أسباب الطلاق الزوجية: عدم الحفاظ على الخصوصية بين الزوجين

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-03-03 - 1444/08/11 2023-03-07 - 1444/08/15
عناصر الخطبة
1/صيانة الخصوصية بين الزوجين ضرورة وفريضة 2/أسباب وصور من ضياع الخصوصية الزوجية 3/الآثار السلبية لإفشاء أسرار الزوجية 4/رسائل تذكير للزوجين.

اقتباس

إِنَّ الْأَمِينَ الْعَاقِلَ مَنْ يَصُونُ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَيَحْفَظُ أَسْرَارَهُ، وَلَا يُطْلِعُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَقَدْ "رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ أَرَادَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا الَّذِي يُرِيبُكَ مِنْهَا؟ فَقَالَ: الْعَاقِلُ لَا يَهْتِكُ سِرَّ امْرَأَتِهِ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا قِيلَ لَهُ: لِمَ طَلَّقْتَهَا؟ فَقَالَ: مَا لِي وَلِامْرَأَةِ غَيْرِي!"...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الزَّوْجَةَ سَكَنًا وَسِتْرًا لِزَوْجِهَا، وَجَعَلَ الزَّوْجَ سَكَنًا وَسِتْرًا لِزَوْجَتِهِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)[الْبَقَرَةِ: 187]، وَلَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ صِيَانَةَ هَذَا اللِّبَاسِ وَالسَّتْرِ وَحِمَايَتَهُ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْتِكَهُ أَوْ يَقْرَبَهُ أَوْ يَتَلَصَّصَ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ هِيَ الْخُصُوصِيَّةُ الزَّوْجِيَّةُ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَنْهَا الْيَوْمَ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ صِيَانَةَ الْخُصُوصِيَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ضَرُورَةٌ وَفَرِيضَةٌ؛ فَهِيَ فَرِيضَةٌ لِكَوْنِ إِفْشَاءِ السِّرِّ مُحَرَّمًا شَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنَ اعْتِدَاءٍ عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ وَهِيَ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هُوَ مِيثَاقٌ غَلِيظٌ وَسِرٌّ مَكْتُومٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ سِوَاهُمَا، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ؛ قَالَ اللَّهُ: (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)[النِّسَاءِ: 21]، فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمُخَالَطَةُ وَالْمُلَابَسَةُ وَالْمُصَارَحَةُ وَالسَّكَنُ، وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِبَاسًا لِلْآخَرِ:

إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا *** تَدَاعَتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

 

وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ تَظَلَّ هَذِهِ الْعَلَاقَةُ الزَّوْجِيَّةُ فِي سَتْرٍ وَصِيَانَةٍ مِنَ اطِّلَاعِ الْآخَرِينَ عَلَيْهَا؛ لِخُصُوصِيَّتِهَا.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ حِمَايَةَ الْخُصُوصِيَّةِ الزَّوْجِيَّةِ أَمَانَةٌ، وَصِيَانَتَهَا فَرِيضَةٌ، وَانْتِهَاكَهَا خِيَانَةٌ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، "وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: تَحْرِيمُ إِفْشَاءِ الرَّجُلِ مَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَوَصْفِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَمَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ"(شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ).

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِتَضْيِيعِ الْخُصُوصِيَّةِ الزَّوْجِيَّةِ صُوَرًا وَأَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةً، فَمِنْهَا: السَّكَنُ مَعَ أَهْلِ الزَّوْجِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ: فَهَذَا يُبَعْثِرُ خُصُوصِيَّةَ الزَّوْجَيْنِ، وَيُقْحِمُ غَيْرَهُمَا فِي شُئُونِهِمَا شَاءَا أَمْ أَبَيَا، وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ يُوَفِّرَ لَهَا مَسْكَنًا: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)[الطَّلَاقِ: 6]، وَشَرْطُ هَذَا الْمَسْكَنِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا؛ لَا يُخَالِطُهَا فِيهِ أَحَدٌ، فَفِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ: "وَلَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ تَسْكُنَ مَعَ أَقَارِبِهِ"، وَيَقُولُ الزَّيْلَعِيُّ: "تَجِبُ لَهَا السُّكْنَى فِي بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا مِنْ أَهْلِهَا"، وَلَقَدْ عَلَّلَ الزَّيْلَعِيُّ هَذَا الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ: "لِأَنَّ السُّكْنَى مَعَ النَّاسِ يَتَضَرَّرَانِ بِهَا؛ فَإِنَّهُمَا لَا يَأْمَنَانِ عَلَى مَتَاعِهِمَا، وَيَمْنَعُهُمَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ"، وَهَذَا بَعْضُ مَا نَقْصِدُهُ بِضَيَاعِ الْخُصُوصِيَّةِ بِالسَّكَنِ مَعَ الْأَهْلِ.

 

وَمِنْهَا: التَّحَدُّثُ بِأَسْرَارِ الْمَنْزِلِ وَلَوْ لِلْوَالِدَيْنِ: فَكُلَّمَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا وَاقِعَةٌ أَخْبَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَهْلَهُ أَوْ صَدِيقَهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الزَّوْجَةِ؛ إِذْ تُحَدِّثُ أُمَّهَا بِجَمِيعِ شُئُونِ بَيْتِهَا! وَتَسْتَأْمِرُ أَبَاهَا دُونَ زَوْجِهَا، وَجَهِلَتْ أَنَّ "الْمَرْأَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِنْ أَبَوَيْهَا، وَطَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا أَوْجَبُ"(مَجْمُوعَ الْفَتَاوَى، لِابْنِ تَيْمِيَّةَ).

 

وَمِنْهَا: إِفْشَاءُ أُمُورِ الْفِرَاشِ: وَهَذَا أَقْبَحُ أَنْوَاعِ هَتْكِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَأَبْشَعُ لَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ، لِذَلِكَ شَبَّهَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَقْبَحِ تَشْبِيهٍ، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: "لَعَلَّ رَجُلًا يَقُولُ مَا يَفْعَلُ بِأَهْلِهِ، وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا"، فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: إِي وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُنَّ لَيَقُلْنَ وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ، قَالَ: "فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ لَقِيَ شَيْطَانَةً فِي طَرِيقٍ فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَلِتَضْيِيعِ الْخُصُوصِيَّةِ أَسْبَابٌ عِدَّةٌ، مِنْهَا: الْجَهْلُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَزْوَاجِ لَا يَعْلَمُونَ بِحُرْمَةِ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ كَلَامٍ لَا يُلَامُ عَلَيْهِ، تَمَامًا كَمَا كَانَ يَظُنُّ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَإِنَّهُ قَدْ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَعَجِّبًا: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! فَصَحَّحَ لَهُ ذَلِكَ قَائِلًا: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَمِنْهَا: الْخَلْطُ بَيْنَ حَقِّ الزَّوْجِيَّةِ وَحَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَرْحَامِ: فَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ صِيَانَةِ أَسْرَارِ زَوْجِهِ وَبِرِّهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحِفَاظِ عَلَى خُصُوصِيَّتِهِ وَصِلَتِهِ لِأَرْحَامِهِ! وَمَا عَلِمَ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَدَّهُ وَقَيْدَهُ وَمِقْدَارَهُ.

 

وَمِنْهَا: مُجَالَسَةُ قُرَنَاءِ السُّوءِ: الَّذِينَ يُفْشُونَ الْأَسْرَارَ، وَيَهْتِكُونَ الْأَسْتَارَ، وَيَتَحَدَّثُونَ بِمَا يَجْرِي فِي بُيُوتِهِمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَقْتَدِي بِهِمُ الْجَلِيسُ فِيمَا يَقَعُونَ فِيهِ مِنَ التَّلْبِيسِ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ لِإِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ آثَارًا وَخِيمَةً وَعَوَاقِبَ خَطِيرَةً عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، فَمِنْهَا: أَنَّ فَاعِلَهُ يَسْتَحِقُّ وَصْفَ (مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ) عِنْدَ اللَّهِ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)؛ فَإِنَّ وَصْفَهُ لِذَلِكَ كَشْفٌ لِعَوْرَتِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ بِالنَّظَرِ أَوْ بِالْوَصْفِ. (يُنْظَرُ: إِكْمَالُ الْمُعْلِمِ، لِلْقَاضِي عِيَاضٍ).

 

وَمِنْهَا: التَّشَبُّهُ بِالشَّيَاطِينِ: فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ فَقَالَ: "لَعَلَّ رَجُلًا يَقُولُ مَا يَفْعَلُ بِأَهْلِهِ، وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا" فَأَرَمَّ الْقَوْمُ -(أَيْ: سَكَتُوا)- فَقُلْتُ: إِي وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُنَّ لَيَقُلْنَ وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ، قَالَ: "فَلَا تَفْعَلُوا؛ فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ لَقِيَ شَيْطَانَةً فِي طَرِيقٍ فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَمَا أَبْشَعَهُ مِنْ فِعْلٍ، وَمَا أَقْبَحَهُ مِنْ هَتْكٍ لِلسَّتْرِ!

 

وَمِنْهَا: فِقْدَانُ الْحَيَاءِ وَالْأَدَبِ: فَلَا يَزَالُ الْمَرْءُ يَتَكَلَّمُ بِأَسْرَارِ بَيْتِهِ وَيَهْتِكُ سِتْرَ اللَّهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْلَفَ لِسَانُهُ الْفُحْشَ وَالْبَذَاءَةَ، فَيَنْزِعُ اللَّهُ مِنْهُ الْحَيَاءَ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ-، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ"، وَيَقُولُ: "مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ"(رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُمَا الْأَلْبَانِيُّ).

فَلَا وَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ *** وَلَا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ *** وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

 

وَمِنْهَا: التَّعَرُّضُ لِلْحَسَدِ عِنْدَ حِكَايَةِ النِّعْمَةِ، أَوْ لِلشَّمَاتَةِ عِنْدَ إِذَاعَةِ الْبَلَاءِ: فَمَنْ تُفْشِي أَسْرَارَ بَيْتِهَا، وَتَتَحَدَّثُ بِمَا يَمْلِكُونَ وَيَدَّخِرُونَ وَيَأْكُلُونَ.. تُعَرِّضُ نَفْسَهَا وَبَيْتَهَا لِلْعَيْنِ وَالْحَسَدِ، وَقَدْ نَصَحَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "اسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مَعَاجِمِهِ الثَّلَاثَةِ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَمِنْهَا: التَّعَرُّضُ لِغَضَبِ شَرِيكِ الْحَيَاةِ: فَإِذَا عَلِمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ صَاحِبَهُ يُفْشِي أَسْرَارَهُمَا وَيَهْتِكُ سَتْرَهُمَا فَإِنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَغْضَبُ عَلَى الْآخَرِ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا بُيُوتًا خَرِبَتْ، وَأُسَرًا انْهَارَتْ بِسَبَبِ إِفْشَاءِ الْمَرْأَةِ خُصُوصِيَّاتِ زَوْجِهَا، فَكَانَ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ.

 

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ كَثِيرٌ، وَإِنَّ فِيمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةً عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْ، وَكُلُّ لَبِيبٍ بِالْإِشَارَةِ يَفْهَمُ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ وَجَّهَنَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَائِلًا: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذَّارِيَاتِ: 55]، وَمَا يَنْبَغِي تَذْكِيرُ الزَّوْجَيْنِ بِهِ رَسَائِلُ مُهِمَّةٌ وَعَاجِلَةٌ نَرْجُو بِهَا صَلَاحَهُمَا وَفَلَاحَهُمَا:

فَأَمَّا التَّذْكِرَةُ الْأُولَى فَتَقُولُ: إِنَّ الْأَمِينَ الْعَاقِلَ مَنْ يَصُونُ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَيَحْفَظُ أَسْرَارَهُ، وَلَا يُطْلِعُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَقَدْ "رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ أَرَادَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا الَّذِي يُرِيبُكَ مِنْهَا؟ فَقَالَ: الْعَاقِلُ لَا يَهْتِكُ سِرَّ امْرَأَتِهِ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا قِيلَ لَهُ: لِمَ طَلَّقْتَهَا؟ فَقَالَ: مَا لِي وَلِامْرَأَةِ غَيْرِي!"(مُخْتَصَرُ مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ، لِابْنِ قُدَامَةَ).

 

أَمَّا الثَّانِيَةُ: فَإِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَاقِلُ، فَإِنَّكَ إِنْ سَمِعْتَ بِمَنْ يَتَدَاوَلُ أَسْرَارَ بَيْتِكَ وَيُرَدِّدُهَا، حَزِنْتَ وَتَأَلَّمْتَ وَغَضِبْتَ وَنَقَمْتَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إِذَنْ تُذِيعُهَا أَنْتَ بِلِسَانِكَ! وَتَنْشُرُهَا أَنْتَ بِإِرَادَتِكَ! وَتَنْزِعُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْكَ بِيَدَيْكَ؟! يَقُولُ الشَّاعِرُ:

إِذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ *** وَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ

إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ *** فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ

 

التَّذْكِرَةُ الثَّالِثَةُ، إِلَيْكِ أَيَّتُهَا الْأَمِينَةُ الْمُؤْتَمَنَةُ: إِنَّ بَيْتَكِ مَمْلَكَتُكِ، وَإِنَّ أَغْلَبَ مَنْ تَحْكِينَ لَهُنَّ أَسْرَارَهُ لَا يُرِدْنَ لَكِ الْخَيْرَ، وَإِنَّمَا يَطْلُبْنَ التَّسْلِيَةَ وَإِشْبَاعَ الْفُضُولِ، ثُمَّ يُشِعْنَ حَدِيثَكِ عَلَى الْآفَاقِ، فَكُونِي لِزَوْجِكِ سِتْرًا، وَلِبَيْتِكِ غِطَاءً، وَاتْرُكِي لِزَوْجِكِ أَفْضَلَ ذِكْرَى، فَهَذَا الشَّاعِرُ جَرِيرٌ لَمَّا جَاءَ يَرْثِي زَوْجَتَهُ أَثْنَى عَلَيْهَا بِحِفْظِهَا لِسِرِّ بَيْتِهِ فَقَالَ:

كَانَتْ إِذَا هَجَرَ الْخَلِيلُ فِرَاشَهَا *** خُزِنَ الْحَدِيثُ وَعَفَّتِ الْأَسْرَارُ

 

التَّذْكِرَةُ الرَّابِعَةُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَالَ: "الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ"(رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَإِنَّ عَلَاقَةَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ مَجَالِسِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَالَ: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَإِنَّ الْأَسْرَارَ الزَّوْجِيَّةَ أَشَدُّ حُرْمَةً وَأَمَانَةً.

 

فَصِنُوا -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- أَسْرَارَكُمْ، وَاحْمُوا خُصُوصِيَّاتِكُمْ، وَكُونُوا سِتْرًا لِأَزْوَاجِكُمْ، وَحَوِّطُوا بُيُوتَكُمْ بِالْإِسْرَارِ وَالْكِتْمَانِ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْكُمْ بَرَكَاتُ الرَّحْمَنِ، وَتَسْكُنُ بُيُوتَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْأَمَانُ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

أسباب الطلاق الزوجية عدم الحفاظ على الخصوصية بين الزوجين.doc

أسباب الطلاق الزوجية عدم الحفاظ على الخصوصية بين الزوجين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات