أذن وقل: الله أكبر

ناصر بن محمد الأحمد

2015-07-29 - 1436/10/13
عناصر الخطبة
1/ الأذان شعار من شعائر الدين 2/ قصة تاريخ الأذان وكيفية ابتدائه 3/ سبب مشروعية الأذان 4/ تأملات في معاني الأذان 5/ كراهية الكفار والحاقدين لسماع الأذان وارتفاعه.

اقتباس

استغل التتار أيام هجومهم على بلاد الإسلام دور الأذان في جمع المسلمين عند ساعة المحنة، فكانوا إذا خرّبوا مدينة من مدن الإسلام يرفعون الأذان في بعض مآذنها بعد يوم أو يومين، فكل من كان مختبئاً يخرج معتقداً أن العدو زال عن المدينة، فكانوا يغرون بهم ويقتلونهم. وبقي الأذان والمئذنة رمزين في صراع المسلمين وأعدائهم، وكانت أحقاد اليهود والنصارى والمشركين تتجه أول ما تتجه إلى المآذن والمؤذنين، وكلنا تابع ما فعله الصرب في البوسنة وما يفعله الصهاينة في فلسطين والهندوس في الهند والروس في الشيشان، وما يفعله غيرهم في بلاد مختلفة من العالم، مما يبين أن الأذان والمئذنة رمز لأمة، وشعار لدين، فهما مستهدفان كما يُستهدف اللواء في المعارك والحروب.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: مَنْ منا لم يسمع الأذان؟ ومعظمنا لا بد أن أذّن يوماً ما، ومن منا لم تطرق كلمات الأذان المتميزة أذنيه؟ إن كلمات الأذان بحمد الله تعالى تتردد في كل بلد مسلم، وترتفع كل يوم خمس مرات من آلاف المآذن والمساجد المنتشرة في المدن والقرى، بحيث يمكن القول: إن عدد المرات التي يسمع فيها المسلم الأذان في حياته يفوق أي كلمات أخرى تتكرر على سمعه.

 

الأذان: هو ذلك النداء الذي يعرفه كل مسلم، ويحفظ كلماته منذ طفولته وصباه، فهو شعار من شعائر الدين المشهورة، لكن هذه الشهرة التي يتمتع بها الأذان بين المسلمين لا تعني بالضرورة أن المعاني والحقائق التي ينادى بها معروفة لكل الناس، فشهرة الكلمات تقابلها غربة المعاني والمضامين.

 

إن معظم المسلمين يعرفون الأذان بوصفه أداةً تجمعهم على الصلوات في المساجد، وقد يعرف بعضهم المعنى اللغوي لكلماته وألفاظه، ولكنهم يتفاوتون في معرفة المعاني الشرعية التي تحملها تلك الكلمات، وهذه الخطبة محاولة لإحياء بعض معاني الأذان، والإشارة إلى بعض حقائقه حتى إذا سمع المسلم الأذان حضرت هذه المعاني في قلبه وذكرها في نفسه، وهي حقائق لا يجوز أن تغيب عنه، فيتولى الأذان تذكيره بها بصفة مستمرة.

 

لقد شُرع الأذان في السنة الأولى بعد الهجرة، بينما فرضت الصلاة قبلها بعدة شهور في ليلة الإسراء والمعراج، ويبدو أن تشريع الأذان تأخر إلى ما بعد الهجرة لأنه لم يكن للمسلمين بمكة مسجد يجتمعون للصلاة فيه، فلما هاجروا إلى المدينة وبنوا المسجد احتاجوا إلى أداة تجمعهم في وقت واحد لإقامة الصلوات المكتوبة في جماعة.

 

وكانت الأدوات التي يُدْعَى الناس بها إلى الصلوات والطقوس الدينية هي: النفخ في البوق كما عند اليهود، والضرب على الناقوس كما عند النصارى، وإشعال النار كما عند المجوس، فأبدل الله هذه الأمة بذلك كله: كلمات الأذان، والملاحظ أن الفرق بين هذه الطرق الثلاث وبين رفع الأذان هو أن الأذان كلماته مركبة في جمل لها معنى يرددها إنسان ويرفع بها صوته فيفهمها من له معرفة باللغة العربية أو من تُرجمت له معانيها ونقلت إليه باللغة التي يتكلمها، بينما النفخ في البوق أو الضرب على الناقوس لا ينشىء كلاماً له معنى، وإنما يحدث أصواتاً صماء، غاية ما تدل عليه هو الهدف الديني الذي وضعت له، لكنها لا تحمل إلى السامع معاني أخرى عبر الصوت الذي يصل إلى مسامعه.

 

الأذان: كلمات مختارة ومرتبة بعناية إلهية، وهذا الاختيار والترتيب مقصود لأمر يتجاوز مجرد الإعلام بدخول وقت الصلاة.

 

السنة في الأذان أن يجهر به المؤذن، ويمد الصوت بألفاظه حتى يصل إلى أطول مسافة وأكبر عدد من الناس.

 

ليس كل من يسمع الأذان بالضرورة من المصلين، بل ليس كل من يسمع الأذان مسلم، فلا شك أن للأذان رسالة إلى هؤلاء.

 

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للصحابي الذي رأى في منامه من يعلمه الأذان: "قم فلقنه بلالاً؛ فإنه أندى صوتاً منك" (رواه الترمذي أبو داود).

 

والصوت الندي هو: الصوت القوي الواضح الجميل الذي تجتمع في صاحبه الموهبة والدربة، فلا يكون الصوت حسناً بالأذان إلا إذا كان النطق به وفق قواعد اللغة العربية ومخارج حروفها، وهذا بالتأكيد من أجل أن يفهم الناس عن المؤذن ما يقول، فإذا كان الصوت منفّراً أثر في هذه الغاية وأضعفها.

 

أيها المسلمون: لقد كان سبب مشروعية الأذان رؤيا رآها الصحابي الجليل عبد الله بن زيد رضي الله عنه، فلم يكن الأذان إذن اقتراحاً من بعض الصحابة أو اتفاقاً بينهم، وإنما كان رؤيا رآها أحدهم، وقال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنها رؤيا حق".

 

لقد ندب الإسلام المسلم إذا سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول، ووعده على ذلك بالجنة، وهذا يقتضي أن يُقْبِل على الأذان فكلما سمع منه جملة رددها بلسانه، فتتاح لقلبه فرصتان لتدبر معناها: الأولى: عندما يسمعها، والثانية: عندما يقولها ويرددها، ومعلوم أن الإسلام إذا أمر المسلم أن ينصت إلى كلام أو يردده فإنه يقصد استماع القلب لا استماع الأذن فحسب.

 

فإذا فرغ المؤذن من أذانه يسنّ للسامع أن يقول بعد الصلاة على رسول الله: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته".

 

 وإذا تأملنا هذا الدعاء الذي يقال بعد الأذان، نجد فيه: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة"، فيكون الأذان تلخيصاً لدعوة الإسلام، ثم إعلاماً بدخول وقت الصلاة. فإذا أجاب المسلم المؤذن وحضر إلى الصلاة، فقد صدّق بالحق وامتثل للأمر فجمع شَرطي الفلاح.

 

 وإنما كان الأذان تلخيصاً لدعوة الإسلام لأنه متضمن للشهادتين، والإسلام كله قام على أساسين عظيمين: أن يُعبد الله وحده، وتلك شهادة "أن لا إله إلا الله"، وأن يُعبد بما جاء به رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتلك شهادة "أن محمداً رسول الله".

 

لقد كان الإسلام في بدايته كلمة يقولها الرجل فيصير مسلماً أو يعرض عنها فيكون كافراً، ولا يمكن لكلمة أن تكون فيصلاً بين الإسلام والكفر إلا إذا كان الإسلام نفسه مجموعاً في هذه الكلمة.

 

لقد كانت البداية التي بدأت بها الدعوة إلى الإسلام وهي: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" دليلاً على ما لهاتين الشهادتين من معنى كبير وخطير، يترتب على العلم به والعمل بمقتضاه فلاح الدنيا والآخرة.

 

لقد كان المتلفظ بالشهادتين في عصر الرسالة يعرف أنه يجتاز عالماً بأكمله ويدخل إلى عالم جديد، يجتاز عالم الجاهلية بمبادئه وأخلاقه وعاداته ويَعْبر إلى عالم الإسلام.

 

وإن أخطر ما يصاب به هذا الركن الاعتقادي هو: أن يبقى في الناس لفظه ويضيع معناه أو جزء منه، فيتشوه الباقي وتختلف الأمة فيه، وهذا ما حصل بالفعل عندما ابتعد المسلمون عن الكتاب والسنة، فصاروا ينطقون الشهادتين ويرددونهما في الأذان والإقامة والتشهد وغيرها، وهم على جهل بمعناها الصحيح فيشهدون دون أن يتبينوا على أي شيء يشهدون؟

 

إن "لا إله إلا الله محمد رسول الله" اختيار في الحياة، يحدد التصور الذي يعيش به المرء والسلوك الذي يتصرف به، والنطق بهما يعني تحولاً على المستوى الفكري والواقعي، فبهما يتحدد مصدر التلقي، وبهما تتحدد الغاية والهدف، وتلك الربانية: ربانية المصدر وربانية الغاية، فيعيش العبد بعلم الله تعالى المنـزل يصوغ تصوراته كما يصوغ تصرفاته.

 

أيها المسلمون: وحيث إن الإنسان مجبول على تقديم العاجلة على الآجلة، وتفضيل النقد على النسيئة، وبما أن الدنيا عَرَض حاضر، والآخرة وعد صادق، فالدنيا يراها والآخرة يسمع عنها، فالذي يحدث غالباً هو انشغال الإنسان بما يرى عما يسمع، والإقبال على العرَض الحاضر والغفلة عن الوعد الصادق، فيأتي في الأذان: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" لينادي على الناس في أسواقهم يبيعون ويشترون، أو في أعمالهم يصنعون ويعملون، أو في بيوتهم يأكلون ويشربون، أن يوازنوا في حياتهم بين الدنيا والآخرة، كما أمرهم الله في قوله: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُون) [الجمعة: 9].

 

إن نداء المؤذن: "حي على الصلاة، حي على الفلاح" على رأس وقت كل صلاة إعلان عن وسطية الإسلام، وجمعه بين الدين والدنيا، فالمسلم في عبادة قبل الحضور إلى المسجد، وهو في عبادة عندما يحضر بعد سماع الأذان، وهو في عبادة عندما ينصرف بعد الصلاة إلى أشغاله وأعماله.

 

ثم إن النداء بـ "حي علي الصلاة، حي على الفلاح" إيذان بانطلاق جولة جديدة من معركة الإنسان مع الشيطان، فهذا العدو سيسعى جهده ليصده عن ذكر الله وعن الصلاة، وإجابة النداء والذهاب إلى المسجد معناه كسب هذه الجولة الجديدة وتحقيق الانتصار فيها، فالأذان يصل إلى الجميع، ولكن الناس يختلفون: فمنهم منتصر ومنهم منهزم، فواحد يسمعه فيدع ما كان فيه ويجيب النداء، وآخر يصلي في بيته في الوقت، وثالث يؤخرها عن وقتها، ورابع يتركها ولا يصليها، وبهذا يستخرج الأذان ما في القلوب من إيمان، أو كفر ونفاق، ويكشف لكل عبد درجة إيمانه، فإن الإيمان يعرف عند الطاعات: (قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُونَ الَذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعون) [المؤمنون: 1].

 

والناس عندما يسمعون "حي على الصلاة حي على الفلاح" تحضرهم صور مختلفة لهذه الصلاة التي يُدْعَون إليها، فكل واحد تحضره صورة معينة قد تكون موافقة لصورتها في دين الله، وقد يكون بين الصورتين تباعد وتنافر.

 

والصلاة في دين الإسلام هي الركن الثاني الذي لا يصح إسلام المسلم إلا بها، وهي توبة متجددة، وطهارة ظاهرة وباطنة، وقوة روحية وبدنية، ومناجاة بين العبد وربه، وهي كفارة للذنوب، وتذكرة بلقاء الله يوم القيامة، وشرط من شروط النجاة والفلاح في ذلك اليوم. فمن وافقت صورة الصلاة في نفسه صورتها في دين الله، فإنه يُعَظِّمُ قدرها ولايسهو عن وقتها: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُون)  [الماعون: 4، 5].

 

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: وكما يشدنا الأذان إلى كلماته، يشدنا إلى تاريخه، فتاريخه هو تاريخ الإسلام في الأرض، وهو تاريخ التوحيد في صراعه مع الشرك.

 

لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وطهّر البيت من الأصنام التي فيه وفيما حوله، دعا مؤذنه بلالاً، وأمره أن يصعد على الكعبة ويؤذن، فارتقى رضي الله عنه، ورفع صوته بالأذان، فكان هذا الأذان أبلغ رسالة لقريش تخبرها بمواصفات العهد الجديد.

 

ولقد قال أحد المشركين وهو يسمع الأذان ويرى بلالاً يجهر به فوق الكعبة: "أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟" وقال آخر: "الحمد لله الذي قبض أبي قبل أن يرى هذا اليوم"، فكانت كلمات هذين المشركين تلخيصاً لما دافعت عنه قريش مدة عشرين عاماً، ولكن الحق إذا جاء زهق الباطل، ولقد كانت تلك الأصنام قبل قليل آلهة تعبد، أما الآن فالله أكبر ولا إله إلا الله.

 

وصار سماع الأذان في قرية علامة على إسلام أهلها، فإذا سمعه المسلمون كفّوا عنها، وميّزوها عن غيرها من القرى الكافرة، وكان لصيحة الله أكبر وهي من كلمات الأذان هيبتها عبر التاريخ الإسلامي، فقد كانت تزلزل قلوب الأعداء، وتلقي الرعب في قلوب الكفار، فهي كلمة الثبات وكلمة النصر، فإذا غزا المسلمون قالوا: "الله أكبر"، وإذا فتح الله عليهم ونصرهم أذّنوا فقالوا: "الله أكبر".

 

ولقد استغل التتار أيام هجومهم على بلاد الإسلام دور الأذان في جمع المسلمين عند ساعة المحنة، فكانوا إذا خرّبوا مدينة من مدن الإسلام يرفعون الأذان في بعض مآذنها بعد يوم أو يومين، فكل من كان مختبئاً يخرج معتقداً أن العدو زال عن المدينة، فكانوا يغرون بهم ويقتلونهم.

 

 وبقي الأذان والمئذنة رمزين في صراع المسلمين وأعدائهم، وكانت أحقاد اليهود والنصارى والمشركين تتجه أول ما تتجه إلى المآذن والمؤذنين، وكلنا تابع ما فعله الصرب في البوسنة وما يفعله الصهاينة في فلسطين والهندوس في الهند والروس في الشيشان، وما يفعله غيرهم في بلاد مختلفة من العالم، مما يبين أن الأذان والمئذنة رمز لأمة، وشعار لدين، فهما مستهدفان كما يُستهدف اللواء في المعارك والحروب.

 

أيها المسلمون: الأذان كلمات لا إكراه فيها، بل فيها دعوة إلى الإيمان بالحق والعمل بمقتضاه، ولعل إدراك الغرب النصراني أن الأذان سينتصر على الناقوس سببٌ في أنهم لايزالون يمنعون رفعه في المساجد الموجودة ببلادهم، ولكن عندما تكون أغلبية السكان بهذه البلاد مسلمين سيرفع الأذان فوق المساجد، ولبلوغ هذه الغاية فإن هؤلاء السكان بحاجة إلى من يشرح لهم كلمات الأذان، ومن يترجم لهم ما يقوله المؤذن، فالأذان ليس للمسلمين وحدهم ولكنه نداء عالمي كما أن الإسلام دعوة عالمية.

 

إن عدداً من السياح الأجانب عندما زار بلاد المسلمين تساءلوا عندما سمعوا الأذان عما يقوله هؤلاء المؤذنون، ودفعهم ذلك إلى التساؤل عن الإسلام.

 

إن من أسوأ ما يبتلى به المسلمون، أن تُجَرَّد شعائر دينهم من معناها، وتفرّغ رموز دينهم من دلالتها، فتتحول إلى رسوم وأسماء، والواجب أن نقول ذلك بقوة لتبقى لهذه الرموز دلالتُها، تستعيد ما كان لها من معنى يوم شرعت أول مرة، وهذا يفرض علينا إحياء طريقة السلف في تلقين أحكام الدين حتى لا تقصر على جانب واحد.

 

 فإذا تناولنا أحكام الأذان على سبيل المثال لا نقتصر على بيان ألفاظه والأدعية التي تكون بعده ومايشترط في المؤذن، بل نجمع إلى ذلك ما ذكرناه في هذه الخطبة، ونفعل مثل هذا في دراسة الصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر شعائر الإسلام.

 

اللهم ..

 

 

المرفقات

وقل الله أكبر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات