عناصر الخطبة
1/ دعوة الإسلام لإعداد القوة المادية 2/ مفهوم القوة 3/ أسلحة معنوية خاصة بالمؤمنيناقتباس
ومن هنا، نهمس في أذن كل مسؤول ممن ولاه الله أمراً من أمور المسلمين، وخاصةً قادة الجيوش الإسلامية، فنقول: اعلموا أن أوجب الواجبات عليكم، أن تربّوا جنودكم على تقوى الله وطاعته، مبتدئين في ذلك بأنفسكم، ومَن هو دونكم؛ فإن أنتم فعلتم ذلك، نصركم الله على عدوكم، ومكّن لكم، كما نصر أسلافكم، ومكَّن لهم؛ وإن لم تفعلوا، كنتم سبب تخلف النصر عن أمة الإسلام، وتمكين الأعداء من أمتكم، وبؤتم بإثم ذلك..
أيها المسلمون: إن الحرب مع الأعداء لا تكاد تَعرف إلا منطق القوة، سواءً أكانت هذه القوة حسيَّةً مادِيَّةً، أم قوة معنويَّةً غيبيَّةً، لذا قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم) [الأنفال:60].
إن من الخطأ الفادح تقويمَ معادلة القوة بالنظر إلى أحد جانبيها الحسي أو المعنوي، مع إغفال الجانب الآخر؛ وأعظم من ذلك خطأً الاعتمادُ على جانبٍ دون الجانب الآخر، كمن يعتمد فقط على نصر الله لعباده المؤمنين، انطلاقاً من قوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون) [الصافات:171-173]، فيدعوه ذلك إلى ترك الأخذ بالأسباب المادية، أو يرى أن عدم التكافؤ في الأسباب المادية يوجب الهزيمة والاستسلام، فيظنّ أنَّ مواجهة الأعداء مع عدم التكافؤ الماديِّ الحسيِّ التقنيِّ إلقاء بالنفس إلى التهلكة.
والحقُّ هو أن قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَة) [البقرة:195] جاء في سياق الآيات وهي تلفت النظر إلى الجانب الأهمِّ للقوة، وهو جانب معية الله لعباده المتقين، قال الله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكةِ وَأَحسِنُوا، إنَّ اللَّهَ يُحبُّ الْـمُحْسِنِين) [البقرة:194-195]؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله".
ولما قام رجل من الصحابة في غزوة القسطنطينية فحمل على العدو حتى دخل فيهم ثم خرج، صاح الناس وقالوا: سبحان الله! ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ فقام أبو أيوب الأنصاري، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إنكم تتأولون هذه الآية، إنما نزلت هذه الآية فينا -معاشرَ الأنصار-، إنا لَمَّا أعزَّ الله دينه، وكثر ناصروه، قلنا فيما بيننا بعضُنا لبعض سراً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها؛ فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَة)، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد؛ قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن تحت أسوار القسطنطينية.
أيها المسلمون: إنَّ مواجهة أهل الإيمان لعدوهم الذي يتفوق عليهم بالعدة والعدد -مهما كان الفارق بينهم، ومهما ملَك العدو من وسائل الحرب المتطورة- ليس من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، إذا بذلوا ما في وسعهم لإعداد العدة الحسية والمعنوية لمواجهة عدوهم، ولو كان شيئاً يسيراً، فإن الغلبة والنصر إنما هي من عند الله القائل: (وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيم) [آل عمران:126].
ويزيد الأمر وضوحاً إذا عرف المؤمن أن معادلة القوة تكون لصالحه إذا كان يملك -إلى جانب ما يستطيع أن يعده من القوة الحسية- تلك الأسلحة التي لا يمكن لقوى الأرض كلها أن تقف أمامها.
أما السلاح الأول من تلك الأسلحة فهو معيَّة الله لعباده المؤمنين، فلا شك أن ميزان القوى ومعادلة التكافؤ بين الأطراف المتحاربة تخضع لمن يناصر كل طرف، ومن يقف بجانبه ويؤيده، وإن كان بمجرد التأييد العاطفي، والتشجيع المعنوي؛ فكيف ستكون المعادلة إذا كان الله -جل وعلا- مع أهل الإيمان يؤيدهم وينصرهم؟ قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ، لَعَلَّكُمْ تشْكُرُون) [الأنفال:26]، وقال تعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ، إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَار) [آل عمران:13]، وقال تعالى: (إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون) [النحل:128].
فهو معهم -سبحانه وتعالى- بالإعانة والكفاية، والنصر والتأييد، والهداية والتسديد، وغير ذلك مما تجفو عبارة المخلوق عنه، ويقصر تعريفه دونه، وهذه هي معية الله الخاصة لأحبابه وأوليائه.
ومَن كان الله معه كان النصر حليفه، فمهما ملَك عدوه من قوة، أصبح أحقر من الذباب في نظره، وإن كانت الأسباب المادية كلها في يده، كما قال موسى -عليه السلام- حينما خرج فرعون بغطرسته وجنوده يطاردونه هو والقلة المؤمنة معه، حتى قال فرعون: (إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُون) [الشعراء:54]؛ هذه المفارقة العظيمة بين الطرفين جعلت بعض من كان مع نبي الله موسى عليه السلام يقول: (إنا لمدركون) [الشعراء:61]. ولكن موسى -عليه السلام- لمـا كان يعي حقيقة المعادلة قال: (كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين) [الشعراء:62]، ثم قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك: (وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنا الآخرِينَ * إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِين) [الشعراء:65-67ٍ].
وكذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم- حينما خرجت قريش بغطرستها وكبريائها تطارده، فآوَى إلى الغار ومعه صاحبه الصدِّيق -رضي الله عنه-، وما كانا يملكان من القوة المادية شيئاً يذكر، حتى خاف أبو بكر -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما رأى أن القوم قد وصلوا إليهم، ولكن الثقة بموعود الله جعلت النبي -صلى الله عليه وسلم- يُطَمئن صاحبه ويقول: (لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، كما قال سبحانه وتعالى: (إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا. فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) [التوبة:40]. فحينما تمتلئ قلوب أهل الإيمان يقيناً بأن الله معهم، فسوف لن يأبهوا بعدوهم، مهما يكن معه من قوة.
أما سلاح المؤمنين الثاني فهو الملائكة التي تقاتل في صفوفهم، فقد ثبت بالكتاب العزيز، والسنة الصحيحة، أن الملائكة شاركت في قتال المشركين يوم بدر، قال سبحانه: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إذْ تَقولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْـمَلائِكَةِ مُنـزَلِينَ؟ * بَلَى، إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْـمَلائِكَةِ مُسَوِّمِين) [آل عمران:123-125]، وقال سبحانه: (إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْـمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان) [الأنفال:12].
وقد رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الملائكة في غزوة بدر، وقال: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب"؛ بل إن رؤيتهم لم تكن مقتصرة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي صحيح البخاري، عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "رأيت عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض، لم أرهما قبلُ ولا بعد". قال ابن حجر في الفتح: "هما جبريل وميكائيل، كذا وقع في مسلم من طريق أخرى".
ولم تكن مشاركتهم مقتصرة على غزوة بدر، فقد حاربت الملائكة في مواقعَ أخرى، ففي غزوة الخندق، يوم الأحزاب، أرسل الله ملائكة تقاتل في صفوف أهل الإيمان؛ قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا) [الأحزاب:9].
فإذا عُلم ذلك، فإن الملائكة خَلق من خلق الله تعالى، وقد أوتوا من القدرة ما يعجز عنه الوصف، فقد رفع جبريل قرى قوم لوط بطرف جناحيه إلى السماء ثم فلتهم، كما ذكر ابن كثير في تفسيره عن مجاهد؛ فسـبحان الله! كيف يُهزم جندٌ تقاتل معهم الملائكة؟! فهذا من أهم الأسرار التي تجعل كفة الغلبة والنصر في أكثر الغزوات ترجح لصالح أهل الإيمان، رغم عدم التكافؤ في العدد والعدة مع الأعداء.
أما السلاح الثالث فهو مؤازرة مسلمي الجن لإخوانهم المؤمنين، فالجنُّ خلق من خلق الله تعالى، خلقهم الله تعالى قبل خلق آدم -عليه السلام-، فكانوا أول من سكن الأرض، قال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُون * وَالْـجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُوم) [الحجر:26-27].
وقد وهب الله تعالى الجن من القدرات العظيمة ما لا يعلمه إلا الله، وقد بيَّن -سبحانه- في كتابه شيئاً من ذلك، كما في قصة سليمان -عليه السلام- حينما طلب إحضار عرش ملكة اليمن بلقيس إلى بيت المقدس، فقال عفريت من الجن: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ، وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين) [النمل:39]؛ ويدل -أيضا- على ما أوتوا من القدرات الهائلة قدرتُهم على اختراق الفضاء، ووصولهم إلى السماء، قال -سبحانه- عنهم: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبا) [الجن:8].
ومما لا شك فيه أن في الجن الصالحين الذين تعلقت قلوبهم بحب الله، كما قال تعالى: (وَأَنّا مِنّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ، كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدا) [الجن:11].
أما الرعب فهو السلاح الرابع، وهو أن يقذف الله -سبحانه وتعالى- في نفوس أعدائه المهابة، والخوف الشديد الذي تخور معه قواهم، وتضطرب أفكارهم، وتتوتر أعصابهم؛ وهو من أعظم أسباب النصرة لأنبيائه وأوليائه؛ فإن القوة الحقيقة هي قوة الفؤاد، وثبات الجأش؛ وقد جعل اللهُ المهابة وارتعاب الأعداء من خصائص هذه الأمة المباركة؛ ففي صحيح البخاري، عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت خمساً لم يعطها أحد قبلي: نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".
وقد قال الله سبحانه وتعالى: (إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْـمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان) [الأنفال:12]، وقال الله تعالى: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَكَفَى اللَّهُ الْـمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ، وَدِيَارَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا) [الأحزاب:24-26].
وفي المقابل، فإن الله سبحانه وتعالى يربط على قلوب المؤمنين، ويُنـزل عليهم السكينة، حتى يصل بهم الحال إلى النعاس، لما يجدونه في قلوبهم من الطمأنينة والسكينة: (إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْه) [الأنفال:11]، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، أن أبا طلحة قال: كنت فيمن تغشَّاه النُّعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط فآخذه.
أما السلاح الخامس فهو التكبير، وهو أن يهتف أولياء الله وأحباؤه من المؤمنين بـــ: لا إله إلا الله والله أكبر؛ فيكون له من الأثر الحسي والمعنوي في أعداء الله ما لا تثبت أمامه قوى الأرض، بل تتلاشى وتضمحل أمام تكبيرات أهل الإيمان الصادقين المخلصين، الذين نصروا الله في أنفسهم، فانتصروا.
في صحيح مسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سمعتم بمدينةٍ جانبٌ منها في البر وجانب منها في البحر؟" قالوا: نعم يا رسول الله. قال: "لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم، فيدخلونها فيغنمون؛ فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ! فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون".
وفي يوم القادسية قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لجيشه: "الزموا مواقفكم! لا تحركوا شيئاً حتى تصلّوا الظهر، فإذا صليتم الظهر، فإني مُكَبِّرٌ تكبيرةً فكَبِّروا واستعِـدُّوا، واعلموا أن التكبير لم يُعطَه أحد قبلكم، واعلموا أنما أعطيـتموه تأييداً لكم؛ ثم إذا سمعتم فكبروا، ولتستَتِمَّ عدتكم؛ ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشِّط فرسانكم الناس، ليبرزوا وليطاردوا؛ فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله".
ولا شك أن التكبير من جملة الذكر الذي أمر الله تعالى به عند ملاقاة العدو، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) [الأنفال:45]، بجانب أن له ميزة خاصة كما تقدم.
أما السلاح السادس فهو التقوِّي بإقامة الصلاة، وبحسن الصلة بالله تعالى؛ فالصلاة هي الصلة بقيُّوم السماوات والأرض، فإذا اتصل العبد بالملك القدوس السلام المؤمن المهيمن الجبار المتكبر، وكان حَسَنَ الاتصال بربه، فإنه يفوز بكل ما يصبو إليه، فإن دعا استجيب له، وإن استنصر نُصِر؛ ومن هنا، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكيف لا؟ والله جل وعلا يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْـخَاشِعِين) [البقرة:45]؛ ولهذا قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "لقد رأيتنا يوم بدر وما منا إلا نائم، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو، حتى أصبح".
أما السلاح السابع فهو الدعاء، وهو طلب النصر والغلبة على الأعداء من الله الواحد الأحد، جل في علاه؛ وقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يفزع إلى ربه تعالى في غزواته، ويلح عليه بالدعاء.
ففي غزوة بدر بات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه ويقول: "اللهم إن تُهلَك هذه الفئة لا تُعبَد"؛ وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر استقبل القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف لربه: "اللهم أنجز لي ما وعدَّتّني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تُعبد في الأرض"، فما زال يهتف بربه، مادَّاً يديه، مستقبلاً القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله -سبحانه-: (إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْـمَلائِكَةِ مُرْدِفِين) [الأنفال:9].
ولا شك أن الدعاء سلاح لا يقاوَم، وقـد كان السلف الصالح يعدون الدعاء من الأسلحة التي لا غنى لهم عنها في حروبهم وغزواتهم؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا بَراء! -أي البراء بن مالك- أَقسِمْ على ربك! فيقول: "يا ربّ! أقسمتُ عليك لما منحتني أكتافهم" فيُهزم العدو؛ فلما كان يوم القادسية قال: "أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد"، فمُنحوا أكتافهم، وقُتِلَ البراء شهيداً".
وكان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة، ما دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتَح العراق.
الخطبة الثانية:
أما السلاح الثامن من أسلحة هذه الأمة فهو التخلُّقُ بأخلاق الصالحين، هذا النوع من السلاح الذي ينصر الله بسببه أهلَ الإيمان من المجاهدين في سبيله، وهو من أعظم الأسلحة؛ بل إن كل الأسلحة والأسباب المتقدمة مبنية على هذا النوع المبارك، فإن معية الله الخاصة لأوليائه إنما تكون لأولئك، وكذلك نصرة الملائكة وغيرهم من جنود الله، فهي إنما تقاتل نُصرةً لعباد الله الصالحين.
وهكذا كان دَأبُ الصالحين، فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء، عن أبي حاتم الرازي، قال: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي، قال: كنا سريَّة مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادَفَنَا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فطارده ساعة وطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرتُ فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكُمِّه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنّع علينا -يعني يفضحنا-! ومثل هذا كثير جداً في أخبار الصالحين.
وقد كان القادة من أهل الإسلام يعتنون بهذا النوع من السلاح أيما عناية؛ فحين أبطأ على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فتحُ مصر كتب إلى عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "أما بعد: فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر! تقاتلونهم منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحبَّ عدوكم، وإن الله سبحانه لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم؛ وقد كنت وجَّهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غـيرهم، وهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود بن عمـرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد.
فإذا أتاك كتابي هذا، فاخطب في الناس، وحُضهم على الصبر والنية، وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس أن يكون لهم صدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنـزل فيها الرحمة وقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله سبحانه وتعالى، وليسألوه النصر على عدوهم".
فلما أتـى عَمْراً الكتابُ، جمع الناس وقرأ عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدَّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا، ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله سبحانه، ويسألوه النصر، ففتح الله عليهم.
ومن هنا نهمس في أذن كل مسؤول ممن ولاه الله أمراً من أمور المسلمين، وخاصةً قادة الجيوش الإسلامية، فنقول: اعلموا أن أوجب الواجبات عليكم، أن تربّوا جنودكم على تقوى الله وطاعته، مبتدئين في ذلك بأنفسكم، ومَن هو دونكم؛ فإن أنتم فعلتم ذلك، نصركم الله على عدوكم، ومكّن لكم ،كما نصر أسلافكم، ومكَّن لهم؛ وإن لم تفعلوا، كنتم سبب تخلف النصر عن أمة الإسلام، وتمكين الأعداء من أمتكم، وبؤتم بإثم ذلك، ثم يستبدلكم الله بقوم يحبهم ويحبونه، فيجعل الله النصر والتمكين على أيديهم؛ فكونوا أنتم أولئك، يكتب لكم النصر، و(اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين) [الأعراف:128].
أما السلاح التاسع فهو أسباب السماوات والأرض، فهي مما ينصر الله بها عباده المتقين، وهي أسباب لا يحيط بعلمها إلا هو -سبحانه وتعالى-، كالريح، والزلازل، والخسف، وإمطار الحجارة من السماء، والصواعق المحرقة، والأسقام، والأوجاع المؤلمة، وتسليط الحشرات، وغير ذلك مما يسلطه -جل وتعالى- على من يشاء من أعداء الملة، وخصوم الشريعة.
أيها المسلمون: وهذا بالطبع لا يعني الاستغناء عن الأسلحة التي تصنعها الحضارة، لقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ، وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم) [الأنفال:60].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم