أسماء الله الرازق والرزاق وخير الرازقين

عبد الرحمن بن سعد الشثري

2025-01-31 - 1446/08/01 2025-02-05 - 1446/08/06
عناصر الخطبة
1/ مفهوم الرزق والرزاق. 2/ أقسام الرزق: الرزق العام والرزق الخاص. 3/ دلالة الرزق على توحيد الله. 4/ بسط الرزق وعلاقته بالإكرام والإهانة. 5/ أهمية الشكر والصبر في مواجهة الابتلاءات.

اقتباس

فَحَرِيٌّ بكَ إذا أردتَ هذا الفضلَ من اللهِ أنْ تَتَعرَّفَ على أسمائه -سبحانه- الدالةِ على سَعَةِ فضلِه وعظيمِ رِزْقِه وكَرَمِهِ وجُودِه، فتتعلَّمَها وتَعْمَلَ بها وتدعوه بها تعَبُّداً، فرَبُّنا -سبحانه- هو أكرمُ الأكرمينَ وخيرُ الرازقين وهو ذو الفضل العظيم، ومِن أسمائه -سبحانه- الدالة على ذلك اسمه: الرازِقُ والرَّزاقُ وخيرُ الرازقين..

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ ‌ونَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبهِ سلَّمَ.

 

أمَّا بَعْدُ: “فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ”، و “لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ”.

 

عباد الله: اتقوا الله تعالى وتَقَرَّبُوا إليه بما يُحبُّه ويرضاه، واعلموا أن مِن أعظم ما تتقرَّبُون إليهِ أنْ تتعرَّفُوا عليهِ بأسمائهِ وصفاتهِ، التي أثبتَها لنفسهِ في كتابهِ وأثبتَهَا لهُ رسولُه محمد -صلى الله عليه وسلم-، مِن غير تَحريفِ ولا تعطيلٍ ولا تَمثيلٍ ولا تكييفٍ، فإذا انفتَحَ لكَ هذا الباب كما قال الشيخُ السعديُّ: “‌انفتحَ ‌لكَ ‌بابُ ‌التوحيدِ الخالصِ، والإيمانِ الكاملِ الذي لا يَحصُلُ إلا لِلْكُمَّلِ مِن الْمُوحِّدين” انتهى.

 

واعلمْ أنَّ سَيْرَكَ إلى اللهِ كما قال ابنُ القيِّم: “مِن طريقِ الأسماءِ والصِّفاتِ شأنهُ عَجَبٌ، ‌وفَتْحُه ‌عَجَبٌ، صاحبُه قد سَبَقَ السُّعاة، وهو مُستلْقٍ على فراشهِ، غيرُ تَعِبٍ ولا مَكْدُودٍ، ولا مُشتَّتٍ عن وَطَنهِ، ولا مُشرَّدٍ عن سكنه” انتهى.

 

وقد أَمَرَنا ربُّنا -عزَّ وجلَّ- أن ندعُوه بأسمائهِ الحسنى، ووَعَدَنا بالإجابةِ، فقال: (وللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، وقال -سبحانه- وبحمده: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، ذلك بأن الله هو الكريمُ ونحنُ الفقراءُ إليه، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد)، وفضلُ الله واسعٌ ورزقُه عظيم، قال الله تعالى: “يَا عِبَادِي ‌لَوْ ‌أَنَّ ‌أَوَّلَكُمْ ‌وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ” رواه مسلم.

 

وقد ضَمِن اللهُ لكلِّ مخلوقٍ مِنَّا رِزْقَه كما وَقَّتَ لَنا آجالنا، فقال -سبُحانهُ وبحمده-: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين)، وكما أنه -سبحانه- هو خالِقُنا فهو -سبحانه- رازِقُنا، كما قال -جلَّ وتقدَّس-: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون)، وكما أنه -سبحانه- الرَّزاقُ في الدنيا فهو -سبحانه- الرزَّاقُ في الآخرةِ لأهل جنتهِ، قال -سبحانه-: (لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

 

فَحَرِيٌّ بكَ إذا أردتَ هذا الفضلَ من اللهِ أنْ تَتَعرَّفَ على أسمائه -سبحانه- الدالةِ على سَعَةِ فضلِه وعظيمِ رِزْقِه وكَرَمِهِ وجُودِه، فتتعلَّمَها وتَعْمَلَ بها وتدعوه بها تعَبُّداً، فرَبُّنا -سبحانه- هو أكرمُ الأكرمينَ وخيرُ الرازقين وهو ذو الفضل العظيم، ومِن أسمائه -سبحانه- الدالة على ذلك اسمه: الرازِقُ والرَّزاقُ وخيرُ الرازقين، فما معناه، وأدلةُ ثُبوتِه، ودلالتُه على إفراده -سبحانه- بالعبادة، وعن أقسام رِزقه -سبحانه-، وعن بسط الرزق وعلاقته بالإكرام والإهانةِ، وعن آثارِ الإيمان بها في ترسيخ العقدية وزيادةِ الإيمان.

 

عبد الله: وأما معنى اسم الله الرازقُ والرَّزاق وخير الرازقين: قال الخطَّابيُّ: “الرَّزَّاقُ: ‌هُوَ ‌الْمُتَكَفلُ ‌بِالرِّزْقِ، والقَائمُ عَلَى كُل نَفْس بمَا يُقِيْمُهَا مِنْ قُوْتِهَا، وَسِعَ الخَلْقَ كُلَّهُمْ رِزْقُهُ ورَحْمَتُهُ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بذَلِكَ مُؤْمِنَاً دون كَافِرٍ، وَلا وَليَّا دوْنَ عَدُو، يَسُوْقُهُ إلى الضعِيْفِ الذِي لا حَيْلَ لَهُ ولا مُتَكَسَّبٌ فِيْهِ كمَا يَسُوْقُهُ إلَى الْجَلْدِ القَوِي ذِيْ الْمِرَّةِ السَّوِي” انتهى.

 

وقد دَلَّ على ثُبوتِ اسمه الرازق والرَّزاق وخير الرازقين الكتابُ والسُّنة، قال -سبحانه- وبحمده: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين)، وقال القرطبيُّ: “وقَرَأَ ابنُ مُحَيْصِنٍ ومجاهدٌ: «وفي ‌السَّمَاءِ ‌رَازِقُكُمْ» بالأَلِفِ، وكذلكَ في آخِرِهَا: «إنَّ اللهَ هُوَ الرَّازِقُ»“ انتهى، وورد اسم الرزَّاق بصيغة التفضيل خمس مرَّاتٍ، ففي سورة المائدة: (وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِين)، وفي سورة الحجِّ: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين)، وفي سورتي المؤمنون وسبأ: (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين)، وفي سورة الجمعة: (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِين)، و “عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَلا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ “‌إِنَّ ‌اللهَ ‌هُوَ ‌الْمُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ في دَمٍ ولا مَالٍ “ رواه الترمذي وصحَّحه.

 

وقد دلَّت أسماء الله الرازق الرزاق خير الرازقين على إفراده بالعبادة، فكما تفرَّد -سبحانه- بالرِّزق تفرَّد أيضاً بالخلْقِ والإحياءِ والإماتةِ، فقال -سبحانه- وبحمده: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ -سبحانه- وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون)، ولذا جاءَ تقريرُ دلالةِ تفرُّده -سبحانه- بالرِّزق على وجوب إفراده بالعبادةِ والتوحيدِ واللَّجَأ إليه وحده في طلب الرِّزق، قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون)، وقال -سبحانه-: (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَين)، وقال -سبحانه-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف)، فدلَّت هذه الآياتُ على سَعَة فضل اللهِ وكرمِه، مما يَزيدُكَ إخلاصاً لربِّك ورجاءً وحُبَّاً له، وتَخلُّصاً مِن أن تتعلَّقَ بغير الله الرازقِ الرزَّاق في استجلاب الرِّزق، أو رجاءِ النفعِ أو دفعِ الضُّر، وقد بيَّن -سبحانه- أن ما يعبُده المشركون لا يملكون لهم رِزْقاً، (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُون)، وقال الخليلُ مُخاطباً قومَه: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون)، وفي عِدَّة مواضع من القرآن يذكُرُ اللهُ نِعَمَه ويُعدِّدُها ويُذكِّرُهم بمنعها إن لم يشكُروه عليه؛ كقولهِ -سبحانه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون)، وقال يحيى -عليه السلام-: “وإنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- خَلَقَكُمْ ورَزَقَكُمْ، فَاعْبُدُوهُ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا” رواه الإمام أحمد وصححه محققو المسند، قال ابنُ القيِّم: “‌وهذه ‌قاعدة ‌القرآن؛ يُقرِّرُ توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، فيقرِّرُ كونه معبودًا وحدَهُ بكونه خالقًا رازقًا وحده” انتهى.

 

عباد الله: ورزق الله قسمان: رزق عامٌّ للمسلم والكافرِ والبرِّ والفاجرِ، وهو عطيةُ الله لخلقهِ، التي بها بقاؤهم، ومِن أمثلته: تفضُّله -سبحانه- بخلق المخلوقات لصالح الإنسان، قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)، ومِن أمثلتهِ: تفضُّلهُ -سبحانه- بإنزالِ الْمَطَرِ وإنباتِ النباتِ وخَلْقِ الأنعامِ، قال -سبحانه-: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُون * فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُون).

 

ومنهُ: ما أنعَمَ به -سبحانه- مِن الأزواج والذريَّة، وما سخَّره من المخلوقات والأرزاق في البحر.

 

ومنه: الأمن والعافيةُ في البدن، فكفى من سلامة الأعضاء نعمة على العبد، بحيث لو وُضعت نعمة واحدة منها في كِفَّة وثراء الدُّنيا في كِفَّة، لاختارَ العاقلُ نعمة العافية.

 

ومن ملامح الرزق العام أنه لا يختص به أحدٌ عن أحدٍ، بحسب ما قدَّره الله وقضاه، فقد بعث الله إليكَ الْمَلَك وأنتَ في بطن أُمِّك وقال له: “اكْتُبْ ‌عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ” رواه البخاري.

 

ولن تَخْرُج مِن الدُّنيا إلا وقد استكملتَ كلَّ ما لكَ فيها مِن رزق، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَلْقَى فِي رُوعِي أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ” رواه الحاكم وصحَّحه لغيره مُحقِّقه.

 

ولو مَنَعَ اللهُ رزقه عن أحدٍ مِن خلقه لَمَنَعَه عمَّن يدَّعُون له الولد، “قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “‌مَا ‌أَحَدٌ ‌أَصْبَرَ ‌عَلَى ‌أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ” رواه البخاري ومسلم.

 

ومِن ملامح الرزق العام: أنه لا يختص بمكان دون مكان؛ كما قال -سبحانه-: (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم).

 

ومنه: أن كثرة وقلة رِزقه -سبحانه- لعبده لا يترتب عليه إكرام أو إهانة، فهو فتنة واختبار وامتحان، قال -سبحانه-: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن).

 

ومنه: أنَّ رِزْقَهُ -سبحانه- لا يَنقصُ بكثرةِ المخلوقين، قال -سبحانه-: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا).

 

اللهم ارزقنا من واسع رزقك يا خير الرازقين، آمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ حَمْدَاً كَثيرَاً طَيِّبَاً مُبَارَكَاً فيهِ، مُبَارَكَاً عليهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا ويَرْضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه.

 

أمَّا بعدُ: وأما رِزق الله الخاص: فهو رزق الأرواح والقلوب، وهو أنفع نوعي الرزق وأبقاه، فهو الموصل للسعادة الأبدية، وهو خاص بعبادِ اللهِ المؤمنين.

 

ومن أمثلة الرزق الخاص: الهداية، والحمد هو أفضل نعم الله على عبده، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَا ‌أَنْعَمَ ‌اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ، إِلا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ” رواه ابن ماجه وحسنه البوصيري.

 

ومنه: إيتاؤه الحكمة والعِلْم والصبر، قال -صلى الله عليه وسلم-: “‌وَمَا ‌أُعْطِيَ ‌أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ” رواه البخاري ومسلم.

 

ومنه: اليقين والمعافاة، قال -صلى الله عليه وسلم-: “سَلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ واليقينَ في الأُولى والآخِرة، فإنه ما أُوتِيَ العبدُ بعدَ اليقين خيرًا من العافيةِ” رواه الحاكم وصححه محققه.

 

ومن أرزاق الله وفضله: الجليس الصالح، ومنه: رِزْقُه -سبحانه- للشهداء، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون).

 

ومن أعظم ما يرزقه الله لعباده المؤمنين: دخولهم الجنة، وأعظم ما في الجنة رؤية وجهه الكريم، (لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا- تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا).

 

عباد الله: إن لله حِكَماً في بسطه الرزق لبعض خلقه وقبضه عن بعضهم، ومن الحِكَم: الابتلاء في أداء عبادتي الشكر والصبر، (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ).

 

ومنها: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا).

 

ومنها: أن تظلَّ موصولاً بخالقكَ ورازقِكَ ترجو رحمته ورزقه وتخاف عذابه.

 

ومنها: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير)، قال البغوي: “قَالَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّا ‌نَظَرْنَا ‌إِلَى ‌أَمْوَالِ ‌بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل هَذِهِ الآيَةَ: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ).

 

وَسَّعَ اللهُ الرِّزْقَ، (لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا): لَطَغَوْا وَعَتَوْا.. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغْيُهُمْ طَلَبُهُمْ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَمَرْكَبًا بَعْدَ مَرْكَبٍ وَمَلْبَسًا بَعْدَ مَلْبَسٍ، (وَلَكِن يُنَزِّلُ): أَرْزَاقَهُمْ، (بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ): كَمَا يَشَاءُ نَظَرًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ” انتهى.

 

وبعد:

 

عبد الله: فإن قدرةَ اللهِ وسَعَةِ خزائنهِ لا تَحُولُ دون بَسْطِ رِزْقِهِ لكَ، قال -صلى الله عليه وسلم-: “‌إِنَّ ‌يَمِينَ ‌اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا في يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْفَيْضُ، أَوِ الْقَبْضُ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ” رواه البخاري، قال الإمام ابنُ القيم: “كذلكَ يَقْسِمُ ‌الأرزاقَ، ويُجزلُ العطايا، ويَمُنُّ بفضله على من يشاءُ من عباده بيمينه، وباليدِ الأُخرى الميزانُ يَخْفِضُ بهِ مَن يَشاءُ، ويَرفع به من يشاء، عَدْلاً منه وحكمةً، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فيَشهده وحده القيُّومُ بأمرِ السماوات والأرضِ ومَن فيهنَّ، ليس له بَوَّابٌ فيُستأْذَن، ولا حاجبٌ فيُدخَلُ عليهِ به، ولا وزيرٌ فيُؤتى، ولا ظهيرٌ فيُستعان به، ولا وليٌّ مِن دونهِ فيُتشفّعُ به إليهِ، ولا نائبٌ عنه فيُعرِّفَه حوائجَ عباده، ولا مُعينٌ له فيُعاونه على قضائها، بل قد أحاطَ -سبحانه- بها عِلْمًا، ووَسِعها قُدرةً ورحمةً، فلا تزيدُه كثرةُ الحاجاتِ إلا جُودًا وكَرَمًا؛ فلا يَشْغَلُه منها شأنٌ عن شأنٍ، ولا تُغلِّطُه كثرةُ المسائل، ولا يَتبرَّمُ بإلحاح الْمُلِحِّين، لو اجتمَعَ أوَّلُ خلقهِ وآخرُهم، وإنسُهم وجِنُّهم، وقاموا في صعيدٍ واحدٍ، ثمَّ سأَلُوه، فأعْطَى كُلاَّ مِنهُم مَسْأَلتَه، ما نقصَ ذلكَ مِمَّا عندَهُ ذرَّةً واحدةً إلا كما يَنقُصُ الْمِخْيَطُ البحرَ إذا غُمِسَ فيه، ولو أنَّ أوَّلهم وآخرِهُم وإنسَهُم وجِنّهُم كانوا على أتقى قَلْبِ رَجُلٍ واحدٍ منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو أنَّ أوَّلهم وآخرِهُم وإنسَهُم وجِنّهُم كانوا على أفجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ واحدٍ منهم ما نقَصَ ذلك مِن مُلْكِه شيئًا، ذلك بأنَّه الغنيُّ الْجَوَادُ الْمَاجدُ، فعَطَاؤُه كَلامٌ، وعَذابُه كلامٌ، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)” انتهى.

 

فلربِّنا الرازق الرزَّاق الْحَمْدُ على كَثْرَةِ وتَجَدُّدِ رِزْقِهِ لَنا، يَرْزُقُنا قَبْلَ أَنْ نسْأَله، بَلْ ويرْزُقُنا حتَّى مَعَ مَعْصِيَتِنا، فهو الْمُتَكَفِّلُ بالرِّزْقِ القَائِمِ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا يُقِيمُهَا مِنْ قُوتِهَا، فَسَهَّلَ لنا الأرزاقَ ودَبَّره في أَجْسَامِنا، وساقَ إلى كُلِّ عُضْوٍ صَغيرٍ وكَبيرٍ ما يَحْتَاجُهُ مِنَ الْقُوتِ، وما مِنْ مَوْجُودٍ في العَالَمِ العُلْوِيِّ والعَالَمِ السُّفْلِيِّ إلاَّ مُتَمَتِّعٌ برِزْقِه، مَغْمُورٌ بكَرَمِه، فَيبْعَثُ إلى كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنَ الرِّزْقِ ما يُصْلِحُهُ، حتَّى الذَّرَّ في قَرَارِ الأَرْضِ، والطَّيْرَ في الْهَوَاءِ، والْحِيتَانَ في الْمَاءِ؛ فاللهُ رَبُّنا الْمُطْعِمُ الرَّازِقُ الرَّزَّاقُ خَيْرُ الرَّازِقينَ.

 

فيا رَبَّنا اغْفِرْ لنا، وارْحَمْنا، واجْبُرْنا، وارْفَعْنا، واهْدِنا، وارْزُقْنا، وأنتَ خيرُ الرازقينَ، آمين.

المرفقات

أسماء الله الرازق والرزاق وخير الرازقين.doc

أسماء الله الرازق والرزاق وخير الرازقين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات