أربع إن كن فيك فلا عليك (1) حفظ أمانة

عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي

2021-12-24 - 1443/05/20 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/مفهوم الأمانة في القرآن الكريم2/أهمية الأمانة وحكمها في الإسلام 3/بعض صور الأمانة 4/ثمار الأمانة في الدنيا والآخرة.

اقتباس

ولما كان للأمانة تلك المنزلة أوجبها الله على عباده وأمرهم بأدائها .. ومن صور الأمانة؛ أمانة القضاء والشهادة والكتابة، وأمانة النصح والمشورة مصداقا.. واللسان أمانة، والصحة أمانة، والولد والزوجة أمانة، وكل هذه النعم أمانة سَيَسألُ عنها الواهب يوم القيامة...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن دين الإسلام هو دين الفضائل والقيم؛ فما من خُلق حميد إلا ودلنا عليه؛ ألا وإن من أعظم خصال الخير الجامعة للفضائل التي دعانا إليها الإسلام وأرشدنا إليها خير الأنام محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ ما جاء في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتَك من الدُّنيا حفظُ أمانةٍ، وَصِدْقُ حديثٍ، وحُسنُ خلقٍ، وعفَّةٌ في طُعمة"، والمعنى أي "لا بأْسَ بما يَضيعُ من الدُّنْيا من مُتعٍ، إنْ كان المُسْلمُ بتلك الصفاتِ"، ويَحْتمِلُ: "أنه لا بأْسَ بما يفوتُ من الدُّنْيا إذا كان الفائِتُ منها ما يترتَّبُ من معاملاتٍ بتلك الخِصالِ".

 

فما أعظمها من خصال حميدة وغنائم باردة؛ فتعالوا لنقف في مقامنا هذا مع الخصلة الأولى التي بدأ بها رسولنا الأمين وأكرم الخلق أجمعين -صلوات ربي عليه في الأولين والآخرين-؛ ألا وهي "حفظ أمانة".

والمتأمل في حقيقة الأمانة ومعناها يجد أنها جاءت بمعان عدة ذكرها القرآن الكريم؛ فأتت بمعنى الفرائض والواجبات، وفي ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال:27].

 

وجاءت بمعنى الوديعة، يقول -سبحانه-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)[النساء: 58].

 

ووردت بمعنى العفة، قال -تعالى-: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 26].

 

أيها المؤمنون: ولم يذكر القرآن الكريم تلك المعاني العظيمة للأمانة إلا لما لها من الأهمية البالغة والمنزلة الرفيعة في دين الإسلام؛ وحسبها أنها شرط لاكتمال إيمان العبد وتمامه؛ روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له"(صححه الألباني).

 

ولما كان للأمانة تلك المنزلة أوجبها الله على عباده وأمرهم بأدائها؛ فقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النساء: 58]، ولا أدل على وجوبها توجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته بأن يؤدوها حتى لمن خان أمانته وضيعها؛ وتجلى ذلك التوجيه النبوي في قوله: "أدّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك"(أبو داود والترمذي).

 

وللأمانة -يا عباد الله- صور كثيرة؛ فمن ذلك:

القيام بحق الله -تعالى- من توحيده وطاعته فيما افترضه على عباده من الواجبات والفرائض، وكذا طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر؛ وقد قرن الله في التحذير من خيانته وخيانة رسوله حين حذر عباده المؤمنين؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[الأنفال:27- 28].

 

ومن صورها: حفظ الجوارح؛ فالسمع أمانة، والبصر أمانة، والفؤاد أمانة؛ قال -عز من قائل-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء:36].

واللسان أمانة، والصحة أمانة، والولد والزوجة أمانة، وكل هذه النعم أمانة سًيَسألُ عنها الواهب يوم القيامة كل من وهبه في الحياة الدنيا.

 

ومن الأمانة؛ تلك النعم التي لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأله ربه عنها؛ جاء في حديث أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟"(رواه الترمذي وصححه).

 

ومن صور الأمانة: أمانة الولاية العامة والخاصة؛ فعن عبدالله بن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ. قالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِن رَسولِ اللَّهِ-صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وأَحْسِبُ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قالَ: والرَّجُلُ في مَالِ أبِيهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ"(أخرجه البخاري ومسلم).

 

والسعيد من حفظ هذه الأمانة ونال في الدارين الفوز والسلامة، والشقي من ضيعها فلحقه الخزي والندامة. روى معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "مِن عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْها بنَصِيحَةٍ، إلّا لَمْ يَجِدْ رائِحَةَ الجَنَّةِ."

 

ومن صور الأمانة: أمانة القضاء والشهادة والكتابة، وأمانة النصح والمشورة مصداقا لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: "المستشار مؤتمن"(أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه).

 

ومن صور الأمانة: كل ما يوكل إلى المسلم من أعمال ومهام ومسؤوليات، قال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر لما سأله أن يوليه: "يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة، خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"(رواه مسلم).

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72].

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

 

عباد الله: ولأداء الأمانة ثمار عظيمة ومنافع كبيرة في الدنيا والآخرة؛ منها:

الذرية الطيبة؛ يروى أن رجلا اسمه نوح بن مريم، وكان معه عبد اسمه مبارك لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، -لكنه يملك الدين والأمانة؛ ومن ملكهما فقد ملك كل شيء- أرسله سيده إلى بساتين له، وقال له: اذهب إلى تلك البساتين، واحفظ ثمرها، وقم على خدمتها إلى أن آتيك؛ فمضى الرجل، وبقي في البساتين مدة، وجاءه سيده، ليستجم في بساتينه؛ وليستريح في تلك البساتين.

فجلس تحت شجرة وقال: يا مبارك ! ائتني بقطف من عنب؛ فجاءه بقطف، فإذا هو حامض، فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض، فأتاه بآخر فإذا هو حامض، فقال: ائتني بآخر إن هذا حامض، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض، وكاد أن يستولي عليه الغضب..

وقال: يا مبارك! أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتيني بقطف لم ينضج، ألا تعرف حلوه من حامضه؟ قال: والله! ما أرسلتني لآكله، وإنما أرسلتني لأحفظه، وأقوم على خدمته، والذي لا إله إلا هو! ما ذقت منه عنبة واحدة، والذي لا إله إلا هو! ما راقبتك ولا راقبت أحدًا من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السَّماء..

 

فأعجب به، وأُعْجِب بأمانته وورعه، وقال: الآن أستشيرك -والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن- تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه؛ فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟

فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب، واليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، وعلى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزوجون للدين والخلق، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه، والمرء مع من أحب، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم..

 

أي نصيحة وأي مشورة! نظر وقدَّر وفكَّر، وتملى ونظر فما وجد خيرًا من مبارك، قال: أنت حرُ لوجه الله؛ فأعتقه أولاً، ثم قال: لقد قلبت النظر، ورأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت، قال: اعرض عليها؛ فذهب فعرض على البنت، وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بـ مبارك ، قالت: أترضاه لي؟ قال: نعم.

قالت: فإني أرضاه؛ فتزوج منها فكان الزواج المبارك من مبارك؛ فما الثمرة وما النتيجة؟ حملت هذه المرأة وولدت طفلاً أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل؛ إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلَّب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيًا بسيرته وذِكْره الطيب.

 

ومن ثمار الأمانة: دخول الجنة، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون: 8-11]، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)[المعارج: 32 - 35].

 

أيها السلمون: أدوا الأمانة فإنها شرط لاكتمال الديانة، ونموها بتقوى الله -تعالى- ومراقبته، وبالمعاملة الحسنة مع خلقه؛ تنالوا مرضاة ربكم، وصلاح أحوالكم في دنياكم وآخرتكم، واسألوا ربكم العون على القيام بها واجتهدوا في أدائها، واعلموا أن الأمانة أثقل ما تحملتم؛ وصدق الشاعر حين قال:

وما حُمِّل الإنسانُ مثلَ أمانةٍ *** أشقَّ عليه حين يحملُها حملا

فإن أنت حمِّلتَ الأمَانَةَ فاصطبرْ *** عليها فقد حمِّلتَ مِن أمرها ثقلا

ولا تقبلنَّ فيما رضيتَ نميمة *** وقل للذي يأتيك يحملُها مهلا

 

هذا وصلوا على صاحب المقام المحمود والحوض المورود، فقد أمركم الله بالصلاة عليه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].

 

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

 

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين.

 

المرفقات

أربع إن كن فيك فلا عليك (1) حفظ أمانة.doc

أربع إن كن فيك فلا عليك (1) حفظ أمانة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات