعيد المطلقة، وبين استحقاق شخص بعينه لهذا الوعيد في الآخرة، فالمعين المتلبس ببدعة غليظة قد يلتغي فيه حكم الوعيد بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، فهم لا يشهدون لمعين بجنة أو نار إلا بدليل خاص.
ثالثا: اتفق أهل السنة على أن البدع الغليظة شر الذنوب بعد الشرك والكفر، لذلك وجب عندهم كف شر المبتدعين ولو بالقوة والسلاح، إذا لم يندفع شرهم إلا بذلك، وأئمة السلف كانوا يحرضون على قتال الدعاة إلى البدع المضللة، من أجل إفسادهم للدين، كما قتل الجعد بن درهم، وغيلان القدري، على يد أمراء بني أمية.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم