عناصر الخطبة
1/ سفر النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة 2/ الدروس المستفادة من سفره للهجرة 3/ سفره صلى الله عليه وسلم للجهاد 4/سفره صلى الله عليه وسلم للعمرة والحج 5/ آداب السفراقتباس
ما أحوجَنا، ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات، إلى تعلُّم فنِّ صناعة الأمل! فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب باباً إلى خير مجهول، ورب محنة في طيِّها منحة، أوَليس اللهُ -جلَّ وتعالى- قد قال: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم؟.
أيها المسلمون: قال الإمامُ العلاَّمةُ شمسُ الدِّين ابن القيِّم -رحمه الله-: كانت أسفارُه -صلى الله عليه وسلم- دائرةً بين أربعة أسفار: سفره لهجرته، وسفره للجهاد، وهو أكثرها، وسفره للعمرة، وسفره للحج. انتهى كلامه -رحمه الله- من زاد المعاد.
لقد سافر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة للشام في تجارة لخديجة -رضي الله عنها-؛ أمَّا سفره للهجرة فقد غيّر مجرى التأريخ، فهذا الحدث يمثل أهمّ حدث من أحداث التاريخ الإسلامي، به بدأ بناء الدولة الإسلامية، وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له، وتبلّغ دينه الحنيف إلى كل الناس.
إن سفر الهجرة يرفع الإنسان من الذلّ إلى العزة إذا كان بين قوم لئام، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ناله من مشركي مكة ما ناله، فخرج منها مهاجراً، وقال وهو على راحلته بعد أن خرج منها: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت"، فهاجر إلى طيبة الطيبة، فكان من أمره ما كان، ثم عاد إليها، وفتحها الله عليه.
ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي قدّم لهم الحياة، وصنع لهم الأمل؛ الرجل الذي أنقذهم من أن يكونوا حطباً لجهنم؛ يبلُغهم الخبر فيخرجون كل غداة لاستقباله حتى تَرُدّهُم الظهيرة؛ كيف لا وقد اقتربت اللحظة التي كانوا يحصون لها الأيام، ويعدون الساعات؟.
قال الزبير، رضي الله عنه: فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظاره، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أُطماً من آطامهم لينظر إليه، فبصر برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب! هذا صاحبكم الذي تنتظرون! فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظاهر الحرة، تلقوه بقلوب تفيض سعادة وفرحاً.
قال أنس، رضي الله عنه: "شهدت يوم دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فلم أر يوماً أحسن منه، ولا أضوأ منه".
أقبِلْ فتلك ديارُ يثْربَ تُقبلُ يكفيكَ من أشواقها ما تحمِلُ
القومُ مُذْ فارَقْتُ مكةَ أعينٌ تأبَى الكَرَى وجوانحٌ تَتَمَلْمَلُ
يتطلَّعُون إلى الفِجاجِ وقولهُم أفَما يُطالِعُنا النبيُّ المرسَلُ؟
رفَّتْ نضارتُها وطابَ أريجُها وتدفَّقَتْ أنفاسُها تتسلسلُ
فكأنَّما في كلِّ دارٍ روضةٌ وكأنَّما في كُلِّ مَغْنَىً بُلْبُلُ
إن سفر النبي -صلى الله عليه وسلم- للهجرة يعلم المؤمنين فن صناعة الأمل، الأمل في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل مشرق للا إله إلا الله، الأمل في الفرج بعد الشدة، الأمل في العزة بعد الذلة، والأمل في النصر بعد الهزيمة؛ تعلمنا الهجرة في كل فصل من فصولها كيف نصنع الأمل، ونترقب ولادة النور من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات.
ما أحوجنا، ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات، إلى تعلُّم فن صناعة الأمل! فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب باباً إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس الله جل وتعالى قد قال: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم) [البقرة:216]؟.
لقد ضاقت مكة برسول الله، ومكرت به، فجعل الله تعالى نصره وتمكينه في المدينة؛ وأوجفت قبائل العرب على أبي بكر مرتدة، وظن الظانون أن الإسلام زائل لا محالة، فإذا به يمتد من بعدُ ليعم أرجاء الأرض! وهاجت الفتن في الأمة بعد عثمان حتى قيل لا قرار لها، ثم عادت المياه إلى مجراها! وأطبق التتار على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد عاصمة الدنيا في ذلك الوقت، وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم، وقيل ذهبت ريح الإسلام، فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها! وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشهم وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى ركبها، حتى إذا استيأس ضعيف الإيمان، أنقذ الله الأمة بصلاح الدين، فرجحت الكفة الطائشة، وطاشت الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد! وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذّن الفجر على أذيال ليل مهزوم، فلم اليأس والقنوط؟.
لقد هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل الدين لا من أجل الدنيا، فقد بقي في مكة طيلة هذه المدة رغم الأذى الذي تعرض له هو وأصحابه، لأنه كان يسير بأمر الله سبحانه، وكان يريد أن يبلغ دين الله سبحانه وأن يهدي البشرية إلى طريق السعادة الأبدية، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيرا) [الأحزاب:46].
لقد كانت الهجرة نتيجة صبر ثلاثة عشر عاما من الخوف والجوع والحصار والأذى، فكانت الثمرة على قدر التعب وعلى قدر الصبر، وهكذا هذا الدين، لا يعطي ثمرته إلا لمن صبر وثابر، أما من استعجل النتائج فإنه يُحرَم، وهذه سنّة كونية، من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه؛ فدولة المدينة التي شعّ منها النور إلى كلّ الأرض كانت نتيجة لصبر مكّة، ورسول الله الذي خرج من مكة سرّاً والناس يبحثون عنه، دخل المدينة في احتفال عظيم يحفّ به الناس من كلّ جانب، كلّ منهم يطلب منه أن ينـزل عنده، وتحقق للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه قول الله تعالى ووعده لعباده الصالحين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ، أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا) [النور: 55].
إن في الهجرة دروسا في الامتثال لأمر الله، ودروسا في الإيمان واليقين، ودروسا في التخطيط وعدم التسرع، ودروسا في التضحية والإيثار، ودروسا في الحكمة وحسن التصرف، كل هذا وغيره ينبغي أن نستنبطه من سفر النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجرته.
لم تكنْ الهجرةُ الشريفةُ إلى المدينة ترفاً ثقافياً، أو سياحةً ومتعة أو استكشافاً لعالمٍ جديد، كلاَّ، لقد كانتْ خياراً لا مفرّ منه، وحلاً أخيراً بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت وتغيّرَ عليهم الناس، وأصبحتْ بضعُ ركعاتٍ في المسجدِ الحرامِ جريمةً لا تُغتفر، وغدتْ قراءةُ القُرآن رجعيةً وهمجيةً وإرهاباً وتطرفاً.
إن الهجرة من مكة كانت إيذاناً بفتح مكة، لماذا؟ لأن الهجرة النبوية لم تكن هروباً من معركة أو فراراً من مواجهة، بل كانت تجسيداً للجهاد، وترسيخاً لقواعد الإيمان؛ ما كانت الهجرة طلباً للراحة والاستجمام، ولا حرصاً على الحياة، بل كانت استجابة لأمر رباني لاستئناف الحياة الإسلامية
شَعَّ الهُدى والبِشرُ في بسَماتهِ واليُمْنُ والإيمانُ في قسَماتهِ
وتفجَّرَتْ فينا ينابيعُ الهُدَى واستيقظَ التأريخُ من غفَواتهِ
" إقرأ وربُّك" في حراءَ تحرَّرَتْ والدَّهْرُ غافٍ في عميقِ سباتهِ
جبريلُ حاملُها، وأحمدُ روحُها إنَّ الحديثَ مُوثَّقٌ برُواتهِ
يا مَنْ بنَى للكون أكرمَ أمّةٍ مِنْ عِلمه مِن حِلمه وأَنَاتِه
صاروا ملوكاً للأنام بُعيْدَ أنْ كانوا رعاءَ الشاءِ في فلَواته
مَنْ حطَّمَ الأصنامَ في تكبيره؟! مَن عانَقَ التَّوحيدَ في سجَداتهِ؟!
من أطلق الإنسانَ مِنْ أغلاله؟! مَن أخرج الموءود من دَرَكاته؟!
من علَّمَ الحَيْرانَ درْبَ نَجاتهِ؟! من أورد العطشان عذْب فراتهِ؟!
من هدَّ بُنيان الجهالة والعمى؟! وبنى الأمانَ على رميم رفاتهِ؟!
في الهجرة الغرَّاءِ ذكرى معهدٍ نستلهمُ الأمجادَ مِن خطَراته
تأريخُ أمَّتنا ومَنْبَعُ عزّنا ودُرُوبُنا تزهو بإشراقاته
فيه الحضارةُ والبِشَارةُ والتُّقَى ومُقِيل هذا الكون مِن عثَراته
فتألَّقِي يا نفسُ في نفَحَاته واستشْرِفي الغاياتِ من غاياته
وأما سفره للجهاد، فكما قال ابن القيم -رحمه الله- فهو أكثرها، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الذّروةِ العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كُلّها، فجاهد في اللَّهِ حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدَّعوة والبيان، والسيفِ والسِّنَانِ؛ وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه ولسانه ويده؛ ولهذا فقد كان أرفعَ العَالَمِينَ ذِكراً، وأعظمَهم عند الله قدراً.
لقد أمره الله تعالى بالجِهاد مِنذ أن بعثه فقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً، فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) [الفرقان:52]؛ وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّنبِىُّ جَاهدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ المَصِيرُ) [التوبة:73؛ التحريم:9].
سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- للجهاد في سبيل الله في غزوات عديدة، وسرايا كثيرة، يقطع الفيافي والصحارى مع تلك الثلة المباركة من الصحابة، رضوان الله عليهم، فخرج في غزوة بدر وأحد وفتح مكة وحنين والطائف وتبوك، وغزا بني النضير وبني قريظة وبني المصطلق وغيرها، وأثبت -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره تلك أنه أكبر قائد عسكري في الدنيا، وأعمقهم فراسة وتيقظاً، فلم يخض معركة من المعارك إلا في الظرف ومن الجهة اللذين يقتضيانها، ولذلك لم يفشل في أي معركة من المعارك، بل وأثبت في كل ذلك أن له نوعاً من القيادة غير ما عرفتها وتعرفها الدنيا من القواد.
وقد استفاد عدد كبير من الصحابة -رضوان الله عليهم- ممن كانوا يسافرون معه في تلك الغزوات، تعلموا منه فن القيادة، وفن التكتيكات العسكرية، لذا نراهم بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- صنعوا الأعاجيب، وأسقطوا دولاً، وهزوا ممالك، ودوخوا كثيراً من الشعوب، وفتحوا بلاداً وحكموها في فترة قصيرة جداً من عمر التاريخ، حتى كان الخليفة المسلم يحكم من الصين إلى أوربا؛ فأي تاريخ هذا؟ وأية دولة تلك؟ ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأما أسفاره للعمرة فقد اعتمر -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة أربع عمرات كلهن في شهر ذي القعدة: عمرة الحديبية، وهي أولاهن، سنة ست، حيث صده المشركون عن البيت فنحر البدن وحلق هو وأصحابه رؤوسهم وتحللوا من إحرامهم ورجعوا؛ وعمرة القضاء في العام التالي حيث دخل مكة واعتمر وأقام بها ثلاثا؛ وعمرته التي قرنها مع حجته؛ والرابعة عمرته من الجعرانه لما خرج إلى حنين ثم رجع إلى مكة. هذه جملة أسفاره -صلى الله عليه وسلم- للعمرة.
ولم يكن في عُمَرِه عمرة واحدة خارجاً من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كان فيها كلها داخلاً إلى مكة؛ ولم يحفظ عنه، عليه الصلاة والسلام، أنه سافر للعمرة في السنة إلا مرة واحدة فلم يعتمر في سنة مرتين، لكن لو سافر الإنسان في السنة أكثر من مرة من أجل العمرة فليس في ذلك بأس، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وأما سفره للحج فهي سفرة واحدة، في السنة العاشرة من الهجرة، وذلك لحجة الوداع؛ كانت رحلة عظيمة جليلة، فيها من التوحيد والعبادة والنسك والتعليم والتربية ما يعجز المرء عن وصفه؛ فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته نادى مناديه أنه يريد الحج فكانت حجة الوداع، لأنها كانت في آخر عمره، ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودع فيها الأمة، فوقف يوم عرفة وقال: "أيها الناس: اسمعوا قولي وخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".
ولذلك تأثر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلموا أن رسول الأمة ودعهم بهذه الكلمات، وأنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا، فوعت قلوبهم، وخشعت أفئدتهم وأخذوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه وسنته في حجة الوداع على أتم الوجوه وأكملها حتى حفظوا الزمان وحفظوا المكان، وحفظوا الحركات، وحفظوا الكلمات، فجزاهم الله عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء وأوفاه.
خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة يوم السبت بعد صلاة الظهر، ثم نزل بذي الحليفة فأقام بها يومه ذاك وبات ليلته تلك، حتى يتتابع إليه الناس ويدركه من بعد عنه؛ وخرج معه الصحابة، فقد امتلأت المدينة حينما علموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – سيحج.
جاء عن جابر أن الناس أقبلوا من كل حدبٍ وصوب كلهم يسأل: ماذا سيفعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ ولم ينتظروا إلى أن يجتمعوا به في مكة، ولكن تكلّف بعضهم وأتى إلى المدينة، وتحملوا مشقة الإحرام من أبعد المواقيت عن مكة، كل ذلك لكي يصحبوه من أول هذه العبادة ولا يفوتهم شيء من شرف الرؤيا وشرف العلم.
انطلق -صلى الله عليه وسلم- وهو يقطع الفيافي الفساح، وكأنما جبالها ووهادها وآكامها وأوديتها تروي له خبرها، وتحدثه بمن مر بها، فتراءت للرسول -صلى الله عليه وسلم- أطياف الأنبياء الذين ساروا يؤمّون هذا البيت قبله كأنما يراهم أمامه ويرافقهم في مسيره.
سار -صلى الله عليه وسلم- في الطريق بين المدينة ومكة، مسافراً يتلقى ما يتلقاه المسافر من وعثاء السفر ونصب الطريق، فقد مرض -صلى الله عليه وسلم- في مسيره ذاك، واشتد به صداع الشقيقة، فاحتجم في وسط رأسه.
قطع النبي -صلى الله عليه وسلم- الطريق بين المدينة ومكة في ثمانية أيام، تعرّض فيها لنصب الطريق ووعثاء السفر، ولذلك لما قرب من مكة بات قريباً منها ليستريح هناك، ويتهيأ لدخولها نهاراً، فبات عند بئر"ذي طوى" فلما أصبح -صلى الله عليه وسلم- اغتسل، ثم دخل مكة من ثنية كداء، وذلك ضحوة يوم الأحد جهاراً نهاراً، ليراه الناس فيقتدوا به، فأناخ راحلته عند المسجد، ثم دخل من الباب الذي كان يدخل منه يوم كان بمكة، باب بني شيبة.
دخل -صلى الله عليه وسلم- الحرم فإذا هو على ملة أبيه إبراهيم، ليس حول الكعبة صنم، ولا يطوف بها عريان، ولم يحج إليها مشرك، دخل النبي الحرم، الساحة التي شهدت دعوته وبلاغه وبلاءه وصبره على أذى قومه وجرأتهم عليه؛ فصلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى أصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها سافر بها معه، ولما حج سافر بهنّ جميعا؛ وكان إذا سافر خرج من أول النهار، وكان يستحب الخروج يوم الخميس؛ ويأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم؛ ونهى أن يسافر الرجل وحده، وأخبر أن الراكب شيطان، والراكبين شيطانان، والثلاثة ركب.
وكان إذا قُدّمت إليه دابته ليركبها يقول: بسم الله، ذلك حين يضع رجله في الركاب، وإذا استوى على ظهرها قال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله؛ ثم يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر؛ ثم يقول: سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ وكان يقول: "اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال؛ وإذا رجع قالهنّ وزاد فيهنّ: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون".
وكان إذا مر على ثنية كبر، وإذا هبط وادياً سبح؛ وكان إذا أشرف على قرية يريد دخولها يقول: "اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها".
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقصر الرباعية فيصليها ركعتين منذ أن يخرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة؛ وكان يقتصر في سفره على الفرض والوتر وسنة الفجر من الرواتب؛ وكان يصلي النافلة في السفر على راحلته حيث توجهت، يومئ إيماء برأسه في ركوعه وسجوده، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ ويوتر على راحلته.
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب؛ وكان إذا أعجله السير أخّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء؛ ولم يحدد -صلى الله عليه وسلم- لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض.
وأخيراً، أذكِّرُك -يا عبدالله- بسفرك إلى الآخرة، فالعبد منذ أن تستقر قدمه في هذه الدنيا فهو مسافر منها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كُتب له، فالأيام والليالي مراحل سفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم