أسبوع في تنزانيا

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ فضل الدعوة والداعية 2/ جهود التنصير في أفريقيا 3/ ترحيب التنزانيين بعلماء العرب وتعطّشهم للعلم 4/ تقبل الوثنيين الإسلام 5/ أحوال المسلمين في تنزانيا واحتفاؤهم بالدعاة 6/ ملامح من نشاطٍ دعويٍّ هناك 7/ دعوة للدعاة للدعوة هناك

اقتباس

نحن اليوم في رحلة مع الدعوة إلى الله تعالى، في رحلة إلى قارة من القارات، عدد سكانها يفوق الثمانمائة مليون، فيهم أقوام متعددون في دياناتهم، مختلفون في طبائعهم، متنوعون في عاداتهم وتقاليدهم، منهم من يعبد الأحجار، ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد البقر، ومنهم من يعبد حليب البقر، ومنهم من يعبد الدم، ومنهم من يعبد القمر والشمس والسماء، ومنهم من لا يعبد شيئاً ..

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والنظير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكَثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العَيلة، ولمّ به بعد الشتات، وأمن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرّ الميامين، ما اتصلت عينٌ بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلَّم تسليما كثيرا.

أما بعد: أيها الأخوة الكرام: جعل الله تعالى الأنبياء الكرام، عليهم الصلاة والسلام، في أشرف المنازل وأعلى المقامات، وأمرهم الله تعالى بأن يبلغوا دينه إلى الناس أجمعين: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) [الفرقان:20]. فكانوا بشراً، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، لكنهم كانوا يحملون هَمَّ الدين في الدعوة إلى الله تعالى، وتعبيد الخلق لرب العالمين.

وبين الله -جل وعلا- في كتابه طريق الأنبياء، فقال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف:108]، وبيَّن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فضل الدعوة إلى الله تعالى فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله، وملائكته، والنملة في جحرها، والحوت في البحر، لَيُصَلُّونَ على معلِّم الناس الخير".

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن دعا إلى هدْيٍ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس جميعاً بأن يكونوا دعاة فقال -عليه الصلاة والسلام-: "بلغوا عني ولو آية"، إن لم تحفظ آيتين ولم تحفظ سورة ولم تحفظ القرآن وإنما حفظت أقل ذلك، حفظت آية فبلغها؛ فإن المبلغ ربما كان أوعى من السامع، فيكون بعد ذلك حافظاً لأكثر من آية.

وأمر الله تعالى الناس جميعاً بالدعوة إلى الله تعالى، فقال الله جل وعلا-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].

ومدح الله تعالى الدعاة إليه فقال -جلَّ في علاه-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33]، فهو يدعو الناس إلى الله، وهو في نفسه أيضا يعمل الصالحات، فلا يأمرهم بالمعروف ويتركه، ولا ينهاهم عن المنكر ويأتيه، وإنما إذا أمرهم بالمعروف كان هو أسبق الناس إلى عمله، وإذا نهاهم عن المنكر كان هو أبعد الناس عن الوقوع فيه.

أيها الأخوة الكرام: نحن اليوم في رحلة مع الدعوة إلى الله تعالى، في رحلة إلى قارة من القارات، عدد سكانها يفوق الثمانمائة مليون، فيهم أقوام متعددون في دياناتهم، مختلفون في طبائعهم، متنوعون في عاداتهم وتقاليدهم، منهم من يعبد الأحجار، ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد البقر، ومنهم من يعبد حليب البقر، ومنهم من يعبد الدم، ومنهم من يعبد القمر والشمس والسماء، ومنهم من لا يعبد شيئاً، وإنما يعيشون هكذا دون أن يفكروا في خالق أو في مخلوق، ومنهم مسلمون، ومنهم نصارى في أديان متعددة متفرقة.

في هذه القارة التي سنتحدث عن الدعوة إلى الله تعالى فيها، فيها من المجاعة والبؤس والحاجة إلى كل شيء، فيها من الحاجة ما ليس في غيرها من القارات، سواء الحاجة إلى العلاج، الحاجة إلى الطعام، الحاجة إلى التعليم، الحاجة إلى الدين، الحاجة إلى الإسلام، الحاجة إلى العلم، الحاجة إلى كل شيء، ما ليس في غيرها من القارات. فيها يموت سنويا أكثر من مليون طفل بسبب المجاعة، ويموت فيها سنويا أيضا أكثر من مليوني طفل بسبب مرض الملاريا، ومع أن جرعة تطعيم الملاريا لا يكلف أكثر من أحد عشر هللة، يعني الريال يمكن أن تنقذ به عشرة أطفال من أن يموتوا بالملاريا، وذلك لضعف حالهم، فهم لا يستطيعون أن يوفروها كثيراً من الأحيان.

هذه القارة -أعني قارة أفريقيا- سبق إليها المنصِّرُون منذ أعوام عديدة، ومع كثرة عملهم واجتهادهم وملكهم لكثير من الوسائل التي يستطيعون أن يخدموا بها دعوتهم إلا أن سعيهم في تباب، وأمرهم في شتات، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:81]، (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر:35]، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) [الأنفال:36]؛ لأنهم إذا ما رأوا نتيجة تكون أموالهم عليهم حسرة، ينفقون في هذه القارة الآلاف، وربما الملايين، ومع ذلك لا يجدون نتيجة، سواء في إجبار الناس على النصرانية، أو في ثباتهم عليها، أو في قناعتهم بها (اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال:36].

أيها الأحبة الكرام: كنت في الأسبوع الماضي في أفريقيا، وكانت تصلني منذ سنوات عدد من الدعوات لزيارة هذه القارة، تصل من نيجيريا، تصل من كينا، تصل من النيجر، من تنزانيا؛ وكنت أظن -بناء على ما نرى من صور- أنني إن ذهبت فسيكون عملي إغاثياً في إطعام الجوعى، أو المساعدة بالعلاج، فكنا نكتفي بمساعدتهم ماديا، أو بإرسال بعض الأطباء، أو ما شابه ذلك؛ فكان الإخوة يصرون على أن آتي، فكنت أقول: يكفي أن أرى الصور، وأرى مقاطع الفيديو فأعلم الحال دون أن آتي بنفسي، وما الفرق بين أن أجيئكم أو أن أدعمكم بالمال؟.

فأصروا علي في فترة قريبة على أن أزور تنزانيا، وكنت أرى أنهم ربما لا يحضرون المحاضرات؛ وذلك لما ينتشر عندنا من مفهوم أنهم أهل فقر وأهل مجاعة وأنهم لا يتفرغون لحضور محاضرات المساجد، وكنت أرى أيضا أنهم لا يحضرون عند العرب وإنما يحضرون عند أقوامهم، وأن مشايخ العرب غير معروفين عندهم، فكنت أوازن أحيانا بين الذهاب إلى تنزانيا مثلا أو الذهاب إلى غيرها من البلاد العربية التي يعرفنا الناس هناك ويحضرون عندنا في المساجد أو الجامعات، فأرى أن الذهاب إلى من يعرفه هو أنفع في الدعوة في اجتماع الناس وإقبالهم من الذهاب إلى بلد ربما لا يحضر في المسجد أكثر من عشرة أو خمسة عشر، بينما يحضر الآلاف في غيره من البلدان.

لكن الأخوة أصروا علي، وأكثروا فذهبت في الأسبوع الماضي في الثاني من شهر شعبان من هذا العام 1432هـ الموافق للشهر السابع 2011م، ذهبت إلى تنزانيا، فرأيت -والله!- أيها الأخوة الكرام من شدة إقبال الناس إلى الخير، واحتفائهم بمن يأتيهم، وامتلاء المساجد بهم، والله إنها مساجد تتكون من طابقين، وكلا الطابقين مملوء، والناس يقفون عند الأبواب، وعدد كبير آخر يطل من خلال النوافذ لم يبق له مكان في المسجد.

ويقدر عدد من يشهد الصلاة في هذا المسجد عند امتلائه قرابة العشرة آلاف، ومع ذلك امتلأت الطوابق، وتراصّ الناس في سبيل حضور المحاضرات الشرعية منذ أن علموا أن شخصاً عربياً أقبل إليهم، هم لا يعرفون اسمي، ولم يشاهدوني أيضا، ولكن عرفوا أن شخصاً عربياً أقبل إليهم، فلهم تقدير للعرب، على اعتبار أنهم أحفاد للصحابة، وما شابه ذلك، فتمتلئ المساجد بهذا. وكان هناك مترجم موفق فكان يترجم الكلام، تتكلم لمدة ساعة وإن شئت زدتها إلى ساعتين والناس ينصتون إليك بغاية الأدب وغاية الاحترام، ثم أخرج من المسجد وكنت أظن أنه سيجتمع بعض الناس ربما يسألونني من المال أو من المساعدة، فوالله لا يُقبل إلي أحد أبداً، وإنما يقبلون مصافحين، ومن استطاع انحنى على اليد ليقبلها، أو على الرأس ليقبل، احتفاء بالدعاة الذين يأتون إليهم.

هذا وهم لا يعرفون اسمي ولا رسمي، وإنما رأوا شخصاً عربياً أقبل إليهم فأقبلت قلوبهم إليه، واجتمعوا بين يديه، كل المساجد، سواء في دار السلام، في موروجورو، أو في كوروجوي أو في غيرها أو حتى زنجبار، ذهبنا إليها عبر الباخرة لمسافة ساعتين، وامتلأ المسجد امتلاء عظيماً والله لم أره في كثير من البلدان! سواء في المملكة العربية السعودية أو في دول الخليج أو في غيرها لا أكاد أراه إلا في خطب الجمعة التي يحضر لها عموم الناس تعبداً وتقرباً؛ ولأنها واجبة، فيحضرون، أما أن أشاهد هذا الازدحام العظيم في غيرها من المحاضرات، فهذا قل ما نراه.

وأخرج والله من المحاضرة فأرى الذين جاؤوا على الدرجات البايسيكل، والذين جاؤوا على أقدامهم، وتجد السيارة التي لها حوض في خلفها يجتمع فيها الأطفال والنساء جاؤوا من أجل حضور المحاضرة، وإذا خرجت فإذا الجميع يدعو لك، ويشكرك على زيارتهم، وهذا في كل المساجد التي جئت إليها. إنهم متعطشون إلى الدعوة، متعطشون إلى من يلقي عليهم المحاضرات، إلى من يبين لهم أحكام هذا الدين، من يشرح لهم عقيدة السلف، من يشرح لهم التوحيد والشرك، من يربطهم بخالقهم -جل وعلا-، بأسلوب حسن هين لين يسير، هذا كله يكون نافعاً لهم بإذن الله.

أيها الأخوة الكرام: وكان خلال سفرنا ما بين منطقة ومنطقة نمر على بعض المساجد التي بناها أقوام أخيار سواء من هذه البلاد أو من غيرها، مساجد يزدحم فيها المصلون، وفيها مدرس لتحفيظ القرآن لا يتقاضى راتباً يزيد عن 100ريال، ومع ذلك تجد عندهم ما لا يقل عن أربعين طالب يحفظهم القرآن، حتى إني وقفت عند مسجد جميل حسن قد بنته إحدى الأخوات من البلد رأيت اسمها على باب المسجد، وإذا المسجد -مع جماله وحسنه وكبره- لم يكلف أكثر من مائة ألف ريال!. وهذا المسجد يخدم القرية، فرأيت مجموعة من الأطفال عند المسجد عددهم قرابة التسعة، لما رأونا مقبلين لنصلي أقبلوا إلينا وأخذوا ينظرون إلينا، فأخذت هؤلاء الأطفال وأكبرهم عمره 9سنوات، قلت: هل تحفظون الفاتحة؟ فإذا بالجميع يحفظها، وبدأ هؤلاء الصغار يقرؤونها واحداً واحداً، فقلت لهم: من علَّمكم؟ وهذا يترجم لي الأخ المترجم بلغتهم السواحيلية، وبالمناسبة أهل هذه البلد، -بل أهل أفريقيا عموماً- كثير منهم أصولهم إسلامية كما سأبين بعد قليل، فكان يترجم للغة السواحيلية فقال لهم: من علمكم؟ من حفظكم الفاتحة؟ قالوا: الشيخ جمعة، فسألت قل لهم: مَن الشيخ جمعة؟ فسألهم من الشيخ جمعة؟ قالوا: هذا مدرس القرآن، طيب أين مدرس القرآن؟ قالوا: الآن غير موجود، ونحن الآن جئنا بين صلاة الظهر والعصر لنصلي جمعاً ما بين الصلاتين، ولم يكن المسجد فيه أحد، قالوا هو يعطينا الدروس في هذا المسجد.

فهذا البلد أصلا، تنزانيا أو غيره من بلدان الدول الأفريقية عموماً، كثير منهم كانت دولاً لأشخاص أو ناس يعيشون فيها أصولهم إسلامية؛ لذلك من الطبيعي أن تجد اللغة السواحيلية التي يتحدث بها أكثر من مائتي مليون في أفريقيا وفي تنزانيا وفي كينيا، وفي عدد كبير من الدول حولها، يتحدثون بهذه اللغة، فيها كثير من العبارات الإسلامية. فإذا ازدحموا في المسجد وأرادوا أن يقولوا للمترجم: "تقاربوا"، قال لهم "قاربكوا"! فهي لغة عربية، لكن فيها نوعاً من التغيير، وإذا أراد أن يقول لهم "أشكركم" قال لهم "ناتشكروني"، وإذا قارنت بينها وبين اللغة العربية وجدت أنهم ليس عندهم في لغتهم كلمات أسبانية أو كلمات فرنسية أو كلمات انجليزية في لغتهم السواحيلية البلدية، وإنما تجد اللغة العربية هي الداخلة فيهم.

تمر على بعض الوثنيين في بعض البراري والغابات وإذا قريتهم اسمها "مكة"، نعم والله! اسمها مكة، وإذا بعضهم يستعمل المسبحة، وإن كان وثنيا يعبد الشمس ولكنه يستعمل المسبحة، بقايا من بقايا الدين الإسلامي الذي جاؤوا عليه أصلا من آبائهم الذين جاؤوا إلى هذا البلد.

بل يقول الشيخ/ عبد الرحمن -وفقه الله- وهو من أقوى من يعمل في هذا البلد في هذه القارة، وقد استقر الآن في مدغشقر، ترك الكويت واستقر في مدغشقر لأجل أن يموت في هذا البلد الطيب، في هذه القارة التي أفنى عمره في الدعوة فيها، يقول: أقبلنا إلى إحدى القرى ندعوهم إلى الإسلام، ولما دخلت القرية فإذا القرية فيها بعض المعالم التي تدل على أنهم كانوا مسلمين، فعندهم أسماء مثل: حميدو، وهم وثنيون، ومع ذلك يسمون حميدو مشتقة من أحمد ومحمد، معناه أن عندهم لا تزال بقايا، قال ولا يربون الكلاب ويألفون من الكلاب، ولا يأكلون الخنزير، ومع ذلك فهم وثنيون يعبدون أحجاراً ويعبدون أشجاراً، قال: فجئت إلى رئيس القرية يسمونه ملك القبيلة، وقد مررت على إحدى هذه القبائل قبيلة الماساي وهم وثنيون لا يعبدون شيئاً، وقابلت ملكاً، وسأذكر لكم شيئاً من ذلك.

قال: فلما جئت إليه قلت له: أنا من أهلكم أصلا الذين في مكة، وأنتم أصلاً أجدادكم جاؤوا من هناك، فأنا جئت أنقل إليكم شيئاً من سلام أهلكم الذين في مكة، وأبناء عمكم وأقاربكم الذين في مكة، جئت بهذا الأسلوب، ثم قدمت له ثوباً، قال: وقلت هذا الثوب هو هدية من أهلك في مكة أرسلوه إليك فقد كان يلبسه أجدادك أيضاً، قال: وأعطيته الثوب وهو لم يكلف خمسة عشر ريالاً، يقول: ثم أعطيته تمراً وقلت: هذا أيضا من طعام أهل مكة الذي كان يأكله أجدادكم وقد بعثوا به إليك، وأهل مكة يسلِّمون عليك، أهلك الذين هناك، ونحن في مكة نعبد الله وحده لا شريك له ونصلي الصلوات الخمس، قال وجعلت أشرح له دين الإسلام، وأحاول أن أربطه بدين أجداده الذين جاؤوا أصلا من جزيرة العرب، وكانوا مسلمين، قال فوالله! ما قمت من عنده إلا وقد دخل في الإسلام، ودخلت قبيلته كلها في الإسلام، قال: فعيَّنَّا عندهم داعية من أجل أن يعلمهم الدين.

وهذا واقع، فإذا مررت بهؤلاء وجدتهم فعلاً لا يفقهون شيئاً، وقد ذهبت في منطقة قريبة من بلدة اسمها موروجورو ذهبت إلى الغابة وكانت فيها مجموعة من القبائل الوثنية الذين يعيشون في البر ويعتمدون على تربية الأبقار، وربما أحياناً يصل إليهم أحيانا بعض الدعاة وبعض المنصرين، فلما اقتربنا من هذه القبيلة قال لي الأخوة: هذا العدد قليل وكانوا قرابة المائة فقط، إنما الأعداد الأكبر لما تتوغل في الصحراء أكثر، ستجد الأعداد التي هي بعشرات الآلاف، فأقبلنا إلى هذه القبيلة، وإذا قوم فعلا ظاهر عليهم الجهل، وإذا بعضهم قد صبغ وجهه باللون الأبيض، وإذا هم ظاهر عليهم الجهل، ليس فيهم سِمن في أجسادهم ولا شحم ولا لحم.

فأثناء نزولي وإقبالي إليهم جعلوا ينظرون إلينا من بعيد، وإذا برجل ظاهرة عليه النعمة وشيء من الترفه يقبل علينا، فقالوا: هذا الملك، ملك القرية وإذا شاب عمره قرابة الثلاثين وهو ابن الملك السابق، فرحبت به وتلطفت معه ومعنا المترجم، وإذا هم لا يتكلمون السواحيلية إنما يتكلمون لغة ثالثة، لكن الملك كان يفهم السواحلية وشيئا من الإنجليزية، فتحدثنا معهم، وجرت عادتهم أن السياح الأوربيون إذا مروا بهم يطلبون منهم أن يرقصوا الرقصة الشعبية الخاصة بهم وهم يأخذون الحراب ويصدرون أصواتاً ويقفزون مراراً، رقصة أفريقية، كان السياح يمرون بهم ويطلبون أن يرقصوا ويعطيهم ما يقارب الخمسين ألف شلن، يعني قرابة الخمسة عشر دولار أو العشرين دولار.

فلما أقبلوا ظنوا أننا كذلك، أننا نريد أن يرقصوا ويأخذوا المال، فأقبلوا ليرقصوا، فقال لهم المترجم لا، هذه الربع ساعة التي سترقصون فيها نحن سنعطيكم قيمتها الآن، هذه عشرين دولاراً، لكن نحن الذين سنتحدث معكم نريدكم أن تنصتوا إلينا، فوافق الملك، قال نعم تفضل، ثم طلب مني أن أتكلم.

فكان في الحقيقة محرجاً أن أختصر الإسلام كله في خلال ربع ساعة، ليس خلال ربع ساعة، لا، هذه الربع ساعة مقسومة بيني وبين مترجمي وبين المترجم الثالث، فصاحبي يترجم من اللغة العربية الى السواحلية ثم ملكهم يترجم من السواحلية إلى لغتهم الخاصة، معناه لما يبقى لي إلا قرابة أربع أو خمس دقائق، وأنت مطالب أن تختصر الكلام عن الإسلام كله في خلال هذه الدقائق الخمس، فيسر الله تعالى وتكلمت عن إجابة الأسئلة الثالثة التي تحير العالم، من هو الخالق؟ ولماذا خلقنا؟ وأين نذهب بعد الموت؟.

من هو الخالق، ولماذا خلقنا أصلا، وأين نذهب بعد الموت؟ تكلمت عن ذلك ولم أدخل تفصيلات بالرد على شبهات للنصارى أو للوثنيين، إنما ربطتهم بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وكانوا أحياناً يفهمون السواحلية مباشرة فإذا فهموها صفقوا، فإذا صفقوا لم يترجم الملك، فهِم أنهم فهموا مباشرة، فكان هذا يوفر علينا شيئاً من الوقت.

فلما انتهينا أو قاربنا الانتهاء جعلوا يتلفتون إلى سيارات الأوربيون التي أقبلت، سيارات لمجموعة من السياح الأوربيين رأوني أتحدث معهم، وكنت لابساً عمامة، فأقبلوا يصوروننا، وجعلوا يلتفتون إلى أولئك رغبة في أن يرقصوا ويأخذوا مال.

فلما شعرت أنهم لم يعودوا معي، قلت لهم: طيب نختم كلامنا، أنا أدعوكم الآن إلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم بين لهم هذا المترجم ما معنى كلامي، ما معنى أنك تشهد أن لا إله إلا الله، وبينها لهم بشكل سريع، ثم قال لهم موافقون على أن تقروا بذلك وعلى أن تشهدوا به وان تدخلوا في دين الإسلام؟، فأشار لهم مالكهم نعم موافقون، عندها رفعوا جميعاً أيديهم ورددوا وراءنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم رددوها بعد ذلك باللغة السواحلية وبلغتهم الخاصة، ثم لما انتهينا وتفرقوا وذهبوا ليرقصوا لهؤلاء السياح، أخذني ملكهم لأجل أن أرى بعض بيوتهم من الداخل، وكانت هناك أساور يصنعونها من الخرز، فلم يكن معي شيء، فأهديته قلماً كان معي، وفرح به.

ثم أقبل إلينا سائق لأحد أولئك الأوربيين، أقبل وقال: أنا سمعتك تتكلم عن الإسلام، حدثني عن الإسلام. وهو سائق شاب ويتكلم الإنجليزية بطلاقة، فتكلمت معه عن الإسلام، فإذا به ينطق الشهادتين وأنا واقف أمامه، ثم لما توجهت إلى السيارة، ركب ورائي وقال: أريدك أن تدعو الله لي. ثم دعوت الله تعالى له، وجعل يؤمِّن على دعائي، علّموه يقول: آمين، آمين؛ فيردد كلمة آمين. ثم أخذ الأخوة هاتفه لعلهم أن يتواصلوا معه بعد ذلك بالدعوة.

وتلك القبيلة تم الاتفاق معهم بعد ذلك على أن يعينوا عندهم داعية، وأن يتابعوا أمرهم، فهؤلاء الذين لهم أصلا أصول إسلامية، كما قال الله سبحانه: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) [الأنبياء:18]. إذا جاء الإسلام زهق كل باطل، إذا جاء الإسلام لم يثبت أي دين آخر أمامه.
بل هناك بلدة اسمها "جاب الله"، هذه البلدة مليئة بالأفارقة، وهذه البلدة ليست بتنزانيا، في بلد آخر وحدثني بعض الدعاة بها، يقول هذه البلدة عمل المنصرون فيها 43سنة، وكان القساوسة الأوروبيون بأنفسهم يتتابعون عليها رغبة في تنصير أهلها، ويعينون المنصرين من أهل البلد، حتى إذا ظنوا أن البلد تكامل فيها التنصير، وبنوا الكنائس، غادروا هذه البلد وتركوا بعض قساوسة البلد فيها، غادروها من عام 2001م.

ثم أقبل إليها مجموعة من الدعاة، وصل إليها دعاة الإسلام، فوالله! لم تمض سنة واحدة إلا رجع ثمانية وتسعون في المائة من سكان البلد إلى الإسلام! وبنيت فيها المساجد، وعين فيها الدعاة، وكان الأمر كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة:33]، ليظهره الله، لا يظهره أنا ولا تظهره أنت، إنما تكفل الله تعالى بإظهاره، وقال الله -جل وعلا-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء:18]؛ فدين الله تعالى هو الذي أنزله، هو الذي يجذبهم إليه بفطرته، وسلامة منهجه، وطيب القلوب التي تدعو إليه، فهم يلتزمون به إذا تعلموه، لكن من الذي يدعوهم إليه؟.

بل إن أحد الدعاة حدثوني عنه يقولون ذهب إلى إحدى القرى، وكان ملكهم نصرانيا، فدخل عليه وتحدث معه، فقال له ذلك الملك: أنا لست مقتنعاً بدين النصارى أصلا، لكنهم درسوني في مدارسهم، وأعطوني الطعام والشراب واللباس، وأغروني وأعطوني راتباً، وتريدون أن أترك النصرانية؟ أنا عندي نوع من الوفاء لهم لأنهم درسوني، وعندي أيضا خوف من المال الذي يأتيني، فأنا أظهر النصرانية من أجل ذلك، فوعظه صاحبنا، وهو أحد الإخوة الكرام، وعظه وذكره بالله، ودعاه إلى الإسلام وقال له: لا تبع آخرتك بدنياك، واحذر من أن تلقى الله تعالى وأنت كافر به، وتلقى الله وأنت مشرك، تقول الله ثالث ثلاثة، بل قل لا إله إلا الله، وجعل يدعوه، فقال حسنا مُرَّ بي غدا، أعطني فترة لأفكر.

ثم يقول صاحبي، وهو من هذا البلد الطيب، يقول: فلما وصلت إلى سيارتي وأنا أقول في نفسي سأرجع إليه غدا لأجل إكمال الحوار والنقاش فإذا هو يخرج إلي بيته ويقبل علي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. قال ففرحت وضممته إلى قلبي، قال: ثم بحثت في السيارة عن هدية أعطيها له، أبحث في الدرج أبحث ما وجدت شيئاً أعطيه له، ليس معي ساعة، وليس معي شيء أعطيه إياه، قال: فنزعت ثوبي وأعطيته له هدية، قلت له: وبقيت بماذا؟! قال والله بقيت بالفنيلة والسروال الطويل، وأعطيت له الثوب هدية، ففرح به فرحاً عظيماً. فهؤلاء يحتاجون إلى كلمة، يحتاجون إلى شيء من التأثير فيهم، يحتاجون إلى من يذهب إليهم فعلا للدعوة إلى الله.

مررنا أثناء ذهابنا ما بين دار السلام وبين زنجبار، مررنا وأثناء الطريق بعد خروجنا من صلاة الفجر توقفنا في مطعم للطعام، كان في جانب المطعم عدد من المحلات، فمررت على هذه المحلات وفيها أشياء أثرية قديمة يبيعونها، فوجدت شابا اسمه شعبان، قلت ما اسمك؟ قال: شعبان، فعرفت أنه مسلم، قلت له يا شعبان، فأصر علي أن أشتري، قلت له سوف أشتري، لكن قبل أن أشتري منك أريدك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وسمِّعْني سورة الفاتحة، فشهد الشهادتين لأنه مسلم، ثم بقيت الفاتحة! قلت له: قل الفاتحة، قال: الفاتحة؟ قلت نعم، فقال: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين. قرأها مكسرة مخلخلة لا يكاد يحفظ من السبع آيات إلا آيتين أو ثلاثة.

وقلت له: كيف يا شعبان أنت شاب وتتحدث الإنجليزية ويبدو عليك أنك مثقف وتتعامل الآن مع السياح سواء العرب أو الأوربيين، كيف لا تحفظ سورة الفاتحة وأنت مسلم؟ فسكت قليلا، قلت كيف ما حفظت الفاتحة يا شعبان؟ فرفع بصره إلي وقال: يا أخي انا ما أفعل؟ ما عندي مصحف! كل قريتي ما فيها مصحف! قلت المسجد ما فيه مصحف؟ قال: لا، كان فيه مصحف واحد وتمزق، والآن لا يوجد عندنا مصحف حتى نحفظ منه سورة الفاتحة!.

إي والله! وكل هذا مصور، ومن شاء أن يدخل على موقعي وفي غيره يجد هذا صريحاً، يقول ما عندي مصحف، فلما ركبنا سيارة اتصلت على أحد الأخوة في الرياض وذهب إلى مكتب الدعوة ليحضر لهم، طبعا شراء المصحف كاملا مكلف، تشتري مصحف بـ 27 ريال باللغة السواحيلية هذا مكلف جداً، فأردت أن يشتري العشر الأخير، وهو آخر ثلاثة أجزاء من القرآن، ومعها بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بحالة المسلم وصلاته وعبادته وبعض الأحكام في العقائد، فاشترى منها كمية قرابة الخمسة عشر ألف نسخة وتم شحنها إليهم قبل يومين، وتوزع عليهم واحداً واحداً، وهنيئاً بالأجر والثواب لمن تبرع فعلا بهذه الكتب التي تدخل في البيت عندهم، ويحفظها الأطفال وغيرهم.

ومررنا أيضا بقرية من القرى، فلما وقفنا عند المسجد فإذا بطفل عمره لما يتجاوز اثنتي عشرة سنة أقبل لما رآنا نلبس الأبيض، وكنت بثوبي طوال الفترة وقد جعلت الغُترة عمامة ليكون أسهل في الذهاب والمجيء والمشي، فكانوا إذا رأوا الثوب وبياضه عرفوا أني أختلف عن أهل البلد، فأقبل هذا الصغير يتعلق بثوبي، فظننت أنه يريد صدقة، وإذا هو لما تحدث معه الإخوة: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أتعلم القرآن، إي والله! قال: أريد أتعلم القرآن! فسألته وقلت له: أين أبوك؟ قال: أبي مات، أين أمك؟ قال: أمي ماتت، وإذا أبوه وأمه قد ماتا بمرض الايدز وبقي وحيدا، قلت له: تعيش عند مَن؟ قال: أنا أعيش عند جدي وجدتي.

وكان الإخوة عندهم مركز للأيتام فيه تعليم وفيه قرآن وتدريس، وعندهم عدد لا بأس به من الأيتام، فذهب أحدهم إلى جده أو أظن أنه حدث جدته لأني ما ذهبت معه، وحاول أن يأخذه منهم ليجعله في مركز الأيتام ويأتي إليهم مرة في الأسبوع وربما مرة كل شهر حسب المواصلات وتيسرها، فأبوا ذلك، لا والله لا نستطيع أن نعطيكم إياه! ونحن نخاف عليه وهو الذي يملأ علينا البيت، والصغير ينظر إلينا ويتألم.

فقلت للإخوة: لماذا لا تعينون ما دام أن هؤلاء يريدون القرآن؟ يريدون تعلم القرآن؟ لماذا لا تحرص على أن تعينوا عندهم أحدا؟ وإذا إمام المسجد عندهم رجل كبير في السن هو نفسه لا يكاد يحفظ إلا ما يقيم به الصلاة، ولو أراد أن يحفظ هؤلاء الأطفال لشق عليه ذلك؛ لكبر سنه وضعفه. قلت لماذا لا تعينون عندهم أحداً يُعينهم ويحفظهم؟ فإذا الأمر أصعب من ذلك وقالوا: نحتاج يا شيخ إلى تكاليف، ونحتاج إلى كذا وكذا، إلى غير ذلك...

أيها الأحبة الكرام: إن الكلام عن الدعوة إلى الله تعالى في ذلك البلد وفي غيره، بل إنني التقيت بعدد من الإخوة جاؤوا من كينيا لما علموا بحضوري إلى تنزانيا، والله سافروا من كينيا وجاءوا إلى تنزانيا، وقالوا يا شيخ! الوضع عندنا لا يختلف عن الوضع في تنزانيا نرجوكم، تعالوا لإلقاء محاضرات، المساجد تمتلئ، والإذاعات متاحة، يمكنكم أن تتكلموا.

هل تصدقوا -أيها الأخوة الأفاضل- كل المحاضرات التي ألقيتها في المساجد تنقل على الهواء مباشرة عبر إذاعة الإيمان؟ وفي زنجبار تنقل على إذاعة الخير، تنقل على الهواء مباشرة، يسمعها أكثر من سبع وعشرين محافظة، يعني قرابة العشرة ملايين يسمعون المحاضرة في لحظة واحدة، إضافة إلى أنها تسجل ثم تنشر بعدد من الطرق.

بل إنني خرجت من صلاة الجمعة وإذا مجموعة الباعة، وأنا لم أكمل أربعة أيام من يوم الجمعة جئت يوم الأحد، وإذا مجموعة من الباعة عندهم هؤلاء يبيعون عدداً من الأشياء، ورأيت سيديهات عليها صورتي وصورة المترجم، وإذا هي محاضراتي قد نسخت وجهزت، وهي تباع بما يقارب الريالان أو الثلاثة.

نشاط في الدعوة، ونشاط في نسخ هذه السيديهات بشكل سريع، ونشرها بين الناس، ودعوتهم إليها، فهل يحل لأحد بعد ذلك إنسان عنده وقت فراغ، وربما بعض إخواننا من طلبة العلم من الشباب، هل يحل له أن يقعد عن خدمة الدين حتى في مثل هذه البلد؟.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، أسأل الله أن يستعملنا جميعاً في طاعته، وأن يرزقنا الله الإخلاص لله تعالى في أقوالنا وأعمالنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه على آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
 

أما بعد: أيها الأخوة الكرام: كان الإخوة هناك أثناء دعوتي إلى زيارة تنزانيا يقولون نريد دورات للدعاة، فيما يتعلق بفن الدعوة، وفن الإلقاء، وفن الحوار وما شابه ذلك، فكنت أظن أني إن جئت أنه سيجتمع ما لا يزيد عن خمس عشرة داعية لأجل الكلام معهم، فلما وصلت فإذا بالدورة يفوق الحضور فيها 500داعية، كلهم خطباء وأئمة مساجد حضروا في اليوم الأول في: فن الإلقاء والخطابة، وحضروا في اليوم الثاني في: فن دعوة غير المسلمين والتعامل معهم والحوار وما شابه ذلك.

خمسمائة حضروا في اليوم الأول، ومثلهم حضروا في اليوم الثاني، بل إنني لما التقيت بعدد من الإخوة من رؤساء الجمعيات فإذا قرابة المائة كلهم رؤساء للجمعيات الإسلامية، منهم المتخصصون في الدعوة، منهم المتخصصون في تعليم القرآن، منهم المتخصصون في الأيتام والإغاثة وفي غير ذلك، كلهم يعملون لهذا الدين.

وسبحان الله! هذا الدين، مع أنه ربما هذه الأعمال التي يعملونها، نحن لا نعمل لها بهرجة كبيرة كما يعمل النصارى، كما يعملون في دعوتهم وتنصريهم يبهرجون ويظهرونها إعلاميا حتى تظن أن البلد كلها التي ذهبوا إليها تنصرت، هم يعلمون ذلك، بينما المسلمون لا يبهرجون إعلاميا، لكن هناك عمل قوي للمسلمين ولله الحمد في كل موقع.

وتأتي إلى بعض القرى وتجد امرأة تجمع النساء في بيتها وتعلمهم القرآن وتحفظهم إياه، وتنفق عليهم من الطعام والشراب إذا جاؤوا؛ قربة إلى الله تعالى وتعبد إليه، ولا يزال الله تعالى يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته.

قرى وهجَر وأماكن نائية، وتجد فيها دعاة يعملون في صمت، والله لا يطلع في تليفزيون، ولا تنشر صورة له في جريدة، ولا طلع اسمه في الانترنت، وما يهمه أن يعرفه الناس أو لا يعرفونه، أهم شيء أن يعرفه رب العالمين، فهو الذي يتعبد ويعمل له، ما دام أن الله عرفني فلا ينفعني أعرفني الناس أم لا يعرفونني.

هذا الدين ظاهر، قوي، ومنتشر، والناس الذين يتمسكون به قل أن تجد أحداً يرتد عنه، وحتى لو أظهروا الردة عنه بسبب ما يعطيه النصارى لهم هناك، إلا أنك تجد أنه بمجرد ما ينتهي كيس الرز الذي أعطاه له المنصر النصراني يعود بعد ذلك إلى دينه الإسلامي، فطرة وقربة إلى رب العالمين.

وفي إحدى المحاضرات أثناء كلامي وإذا بإخوة يقبلون وهم يضعون العمامة الفلسطينية، ثم اكتشفت أنها حملة لإغاثة غزة، خرجَت مشياً برياً ليس على أقدامهم وعلى سيارات، ومعهم ثلاث شاحنات فيها مؤن، وسبع سيارات إسعاف، وسبع سيارات جيوب، وإذا هم أطباء، وإخوة فضلاء خرجوا من جنوب أفريقيا براً يقطعون الفيافي والقفار والدول ليصلوا إلى إخوانهم في غزة بهذه الإغاثة، فلما دخلوا واحتضنتهم والله واحداً واحداً، قلت لهم: كم قطعتم الآن؟ فقال لي رئيسهم الشيخ وليد: يا شيخ الآن قطعنا حتى نصل إلى تنزانيا الآن عشرة ألاف كيلو، وبقي لنا الآن قرابة الخمسة عشر ألف كيلو لا تزال أمامنا.

ثم قال يا شيخ والنفقة التي ننفقها والله لم نأخذ من التبرعات دولارا واحداً، وإنما لما أردنا أن نأتي كل واحد منا جاء ودفع ثلاثة آلاف دولار وجمعناها ننفق على أنفسنا طعاماً وشراباً وسكنا، وإذا احتجنا إلى علاج أو لباس أثناء الطريق ننفق منها، والله يا شيخ لم نأخذ دولارا واحد من التبرعات، إنما التبرعات كلها وضعناها في مواسير كهرباء وآلات وفي أشياء نحملها لإخواننا في غزة عبأنا بها هذه الشاحنة.

قلت في نفسي: فأين القنوات الفضائية عنكم؟ قال: خطبنا بعضهم لكن ما تحمسوا لهذه المسيرة، فنحن نتعبد لله تعالى بذلك، فأقبلتُ إلى الشاحنات وإذا هم قد وضعوا عليها أعلاما، ووضعوا عليها عبارات عن نصرة فلسطين، وعبارات تعود إلى الإسلام، فأيقنت أن الله تعالى حافظ دينه لا محالة، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:31].

الذي يخدم الدين فالفضل من الدين عليه، وليس الفضل منه على الدين، والله تعالى ناصر دينه، وناصر كتابه، مظهر شرعه، ومعلٍّ رايته، إن بذلنا أو إن لم نبذل فالدين منتصر منتصر، وإن قعدنا أو مشينا فالدين منتصر منتصر، نمنا أو صحونا، أكلنا أو شربنا فالدين منتشر يمشي مثل الطوفان، الإسلام ظاهر، لكن الشرف كل الشرف، والرفعة كل الرفعة لمن يكون له ولو قشة يضعها في نصرة الإسلام، وفي رفع جبل الإسلام، وبرج الإسلام، وفي بنائه وارتفاعه.

من استطاع أن يذهب بنفسه، والمسألة ليست مكلفة أبداً، ليست مثل الدعوة في أوروبا، المطارات تأخذ منك مالاً، والقطارات غالية، والطائرات والفنادق، ربما يجلس الإنسان أسبوعا كاملا لا ينفق أكثر مائة دولار أو مائي دولار، لا ينفق أكثر من ألف ريال على كل شيء، طعام وشراب وسكن، أضف إليها قيمة التذكرة التي لا تتجاوز الثلاثة ألاف ريال.

ويذهب إلى هناك فإن تيسر له أن يشحن من هنا شيئاً من تمور أو كتب أو ما شابه ذلك عبر وسائل متعددة يمكن أن يصل إليها، فهذا -بإذن الله تعالى- سيكون نافعاً هناك.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإياكم بما سمعنا.

 

 

 

 

المرفقات

في تنزانيا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات