أشيعوا الثناء

أحمد بن عبد العزيز الشاوي

2022-10-21 - 1444/03/25 2022-11-09 - 1444/04/15
عناصر الخطبة
1/أهمية الثناء على المستحقين للمدح 2/من فوائد الثناء والتشجيع 3/مواطن لا يصح فيها الثناء 4/دعوة للثناء النافع

اقتباس

لماذا أهل الخير والصلاح يتقنون فن النقد الهادم، وتتبع العثرات، وتضخيم الزلات، لكنهم لا يجيدون فن المديح والثناء، ورفع الهمم، لماذا تقتل المواهب ويوأد الطموح، ويحارب الإبداع بسيف الجفاء...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله وهو أهل للحمد والثناء، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد ولد آدم، وصفوة الأنبياء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم البعث والجزاء وسلم تسليما.

 

أما بعد: فاتقوا الله -يا مسلمون-، وتقواه بامتثال أمره واجتناب نهيه والاستسلام لحكمه والرضا بشريعته.

 

يدخل الزوج بيته بشعراته البيضاء وتجاعيد وجهه يحمل حاجات أهله، ويرمق بنظراته زوجته وأولاده يترقب كلمة حانية أو دعوة لطيفة تذهب عناء المعاناة وتخفف إرهاق الإنفاق فيصطدم بسيف الجفاء وكلمات اللامبالاة: هذا ما طلبناه، وهذا ليس الذي نريد وأين تلك الحاجة وأين ذاك وذاك.

 

تبذل الزوجة جهدها في إعداد طعام زوجها فإذا ما جاء من عمله قدمته له بنفس رضية وهي ترمقه بنظراتها تنتظر كلمة حانية أو عبارة مشجعة تخفف من عنائها وتنسيها متاعبها لكن الزوج يوليها دبره متحرفا لمنام ومتحيزا إلى أحلام.

 

يعمل الموظف والمعلم زهرة عمره يكد ويتعب وهو لا يجد من مسؤولية إلا عتابا وردعا فإذا ما قعّد كرموه بقطعة من خشب تسمى درعا، ولربما كرموه بعد وفاته فنال وساما.

 

يظهر الطالب في المدرسة أو الحلقة تميزا، ويبدي نبوغا وإبداعا فلا يجد كلمة ترفع من همته، لكنه إن زلت به القدم يوما فما أكثر المعاتبين وما أبرز المعنفين.

 

يكتب كاتب فكرة جميلة، أو يتحدث داعية بموضوع بديع فلا يجد من أهل الخير كلمة تؤازره، أو عبارة تناصره، أو جملة تشكره لتدفعه إلى عطاء أكبر وجهد أكثر، وإنما تتوجه النظرات إلى زلة يسيرة، وتنحصر الردود في الزلات والهنات.

 

ويبقى السؤال: لماذا أهل الخير والصلاح يتقنون فن النقد الهادم، وتتبع العثرات، وتضخيم الزلات، لكنهم لا يجيدون فن المديح والثناء، ورفع الهمم، لماذا تقتل المواهب ويوأد الطموح، ويحارب الإبداع بسيف الجفاء.

 

لماذا يكثرون عند التحطيم والإسقاط، ويقلون عند التشجيع وتقدير الجهود ودفع الهمم بحجة أن هذا هو الواجب، ولا شكر على واجب.

 

إنك لتعجب كل العجب من دعاة الضلالة كيف يستقطبون البسطاء، ويخدعون البلهاء..

 

يكتب كاتب بفكرة تستهوي أهل الضلالة بأسلوب هزيل، وعبارات تمجها عجائز نيسابور، وبألفاظ تستحي أن تقرأها.. فإذا ما نشرها في إحدى حمالات الكذب توالت الردود المشجعة، والكتابات التي تصف هذا الكاتب بأنه أتى بما لم تأت به الأوائل، وما عجزت عنه الأكابر، فينخدع بالمديح ويغتر بالثناء وينساق وراء المبطلين ويصبح ظهيرا للمجرمين؛ فلماذا لا يسلك الصالحون هذا السبيل؟!

 

نعم نحن نحتاج لبيان الأخطاء وممارسة الانتقاد، وربما اللوم والعتاب، وقد يتطور الأمر للعقوبة، وكل ذلك -حين يكون في إطاره الطبيعي- ليس مجالاً للنقاش أو الاعتراض. ومنشأ الإشكال إنما هو في اتساع مساحة الانتقاد واللوم على حساب غيره؛ فالنفس تحتاج للثناء والتشجيع، وتحتاج للشعور بالنجاح والإنجاز كما أنها تحتاج للنقد والتسديد، لكن ما يأخذه النقد واللوم من واقعنا أكثر بكثير مما يأخذه الجانب الآخر.

 

أوليس قدوتنا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولنا به أسوة حسنة؛ فكيف كان منهجه في التعامل مع المواهب والطاقات والقدرات؟

 

إن الثناء والتشجيع وتسليط الضوء على مكامن الكمال في النفس البشرية والإشادة بها منهج نبوي كريم، يراد منه بعث النفس على الزيادة، وإثارة النفوس الأخرى نحو الإبداع والمنافسة، وهو مشروط بأن يكون حقاً، وأن يُؤمَن جانب الممدوح، وأن يكون بالقدر الذي يحقق الهدف.

 

حينما سأل أبو هريرة -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم-! مَنْ أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال له: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لِـمَا رأيت من حرصك على الحديث".

 

وحينما طلب منه أهل نجران أن يبعث معهم رجلا أمينا، قال: "لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حقَّ أمينٍ، حق أمين". قال: فاستشرف لها الناس، قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح وفي رواية: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: "هذا أمين هذه الأمة".

 

وسأل أبي بن كعب: أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت (اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْـحَيُّ الْقَيُّومُ)[البقرة:255] قال: فضرب صدري، وقال: "لِيَهْنَ لك يا أبا المنذر العلم".

 

انظر كم في هذه الأحاديث من تشجيع واهتمام ومزيد رعاية وعناية. كم يبعث التشجيع في نفس المتعلم من حب للعلم، وكم يساعد في تسارع خطوات التربية نحو الأمام، وذلك على عكس ما يأتي به كثرة التأنيب والعتاب واللوم، أو السكوت عن الثناء عند كل نجاح وتفوق.

 

الثناء والتشجيع قد يستفاد منه في تدعيم سلوك معين أو التوجيه إلى عمل مهم يحسن اكتسابه.

 

عند مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل". قال سالم: فـكان عبد الله، بعـد ذلك، لا ينام من الليل إلا قليلاً.

 

إن كثيراً من القدرات، وكثيراً من أصحاب الكفاءات يصابون بالضمور، بل ربما يموتون وتمــوت مواهبهــم وقدراتهـم؛ لأنهـم لا يجدون من يدفعهم بكلمة ثناء، أو يرفعهم بعبارة تشجيع.

 

إننا حين نثني على أصحاب القدرات لسنا نحفظ ونضمن جهـد المجتهـد منهـم فحسب، بل إننا نحــرك نفــوســاً ربمــا لا يحركها أسلوب آخر..

 

إننا بحاجة إلى إشاعة أسلوب المديح والتشجيع خاصة مع أبنائنا وبناتنا وطلابنا..

 

كم من فتاة انجرفت في تيار الانحراف بسبب مديح كاذب من ذئب بشري؛ لأنها سمعت ما لم تسمعه في بيتها ومن أمها وأبيها والغواني يغرهن الثناء؟!، وكم من طفل ساقه لصوص الأعراض إلى مستنقع الشذوذ حينما خدعوه بالثناء المزيف لأنه لم يسمع يوما ما والده أو معلمه يثني على مواهبه ويقدر قدراته؟!

 

كم من كلمة ثناء دفعت بعض الأفراد إلى تحقيق إنجازات لم يكونوا يحلمون بها؟! وكم من كلمة ثناء ساعدت الإنسان على تجاوز محنته ومصاعب الحياة من حوله؟! وكم من معلم أسدى التشجيع لطلابه والثناء عليهم عند أدائهم لأعمالهم على الوجه المطلوب دفعتهم إلى الاستمرار في التعلم والإقبال على المعلم والتأثر به وجعلت بعضهم يتفاخر مع الأيام بذلك الثناء العطر من معلمه عليه ولا غرابة فالنفس البشرية تواقة إلى هذه المعززات لترفع من قدراتها؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة.. لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود" فقال أبو موسى: يا رسول الله لو أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحييراً.

 

إن الثناء يُشعِر الشخص بالرضا والإنجاز، ويزيد من ثقته بنفسه، والمربُّون اليوم أحوج ما يكونون إلى غرس الثقة بالنفس والشعور بالقدرة على الإنجاز في ظل جيل يعاني من الإحباط، وتسبق هواجس الإخفاق تفكيره في أي خطوة يخطوها، أو مشروع يُقدم عليه.

 

إن المسألة لا تعدو كلمة ثناء أو عبارة تشجيع تنقل طالب العلم.. وترفعه درجات في سلم الحرص والاجتهاد.

 

كم نحن بحاجة لأسلوب التشجيع المنضبط الذي يرفع الهمم ويزرع في النفوس حب العمل والاجتهاد فيه.

 

فإلى معلمينا ودعاتنا وإلى الآباء والأمهات وإلى كل أهل الخير والصلاح .. أقول:

ازرعوا في النفوس.. الحرص على الاجتهاد بالتشجيع والثناء فـأبسط كلمة ترفع همة من قبل أن تموت المواهب وينعدم العطاء ويزداد الجفاء حتى نصل إلى ما وصل إليه القائل: إذا عطست زوجتي أجد صعوبة في تشميتها

 

أقول هذا القول...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فحينما ندعو إلى إشاعة لغة التشجيع والثناء باعتباره أسلوبا ناجعا في الدعوة والتربية ورفع الهمم وتنشيط النفوس والرقي بالذوق والارتقاء بالمشاعر والقضاء على روح التشاحن والبغضاء فإننا في الوقت ذاته نؤكد على أن يكون هذا الثناء منضبطا معتدلا صادقا يراعى فيه بالتوازن وتحقيق المصالح فلربما كان المديح سببا في الإعجاب والغرور والتعالم الكاذب والتكبر على الآخرين ولهذا امتنع -صلى الله عليه وسلم- عن بيان بعض منزلة قريش؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فقال: "لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله - عز وجل".

 

إننا يجب أن ننأى عن المديح الذي يقلب الحقائق ويزيف الوقائع ويجعل من الباطل حقا ومن المنكر معروفا ومن العبر مكرمات.

 

يجب أن ننأى عن الثناء الكاذب الذي يوهب لغير مستحقيه ممن يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا وهم أحق بأن يحثى في وجوههم التراب.

 

يجب أن نتسامى عن المبالغة في المديح والثناء؛ فالمبالغة فيه تُفقده قيمته، وتشعر من يسمعه بأنه ثناء غير صادق ولا جاد.

 

وأخيرا: لماذا لا نجعل من المديح المعتدل والثناء الصادق المنضبط وسيلة لنا لكسب القلوب ونشر الخير وامتلاك النفوس؟! لماذا لا نجعله هو بداية مواعظنا لتهيئة النفوس لقبول ما نلقيه؟!

 

لماذا لا نجعل المديح والثناء منهجا لنا في تعاملنا مع زوجاتنا وبناتنا وأبنائنا لتشيع روح الحب وينتشر عبق الصفاء والوفاء والمودة والسكينة في بيوتنا؟!

 

ما الذي يضيرنا أن نثني على محافظ للصلاة أو بار بوالديه أو واصل لأرحامه أو محسن لجيرانه فنذكره بجلالة هذا العمل ونشكره عليه ونوصيه بالمحافظة عليه؟!.

 

ما الذي يمنعنا إن رأينا من أحد طلابنا جدا ونشاطا وأدبا أن نشعره بالرضا والفرح والدعاء؟!.

 

ما الذي يمنعنا إذا رأينا معلما مخلصا أو موظفا مبدعا أن نشد على أيديهما ونشكرهما على إخلاصهما بدلا من التخذيل أو إشعاره بأن هذه واجبه وأن المطلوب منه أكثر من ذلك؟!. ما الذي يضيرنا إذا رأينا طبيبا حاذقا فاضلا خلوقا صابرا حريصا أن نبدي له الإعجاب والشكر والتقدير؟!.

 

ما الذي يلجم أفواهنا واقلامنا أن تشكر كاتبا أو صحفيا دافع عن الفضيلة أو ذب عن رجالها؟! لماذا لا نزجي الشكر والثناء لمسؤول أصدر قرارا فيه نفع للبلاد أو سد للفساد؟!.

 

لماذا لا نعتاد تقديم الثناء والشكر لكل من أسدى إلينا معروفا ولو قل "من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له"؟!.

 

أشيعوا ثقافة المديح والثناء بضوابطه وحدوده وعبروا عنه بكلماتكم الحانية ودعواتكم الصادقة وهداياكم اللطيفة واقتدوا بنبيكم فقد كان أمام كل موقف جميل يدعو ويثني ويهدي ويرفع الهمم.

 

إن المبادرة بالنقد والنظر من زاوية الخلل ابتداء قد يكون سببا لرد الحق وذريعة للتمادي في الباطل وهو سبب لإيغار الصدور وإيحاش النفوس وقتل الإبداع ووأد النجاح.

 

وإن باب الشكر والثناء باب واسع لمن أحسن فيه الدخول، ومسلك جميل للتعبير عن المشاعر والحفاظ على روح الود والنهوض بالهمم والتحريض على فعب الخير (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت:35].

 

اللهم صل وسلم...

المرفقات

أشيعوا الثناء.pdf

أشيعوا الثناء.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات