اقتباس
أيها البيت الصامت كالحداد لم يعد هناك صوت !!! لم يعد هناك أم !!! لم يعد هناك آمنة !! إنها ترقد هناك بالأبواء ، فيا للوعته ولهفه ويا حر قلبه عليها ...
قال الإمام أحمد عليه رحمة الله : حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ، قال : " الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل من الناس ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة : زيد في بلاءه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة "
نعم إنه الابتلاء ... يقول الله تعالى : " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صبروا وليعلمن الكاذبين * " ..
الابتلاء : سنة من سنن الله تعالى في هذا الكون ، يبتلي بها عباده ، ليعلم الذين صدقوا وصبروا ، ممن جزعوا وخاروا .
إذ ليس الإيمان كلمة تقال ، إنما هي حقيقة ذات أفعال ، وأمانة ذات أعباء ، وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال ..
وإن أعظم الناس بلاء : الأنبياء .. ولنبينا صلى الله عليه وسلم من البلاء أعظمه ، ومن المحن أشدها ...
فمن صور بلاءه صلى الله عليه وسلم ما جرى له من يتم
بفقد أبيه ثم فقد أمه ...
فعندما شق صدر النبي الصغير عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم خافت حليمة عليه فردته إلى أحضان أمه آمنة ، ترعاه وتحنو عليه ، تحدثه ويحدثها ، وتلاعبه ويلاعبها ، وتقص عليه وتملأ دنياه ويملأ دنياها ، فأي براءة كانت تشع في عيني ذلك الطفل الطاهر ، المغسول بالثلج في مرابع حليمة ، لا شيء كالأطفال براءة ، فتخيل براءة محمد صلى الله عليه وسلم وهو صغير ، يا لبهجة آمنة به ، ويا لشقاءه بها وحزنه عليها ، بعد أن أخذته معها متجهة به نحو أخواله في يثرب ، حيث قضى وقتا هناك يمرح في طرقاتها ويتأملها ...
ثم رجعت آمنة بصغيرها إلى مكة ، وفي مكان يقال له الأبواء بين مكة والمدينة توقفت المطايا ، ونزلت آمنة عن ظهر الراحلة ونزل صغيرها وقد تعلقت عيناه بها وهي تتوجع وتئن أمامه ، فلا يستطيع منحها ما يخفف ألمها سوى نظرات حائرة خائفة ، وتزيد آلامها ويزيد أنينها ، وتموت آمنة !!
وتدفن أمام عينيه ، بعيدا عن مكة ، وبعيدا عن عبد المطلب ، بعيدا عن أعمامه ، تؤخذ آمنة منه ، وتوارى تحت أكوام التراب ، ويعود باكيا وحيدا حزينا وقد تيتم مرة ثانية ، يعود إلى مكة ، يعود إلى ذلك البيت الصغير ، ويجول ببصره في أركانه الصامتة ، هنا كانت ترقد آمنة ، وهنا كانت تعد له طعامه ، وهناك كانت تلاعبه وتسعى لإضحاكه عندما تقوده خطواته الصغيرة إليها باكيا ، وفي هذا المكان كان يستحم بيديها ...
أيها البيت الصامت كالحداد لم يعد هناك صوت !!! أيها البيت الصامت لم يعد هناك أم !!! لم يعد هناك آمنة !! إنها ترقد هناك بالأبواء ، فيا للوعته ولهفه ويا حر قلبه عليها .
ربما تنبه ليلة فلم يجدها بقربه ففاضت عيناه بالدمع ، وألجمه الحزن والحنين إليها ، أو ربما كان يسأل جده وأعمامه عنها فيتجرعون الصمت ، وتفيض أعينهم شفقة عليه وحزنا ، فتتيه عنهم الإجابة .
إن للطفل أسئلة ملحة ومحرجة ، فكيف بأسئلة طفل مفجوع أصابه الدهر بأبيه وأمه . يسأل عنها ، ومتى ستعود ، وإلى أين ذهبت ، وهل ستتركه وحيدا أم سيذهب إليها ، أسئلة كلها بث وانكسار متى ما حاصرتك خفضت رأسك وبكيت .
لقد تعلق بها رغم أنه لم يحظ بقربها إلا سنوات قليلة ، مر ذات يوم بقبرها فرئي له بكاء لم يبكه من قبل ، يقول بريدة رضي الله عنه : ( انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبر فجلس ، وجلس أناس حوله ، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب ، ثم بكى فاستقبله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال :
هذا قبر آمنة بنت وهب ، استأذنت ربي في أن أزور قبرها ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها ، فأبى عليها ، وأدركتني رقتها فبكيت . فما رؤيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة ) ...
وماذا يملك النبي صلى الله عليه وسلم لأمه سوى الدموع ، فهو مجرد نبي مرسل ، والأمر كله لله وحده ، فعليه أن يأتمر بما أمره الله به من الصبر والاحتساب ، كما صبر في صغره على مرارة اليتم ووحشته ..
وصدق الرسول الكريم حين قال : " أشد الناس بلاء الأنبياء " ..
المراجع :
- مسند الإمام أحمد ..
- كتاب السيرة النبوية للدكتور محمد الصوياني..
- الرسل والرسالات للدكتور عمر الأشقر..
- الرائد للشيخ مازن الفريح..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم