أسباب الطلاق الأسرية: غياب الكفاءة بين الزوجين

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-12-23 - 1444/05/29 2023-02-15 - 1444/07/24
عناصر الخطبة
1/ماذا نعني بالكفاءة بين الزوجين؟2/التساهل في أمر الكفاءة بين الزوجين تفريط وظلم.3/مساوئ انعدام الكفاءة بين الزوجين وعواقبه.4/وصايا للزوجين للتعامل مع غياب الكفاءة بينهما.

اقتباس

إِنَّ الْمُشَاهَدَ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْعَفِيفَةَ إِذَا ابْتُلِيَتْ بِفَاسِقٍ فَإِنَّهُ يَفْتِنُهَا عَنْ تَدَيُّنِهَا وَصَلَاحِهَا، وَيَكُونُ عَدُوًّا لَهَا دَاخِلَ بَيْتِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ بِتَطْلِيقٍ أَوْ خُلْعٍ إِنْ هِيَ تَمَسَّكَتْ بِتَقْوَاهَا، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ ذَاقَتْ مِنْهُ الْعَنَتَ، وَإِمَّا -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- أَنْ تَنْتَكِسَ الْمَرْأَةُ التَّقِيَّةُ فَتَكُونَ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: مِنْ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ السَّعِيدِ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَهْلِهِ تَوَافُقٌ وَانْسِجَامٌ، وَمَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ وَوِئَامٌ، وَمِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ تَحْقِيقِ ذَلِكَ أَنْ يَتَآلَفَ الزَّوْجَانِ عَلَى الدِّينِ وَالتَّقْوَى وَالصَّلَاحِ، ثُمَّ يَتَقَارَبَا فِي كُلِّ الْأَوْصَافِ أَوْ أَغْلَبِهَا؛ فَيَتَشَابَهَا فِي الطِّبَاعِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالشَّرَفِ وَالْغِنَى أَوِ الْفَقْرِ...

 

وَالْمُرَادُ بِالْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: تَسَاوِيهُمَا أَوْ تُقَارُبُهُمَا فِي عَدَدٍ مِنَ الْأُمُورِ، أَوَّلُهَا: الدِّينُ، ثُمَّ النَّسَبُ، ثُمَّ الْيَسَارُ الْمَادِّيُّ، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، "أَيْ: تَخَيَّرُوا مِنَ النِّسَاءِ ذَوَاتِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ، وَذَوَاتِ النَّسَبِ الشَّرِيفِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ أَوْلَادِ الزِّنَا، فَإِنَّ هَذِهِ الرَّذِيلَةَ تَتَعَدَّى إِلَى أَوْلَادِهَا"(شَرْحُ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، لِلسُّيُوطِيِّ وَغَيْرِهِ).

 

فَأَهَمُّ أَرْكَانِ الْكَفَاءَةِ فِي الزَّوَاجِ الدِّينُ وَالصَّلَاحُ وَالتَّقْوَى، فَلَيْسَ الْفَاسِقُ بِكُفْءٍ لِلْعَفِيفَةِ، وَلَا الْعَكْسُ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَاءَةُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الْحُجُرَاتِ:13]، فَالْجَمِيعُ سَوَاسِيَةٌ، وَلَا تَفَاضُلَ إِلَّا بِالتَّقْوَى.

 

وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَلَمْ يَشْتَرِطْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرَ الدِّينِ وَالْخُلُقِ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: "فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ حُكْمُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتِبَارَ الدِّينِ فِي الْكَفَاءَةِ أَصْلًا وَكَمَالًا، فَلَا تُزَوَّجُ مُسْلِمَةٌ بِكَافِرٍ، وَلَا عَفِيفَةٌ بِفَاجِرٍ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فِي الْكَفَاءَةِ أَمْرًا وَرَاءَ ذَلِكَ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: أَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرَفِ وَالْمَالِ وَالْمَنْزِلَةِ، فَالْأَمْرُ فِيهَا هَيِّنٌ؛ فَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَةَ عَمَّتِهِ الشَّرِيفَةَ الْحُرَّةَ الْقُرَشِيَّةَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ مِنْ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَزَوَّجَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْقُرَشِيَّةِ الْحُرَّةِ الشَّرِيفَةِ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ فَاطِمَةَ اسْتَشَارَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَنْ تَقَدَّمَ لِخِطْبَتِهَا فَقَالَ لَهَا: "أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ" فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: "انْكِحِي أُسَامَةَ"، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بِهِ.(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَتَزَوَّجَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ بِأُخْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: "رَأَيْتُ أُخْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَحْتَ بِلَالٍ"(الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ).

 

وَيَزِيدُنَا الْإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ فَيَقُولُ: "زُوِّجَتْ ضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَكَانَ حَلِيفًا لِقُرَيْشٍ، وَتَبَنَّى أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ سَالِمًا مَوْلَاهُ، وَزَوَّجَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ".

 

وَيُلَخِّصُ ابْنُ حَزْمٍ الْأَمْرَ قَائِلًا: "وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ إِخْوَةٌ، ‌لَا ‌يُحَرَّمُ ‌عَلَى ‌ابْنٍ ‌مِنْ ‌زِنْجِيَّةٍ ‌لِغِيَّةٍ نِكَاحُ ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ الْهَاشِمِيِّ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: أَمَّا مَا يَصْنَعُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تَزْوِيجِ التَّقِيَّةِ الْعَفِيفَةِ الدَّيِّنَةِ مِنْ فَاسِقٍ مَاجِنٍ فَهُوَ ظُلْمٌ بَيِّنٌ، وَشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ، وَفِتْنَةٌ خَطِيرَةٌ لِتِلْكَ الزَّوْجَةِ... يَقُولُ الْإِمَامُ الشَّعْبِيُّ: "مَنْ أَنْكَحَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهُ"، وَيَقُولُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: "وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْعَفِيفَةِ".

 

وَإِنَّ الْمُشَاهَدَ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْعَفِيفَةَ إِذَا ابْتُلِيَتْ بِفَاسِقٍ فَإِنَّهُ يَفْتِنُهَا عَنْ تَدَيُّنِهَا وَصَلَاحِهَا، وَيَكُونُ عَدُوًّا لَهَا دَاخِلَ بَيْتِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ بِتَطْلِيقٍ أَوْ خُلْعٍ إِنْ هِيَ تَمَسَّكَتْ بِتَقْوَاهَا، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ قَدْ ذَاقَتْ مِنْهُ الْعَنَتَ، وَإِمَّا -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- أَنْ تَنْتَكِسَ الْمَرْأَةُ التَّقِيَّةُ فَتَكُونَ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِذَا أَوْصَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَبْنَاءَهَا قَائِلَةً: "يَا بَنِيَّ وَبَنِي بَنِيَّ، إِنَّ هَذَا النِّكَاحَ رِقٌّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ"(سُنَنُ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ).

 

وَالْعَكْسُ أَيْضًا صَحِيحٌ؛ فَالْمَرْأَةُ الْفَاسِقَةُ لَيْسَتْ بِكُفْءٍ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ، فَهَذَا مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ كَانَ يَحْمِلُ الْأُسَارَى بِمَكَّةَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا: عَنَاقُ، وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحُ عَنَاقَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، فَنَزَلَتْ: (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)[النُّورِ:3] فَدَعَانِي فَقَرَأَهَا عَلَيَّ وَقَالَ: "لَا تَنْكِحْهَا"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)... وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ غِوَايَةٌ وَإِغْرَاءٌ وَفِتْنَةٌ، "وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْمَرْءُ عَلَى دِينِ زَوْجَتِهِ؛ لِمَا يَسْتَنْزِلُهُ الْمَيْلُ إِلَيْهَا مِنَ الْمُتَابَعَةِ، وَيَجْتَذِبُهُ الْحُبُّ لَهَا مِنَ الْمُوَافَقَةِ، فَلَا يَجِدُ إِلَى الْمُخَالَفَةِ سَبِيلًا، وَلَا إِلَى الْمُبَايَنَةِ وَالْمُشَاقَّةِ طَرِيقًا"(أَدَبُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ).

 

وَقَدِ اشْتَرَطَ الْقُرْآنُ فِيمَنْ تُتَّخَذُ زَوْجَةً أَوْ يُقَبَلُ زَوْجًا أَلَّا يَكُونَ فَاسِقًا أَوْ زَانِيًا، فَقَالَ لِلرِّجَالِ: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)[النِّسَاءِ:25]، وَقَالَ لِلنِّسَاءِ: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ)[الْمَائِدَةِ:5]، "وَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مِنَ الرَّجُلِ الْعَفِيفِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ مَا دَامَتْ كَذَلِكَ حَتَّى تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ صَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ الْمُسَافِحِ، حَتَّى يَتُوبَ تَوْبَةً صَحِيحَةً"(تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ).

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الرَّاجِحُ عَدَمَ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي شَيْءٍ غَيْرِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحْسَنِ مُرَاعَاةُ التَّكَافُؤِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْأُخْرَى؛ لِتَدُومَ الْعِشْرَةُ وَيَحْصُلَ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ، فَإِنَّ عَدَمَ مُرَاعَاتِهَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى النُّفُورِ ثُمَّ الطَّلَاقِ.

 

فَعَدَمُ التَّكَافُؤِ فِي الْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ -مَثَلًا- قَدْ آلَ بِزِيجَةِ أُسَامَةَ وَزَيْنَبَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- إِلَى الطَّلَاقِ، فَفِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الْأَحْزَابِ:36]، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَيْنَبَ وَأَهْلِهَا لَمَّا رَفَضُوا تَزْوِيجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ؛ لِأَنَّهَا قُرَشِيَّةٌ وَهُوَ مَوْلًى، فَنَزَلَتْ، فَتَزَوَّجَتْهُ... وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُوهَا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي طَلَاقِهَا، فَيَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ)[الْأَحْزَابِ:37]، حَتَّى انْتَهَى زَوَاجُهُمَا بِالطَّلَاقِ.

 

بَلْ إِنَّ عَدَمَ التَّكَافُؤِ فِي الْمَظْهَرِ وَالْجَمَالِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي انْهِيَارِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، مِثْلَمَا وَقَعَ بَيْنَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَزَوْجَتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟" قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، قَالَ الْكَشْمِيرِيُّ: "وَكَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ أُبَيٍّ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، وَكَانَ ثَابِتُ أَدَمَ قَصِيرًا"، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ رَأْسِي وَرَأْسُ ثَابِتٍ أَبَدًا؛ إِنِّي رَفَعْتُ جَانِبَ الْخِبَاءِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ، فَإِذَا هُوَ أَشَدُّهُمْ سَوَادًا، وَأَقْصَرُهُمْ قَامَةً، وَأَقْبَحُهُمْ وَجْهًا"(فَتْحُ الْبَارِي).

 

وَكَمْ رَأَيْنَا فِي عَصْرِنَا هَذَا مِنْ زِيجَاتٍ غَيْرِ مُتَكَافِئَةٍ كَانَ مَصِيرُهَا الْخُلْعَ أَوِ الطَّلَاقَ، فَإِنَّ انْعِدَامَ الْكَفَاءَةِ يَعْنِي -فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ- النُّفُورَ وَغِيَابَ التَّفَاهُمِ وَالْوِئَامِ وَالِانْسِجَامِ وَالْمَوَدَّةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ الْمَصِيرُ الْمَحْتُومُ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: رُبَّ سَائِلٍ يَسْأَلُ: لَوْ تَزَوَّجَ اثْنَانِ عَلَى غَيْرِ تَكَافُؤٍ بَيْنَهُمَا، فَهَلْ نَأْمُرُهَا مِنَ الْبِدَايَةِ بِالطَّلَاقِ؟! نُجِيبُ: كَلَّا، بَلْ قَدْ تَدُومُ الْعِشْرَةُ مَعَ انْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ إِنْ طَبَّقْنَا عِدَّةَ وَصَايَا، وَمِنْهَا:

الرِّضَا وَالْقَنَاعَةُ بِالزَّوْجِ: فَإِذَا ابْتَلَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً بِزَوْجٍ لَا تُوجَدُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ قَضَاءُ اللَّهِ وَاخْتِيَارُهُ لَهُ، فَلْيَرْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ، وَلْيَقْنَعْ بِهِ، وَلَا يَتَطَلَّعْ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِي شَرِيكِهِ وَرَأَى فِيهِ خَيْرًا مِمَّا افْتَقَدَ.

 

وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى الْأَصْلِ الْمُشْتَرَكِ: فَهَذَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى"(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، فَمَهْمَا كَانَ مَا يَنْقُصُ الطَّرَفَ الْآخَرَ، فَإِنَّ الْأَصْلَ وَاحِدٌ.

 

وَمِنْهَا: إِيفَاءُ حَقِّ شَرِيكِ الْحَيَاةِ: فَإِنَّ عَدَمَ كَفَاءَتِهِ لَا يُسْقِطُ حُقُوقَهُ كَزَوْجٍ، وَإِنْ عَدِمَ كَفَاءَتَهَا لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا كَزَوْجَةٍ، فَإِنْ وَفَّى كُلُّ طَرَفٍ حُقُوقَ الْآخَرِ اسْتَدَامَتِ الْحَيَاةُ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)[الْبَقَرَةِ:228].

 

وَمِنْهَا: النَّظَرُ إِلَى الْجَانِبِ الْمُشْرِقِ: وَهِيَ نَصِيحَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، فَكُلَّمَا نَظَرَ إِلَى مَا يَنْقُصُ شَرِيكَهُ، عَاوَدَ النَّظَرَ إِلَى مُمَيِّزَاتِهِ وَمُسْتَحْسَنَاتِهِ، فَيَهُونُ عَلَيْهِ مَا كَرِهَ.

 

وَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَدَرِ وَالنَّقْصِ، فَلَا يَكَادُ يَصْفُو فِيهَا شَيْءٌ أَوْ يَكْمُلُ فِيهَا أَمْرٌ، فَحَسْبُ الْمَرْءِ أَنْ يَجِدَ فِي شَرِيكِهِ الدِّينَ وَالتَّقْوَى، أَمَّا مَا سِوَاهُمَا فَيُمْكِنُ التَّغَاضِي عَنْهُ أَوْ إِصْلَاحُهُ أَوْ تَعْوِيضُهُ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

أسباب الطلاق الأسرية غياب الكفاءة بين الزوجين.pdf

أسباب الطلاق الأسرية غياب الكفاءة بين الزوجين.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات