أصول التشريع الاقتصادي في الإسلام

حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: المعاملات
عناصر الخطبة
1/شمول الإسلام لكل جوانب الحياة 2/ ارتباط النظام الاقتصادي الإسلامي بالعقيدة والأخلاق 3/ أصول وقواعد التشريع الاقتصادي في الإسلام 4/ الصدق والأمانة في التعامل 5/ التسامح والتساهل في سائر المعاملات 6/ التراضي التام 7/ مبدأ الإحسان 8/ إتقان العمل 9/ الوفاء لحقوق العاملين .
اهداف الخطبة
بيان أصول وقواعد التشريع الاقتصادي في الإسلام وصورها / الحث على التمسك بنظام الإسلام .

اقتباس

ومن جوانب الإحسان تربية الإسلام أتباعه على مبدأ الرحمة بالمستهلكين، فقد حرص الإسلام على تكثير تكاليف الإنتاج حتى تصل السلع إلى الكل بأرخص الأسعار، ووجه في تعاليمه الإنسانية إلى الاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه من النفقات الإنتاجية، ومن صور ذلك تفضيله أن يتم بين المُنتِج أي البائع والمستهلك أي المشتري مباشرةً بدون واسطة، لأن أجرة السمسار سيتحملها المستهلك في النهاية، فيغلو السعر عليه، قال صلى الله عليه وسلم: " لا يبع حاضر لبادٍ " متفق عليه، أي: لا يكون له سمساراً كما بوّب لذلك الإمام البخاري رحمه الله.

 

 

 

 

أما بعد:

أيها المسلمون، لقد رسم الإسلام خطاً واضحاً سوياً لبني الإنسان أبان جوانب الحياة كلها و.... جميعها، لم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر فيها خبراً أو شملها حكما، في ثوبٍ واضح جلي من خلال نصوص الوحي.

اشتمل على النظم والأحكام في كل جانب من جوانب التكوين والبناء والإصلاح، وفي كل ناحية من نواحي المجتمع والحياة، في مبادئ دقيقة محكمة، وتشريعات ربانية خالدة، وأصولٍ جامعةٍ كاملة، تعطي ولا تأخذ، وتجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تبدِّد، تبني ولا تهدم، وتُسعد ولا تفسد، توصل إلى الغايات الأسمى والمقاصد العليا، قال جل وعلا: (مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَـابِ مِن شَىْء) [الأنعام:38] ويقول جل وعلا: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:89].

وإن من الجوانب التي أولتها الشريعة أعظم الاهتمام الجانب المالي والناحية الاقتصادية في هذه الحياة، أقامته على أمتن الأسس، وأنبل المثل، وأكرم المقاصد، وأشرف الغايات. أبان القرآن أصوله، وأوضحت السنة قواعده، والمتأمل لتلك النصوص يجد أن الإسلام حث على حُسن النظر في اكتساب المال، من طرقه المباحة وأساليبه المناسبة التي تتفق مع أوامر الدين، ولا تخالف أخلاق المسلمين، قال جل وعلا: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ فِى الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:9] (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَـاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ) [النساء:29] وفي التوجيهات النبوية الصحيحة: " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع" وذكر منها: " وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ " يقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: " كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به" .

وإن من مضامين خصائص التشريع الإسلامي في الاقتصاد أنه نظام مرتبط بالعقيدة والأخلاق، يتعانق فيه الاقتصاد بالدين القويم والأخلاق الكريمة والخصال الحميدة.

إخوة الإسلام، والصُور الجزئية من تلك الخصائص التي تبرز لنا عظمة الإسلام وكماله وعظيم سموِّ تشريعه ونظامه كثيرةٌ لا تحصى، ترجع إلى أصول مهمة وقواعد جمّة:

فأولها: الصدق والأمانة في التعامل، فهما صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، (يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّـادِقِينَ) [التوبة:119] (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَـانَـاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58]  ولكنهما من الصفات التي تُطلب في التعاملات المالية بوجه خاص، قال صلى الله عليه وسلم: " التاجر الأمين الصدُوق مع النبيين والصديقين والشهداء"  رواه الترمذي، وفي الصحيحين: " فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا مُحقت بركة بيعهما" .

والصدق كما أنه مطلوب مع المسلمين فهو مطلوب مع غير المسلمين، لذا لما صدق المسلمون في بيوعهم وسائر تعاملاتهم كان لذلك الأثر البالغ في دخول كثير من المجتمعات في الإسلام أفواجاً، حتى انقلبت بالكامل مجتمعات إسلامية كما حصل ذلك في بعض أصقاع العالم.

والأمانة كذلك خير مطلق يجب أن يتمسك بها المسلم، سواء كان هذا الخير نائلاً المسلم أو الكافر، الصديق أو العدو، قال صلى الله عليه وسلم: " أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " حديث صحيح.

وثاني تلك الأصول: التسامح والتساهل في البيع والشراء وسائر التعاملات، قال صلى الله عليه وسلم: " رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى ".

ويتمثل هذا التسامح في صور كثيرة، منها إنظار المدين المعسر، وكلِّ ما فيه أجل من التعاملات بإمداد الأجل، ما دام بالإمكان الانتظار، فإن الله جل وعلا يقول: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة:280] وروى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أُتي بعبد من عباد الله آتاه الله مالاً فقال له الله: ماذا عملت به في الدنيا؟ قال: يا رب، آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسِّر على الموسر، وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق به منك، تجاوزوا عن عبدي" .

ومن ذلك إقالة البيع، أي: الاستجابة إلى فسخه إذا رغب المشتري ذلك لظهور عدم احتياجه للمعقود عليه، قال صلى الله عليه وسلم: " من أقال مسلماً أقال الله عثرته " رواه أبو داود وابن ماجه وسنده صحيح.

وثالث تلك الأصول: مبدأ التراضي التام في التعاملات، وقد اشترط الإسلام لِصحة العقود كلها مبدأ التراضي التام من المتعاقدين، والاختيار الكامل على إجراء التصرفات، حتى لا يُجبر أحدٌ على ما لا يرضاه من تعامل، أو يؤخذ منه شيء بغير طيب نفس منه، قال جل وعلا: (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ) [النساء:29] ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما البيع عن تراض" .

ذلكم أن الأموال في الإسلام محترمة مصانة، وهي أحد الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها وجوداً وعدماً، قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: " لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسٍ منه"، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ".

ومن هذا المنطلق حرم الإسلام كل معاملة تقتضي الظلم على أحد المتعاقدين، ومن صور ذلك تحريم المطل بالحق وهو الدين، في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مطل الغني ظلم "، وأنه صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: " ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته " رواه النسائي بسند صحيح.

وفي التوجيهات المحمدية السديدة يقول صلى الله عليه وسلم: " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " رواه البخاري.

ومن تلك الصور تحريم الغش والخداع بأنواعه المختلفة وأشكاله المتعددة قال صلى الله عليه وسلم: " من غشنا فليس منا " رواه مسلم، " لا يحل لامرئ مسلم يبيع سلعةً يعلم أن بها داءً إلا أخبر به " رواه مالك في الموطأ، بل وعالج الإسلام ذلك إذا وقع بأن شرع خيار الغبن الفاحش، وجعله مقتضياً لرد المبيع بعد علم المغبون بذلك.

ولهذا فمن الأصول العامة في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم النهي عن الغرر في التعاملات، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الغرر. ومن مفهوم الغرر الخداع الذي هو مظنةٌ أن لا رضاء فيه عند تحققه، ومن مفهومه أيضاً ما لا تُعلم عاقبته من الخطر الذي لا يُدرى أيكون أم لا؟

إخوة الإسلام، ومن تلك المبادئ مبدأ منع كل تعامل ينافي مبدأ التآخي والمودة بين المؤمنين، ويؤدي إلى بث روح التباغض بين المسلمين، ومن هنا نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عن البيع على البيع، والشراء على الشراء، والسوم على السوم، ونهى عن بيع النجش.

معاشر المسلمين، ومن أصول الإسلام مبدأ عدم استغلال حاجة المحتاج، فمن مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقياته الفاضلة الأمر والحث على قضاء حاجة المحتاج، قال عليه الصلاة والسلام: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة " رواه أبو داود والترمذي.

أما استغلال حاجة المحتاج إلى الشيء بالتحكم به في الشيء أو في الشروط ونحو ذلك فليس من خلق الإسلام ولا أهله، لذا نهى الإسلام عن الاحتكار، في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحتكر إلا خاطئ " رواه مسلم، والاحتكار في اصطلاح علماء الإسلام حبس السلع عند الحاجة إليها من المستهلكين لتشحّ في السوق، ثم يغلو ثمنها، قال جل وعلا: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) [الأعراف:85].

ومن تلك الأصول ـ عباد الله ـ مبدأ الإحسان، فالإحسان مبدأ عام في هذه الشريعة، وأصل من أصول تشريعها، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]  (وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195].

ومن صور هذا المبدأ في التعاملات الاقتصادية مشروعية الصلح والحث عليه، قال جل وعلا: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء:128]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: " الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً " .

ومن جوانب الإحسان الحث على قضاء الدين بخير منه بدون شرط مُسبق بين المتعاقدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خياركم أحسنكم قضاءً " رواه مسلم.

ومن جوانب الإحسان تربية الإسلام أتباعه على مبدأ الرحمة بالمستهلكين، فقد حرص الإسلام على تكثير تكاليف الإنتاج حتى تصل السلع إلى الكل بأرخص الأسعار، ووجه في تعاليمه الإنسانية إلى الاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه من النفقات الإنتاجية، ومن صور ذلك تفضيله أن يتم بين المُنتِج أي البائع والمستهلك أي المشتري مباشرةً بدون واسطة، لأن أجرة السمسار سيتحملها المستهلك في النهاية، فيغلو السعر عليه، قال صلى الله عليه وسلم: " لا يبع حاضر لبادٍ " متفق عليه، أي: لا يكون له سمساراً كما بوّب لذلك الإمام البخاري رحمه الله.

ومن صور ذلك أيضاً قول نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: " لا تلقوا السلع حتى يُهبط بها الأسواق" متفق عليه، أي: لا تخرجوا إلى مداخل المدن لتشتروا السلع من جلابها، ثم تأتون بها إلى السوق لتبيعوها فيه؛ لأن ذلك يرفع الأسعار على المستهلكين.

معاشر المؤمنين، ومن أصول الاقتصاد في الإسلام أنه حرص على مبدأ إتقان العمل المتعاقد عليه، فقد ربّى الإسلام أتباعه على إتقان العمل والإخلاص فيه، وجعل ذلك خلقاً للمسلم، وسجيةً يتميز بها، قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " رواه البيهقي.

كما حرص الإسلام على تأصيل مبدأ الوفاء لحقوق العاملين، فالعامل في الإسلام عليه واجبات، سواءٌ كان هذا العامل مع سائر أفراد المجتمع أو مع قطاعات الدولة، العامل عليه واجبات وله حقوق كاملة يجب على رب العمل الوفاءُ بها، والالتزام بمقتضاها، ومن أهمها: عدم إرهاقه بالعمل، أو تكليفه بما لا يطيق، فمن قواعد الشريعة (لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة:286] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ثنايا حديث له: " جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" متفق عليه.

ومن ذلك ـ عباد الله ـ الوفاء الكامل بأجرة الأجير حينما يستوفي صاحب العمل عمله، قال صلى الله عليه وسلم: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه "  حديث صحيح بكثرة طرقه، وعنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري أنه قال: " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة "، ومن خاصمه عليه الصلاة والسلام فإنه يُغلب وذكر منهم: " ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منه ولم يعطه أجره " .

فاتقوا الله عباد الله، التزموا بتلك المبادئ العظيمة، والتوجيهات الكريمة، لتسود المودة في مجتمعاتكم، ويعمّ الخير بينكم.

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

أما بعد:

أوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فهي توصل إلى الغايات الحميدة والسعادة الأبدية.
عباد الله، نظام الإسلام نعمة عظمى لبني الإنسان، تتضمن السلامة والسعادة، وتضمن الخير والاطمئنان، فالواجب على الأمة التمسك به في كل جانب، وتحكيمه في كل شأن ففي ذلك الصلاح والفلاح، والفوز والنجاح، قال جل وعلا: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].

ثم إن الله أمرنا بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد...

 

  

 

 

 

المرفقات

61

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات