أدب الجوار

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/حاجة الإنسان لغيره 2/عظم رابطة الجوار في الإسلام 3/رعاية أهل الجاهلية لحق الجار 4/مفهوم الجار ومراتب الجوار في الإسلام 5/بعض حقوق الجار 6/نكد الحياة بسبب الجار المؤذي 7/العواقب الوخيمة لأذية الجار

اقتباس

لقد كانت هذه الرابطة مفخرة إنسانية عربية قبل أن تكون مفخرة إسلامية؛ لأنها تنبع من التمسك بالأخلاق الكريمة التي كانت موجودة بين الناس في ذلك الوقت. ولهذا كلما تلاشت الأخلاق الحسنة والقيم الحميدة في أي مجتمع ذهب أداء حق الجوار كما ينبغي. والمتأمل بيننا -نحن المسلمين- في عصرنا المتحضر يجد ذوبان هذه الرابطة يوماً بعد يوم، خصوصاً في المجتمعات المدنية والأحياء الراقية، حيث ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن خير الكلام، وجعله نوراً للعقول، وحياة للقلوب، وشفاءً لما في الصدور.

أحمده على جزيل إنعامه، وأشكره على جليل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله واحد، ورب شاهد، ونحن له مسلمون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي خاتم، ونور هادٍ، ونحن له متبعون، هدى الله به من الضلالة، وعلّم به من الجهالة، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

 

أما بعد: اعلموا -عباد الله- أن خير القِيْل قيلُ الله، وخير الهدي هدي رسول الله محمد بن عبد الله، وأن كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

ثم اعملوا بتقوى الله بفعل أوامره واجتناب زواجره؛ سامعين مطيعين لقوله في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أيها المسلمون: اعلموا أن الأيام والليالي عِبرٌ تتوالى؛ لتربي الإنسان على الرشُد، وتلقِّنه دروس الحكمة والنضج.

ومن عبر الزمان ودروسه النافعة: أن أصدقاء الإنسان أيام نعمته: -أيام صحته وغناه وجاهه وقوته- كثير، وأن أصدقاء محنته قليل.

وأن الإنسان -مهما علت منزلته في الدنيا بالجاه أو المال أو القوة- محتاج إلى غيره، ولا يمكن أن يستغني بنفسه عن حاجته للآخرين، فالقريب محتاج إلى قريبه، والزميل إلى زميله، والصديق إلى صديقه، والجار إلى جاره، وإن حصل التفاوت بين هؤلاء في أعراض الدنيا وأسباب القوة فيها.

 

وهذه الحياة ميدان فسيح، تربط بين ساكنيه أواصر وروابط، وصلات ووشائج، فهناك رابطة القرابة، ورابطة النسب والمصاهرة، وهناك رابطة الصداقة والزمالة، وهناك رابطة الجوار، وغيرها من الوشائج والعلائق، وعلى هذه الروابط تقوم الأمم وبها تتكون الممالك والدول، ومتى ما قامت هذه الروابط على أساس من الدين، استمر بقاؤها وزاد نماؤها، وصارت تلك الأمة التي شِيد بنيانها عليها منيعةَ الجانب، عزيزة المكانة، مهيبة القدر.

 

عباد الله: إن من بين تلك الروابط التي دعا الإسلام إلى الاعتناء بها، والوفاء بحقها: رابطةَ الجوار، فقد اهتم الإسلام بها أيما اهتمام، وأولاها آداباً وحقوقاً تضمن لها الديمومة والبقاء، وجعل الله -تعالى- حق الجوار من الحقوق العشرة التي أمر بالإحسان فيها، فقال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً)[النساء: 36].

 

ومما يدل على اعتناء الإسلام بهذه الرابطة: أن جبريل -عليه السلام- كان كثير الوصية لرسول الله بها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"(متفق عليه).

 

لقد كانت هذه الرابطة مفخرة إنسانية عربية قبل أن تكون مفخرة إسلامية؛ لأنها تنبع من التمسك بالأخلاق الكريمة التي كانت موجودة بين الناس في ذلك الوقت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"(رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح).

 

ولهذا كلما تلاشت الأخلاق الحسنة والقيم الحميدة في أي مجتمع ذهب أداء حق الجوار كما ينبغي.

 

والمتأمل بيننا -نحن المسلمين- في عصرنا المتحضر يجد ذوبان هذه الرابطة يوماً بعد يوم، خصوصاً في المجتمعات المدنية والأحياء الراقية، حيث صار الجار لا يعرف من يسكن بجواره، ولا يدري عن أحواله، وقد يجاور جاره سنين طويلة ثم يموت، وجاره القريب منه لا يعلم! ولا شك أن الأوضاع القروية أحسن بكثير مما عليه الحواضر والمدن.

 

لقد كان العربي في الجاهلية يفتخر بإحسانه إلى جاره، ويعتز بثناء جاره عليه، خصوصاً إذا كان الجار ضعيفا. فيصير بهذه الرابطة قوياً بعد الضعف، وعزيزاً بعد الذلة، وغنياً بعد القلة، قال الشاعر العربي:

 

تعيِّرنا أنا قليلٌ عديدُنا *** فقلتُ لها إن الكرام قليل

وما ضرّنا أنا قليل وجارنا *** عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل

لنا جبل يحتلّه من نُجيره **** منيعٌ يردُّ الطرفَ وهو كليل

 

ويتمدّحون بكف الأذى عن الجار، حيث يقول شاعرهم:

ولا نخذل المولى ولا نرفع العصا  *** عليه ولا نزجي إلى الجار عقربا

 

وإذا أصاب الهوانُ جارَهم تألموا لذلك، وعدّوه فاقرة من الفواقر، قال الشاعر:

وإنّ هوانَ الجار للجار مؤلمٌ *** وفاقرة تأوي إليها الفواقر

 

أيها المسلمون: إن مما ينفع الإنسان قبل سكنى الدار أن يختار الجار، ومن أعظم السعادة أن يوفق المسلم لجار صالح؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من سعادة المرء: الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع"(رواه أحمد وابن حبان، وهو صحيح).

 

قال بعض العلماء: لقد اختارت زوجة فرعون المؤمنة آسية بنت مزاحم عليها السلام الجارَ قبل الدار؛ كما قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11].

 

قال الشاعر:

يقولون قبل الدار جار موافق *** وقبل الطريق النهج أُنسُ رفيقِ

 

وقال الآخر:

اطلب لنفسك جيراناً توافقهم *** لا تصلح الدار حتى يصلح الجار

 

فإذا ابتلي الإنسان بجار سوء يؤذيه فعليه أن لا يرد الإساءة بمثلها، بل يردها بالصبر والعفو، والإحسان وبذل المعروف. يروى أن رجلاً جاء ابنَ مسعود -رضي الله عنه- فقال: "إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق علي، فقال: اذهب، فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه".

 

أيها المسلمون: إن الجوار الذي تعارف عليه الناس هو الجوار في المنزل الذي يعيش فيه الإنسان فحسب، وهذا مفهوم قاصر؛ فإن الجوار العام يشمل من يجاورك -أيها المسلم- في دارك، ومن يجاورك في العمل أو المتجر أو المسجد أو الطريق، وكل من يليك في البلدة التي تعيش فيها وما يجاورها، والدولة المسلمة وما يجاورها.

ويعتبر الجوار بين الدول مثل الجوار بين الأفراد حيث يطلب فيه الإحسان وعدم الاعتداء، وما قامت الحروب بين الدول المتجاورة إلا بسبب انتهاك حقوق الجوار.

 

عباد الله: إن للجار على جاره حقوقاً يجب الوفاء بها، وعدمُ التقصير فيها والتماطلِ في أدائها. ويتفاوت الجيران في استحقاق هذه الحقوق زيادة ونقصاناً؛ لاختلاف الروابط والعلاقات الزائدة على هذه الرابطة. فإن من الجيران من له حق، ومنهم من له حقان، ومنهم من له ثلاثة حقوق: فالأول: هو الجار الكافر، والثاني: هو الجار المسلم الذي ليس من الأقارب، والثالث: هو الجار المسلم القريب.

 

معشر المسلمين: إن أداء هذه الحقوق -الآتي ذكرها- لا يرتبط بصلاح الجار وعدم صلاحه؛ ولذلك تؤدى هذه الحقوق لجميع الجيران، فالجار يشمل: الجار المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والبلدي والغريب، والنافع والضار، والقريب والأجنبي. وللجوار مراتب فليؤدَّ لكل جارٍ حقُّه.

 

إخوتي الأفاضل: إن حقوق الجوار كثيرة متعددة، قد تختلف باختلاف الزمان والمكان والبيئة، ولكنها تعود إلى أصول جامعة تنضوي تحتها، ومن تلك الأصول: كف الأذى عن الجار بجميع صوره وأشكاله، سواء كان أذى قولياً أم أذى فعلياً، مباشراً أم غير مباشر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره"(رواه البخاري).

 

فمن الأذى: سلاطة اللسان بالسباب والشتائم والهمز واللمز، وهذا الأذى خطره على صاحبه كبير، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها؟ قال: "لا خير فيها، هي في النار" وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار-اللبن المجفف- وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي أحداً، قال: "هي في الجنة"(رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وهو صحيح).

 

الله أكبر! إنه فرق شاسع بين المرأتين، وجزاء شديد لمن يؤذي الجيران بلسانه، وإنْ أكثر من العمل الصالح، وإنه جزاء عظيم في الخير لمن أحسن المعاملة ولم يؤذِ الخلق، وإن قل عمله.

 

ومن الأذى: التعدي على أرض الجار وحدود بيته والسطو على ممتلكاته، وهذه صورة مشاهدة عند بعض الجيران أورثت أحقاداً ومشكلات وصلت إلى آثار خطيرة.

 

ولو تأمل الجار المتعدي- وكان عنده إيمان- في عقوبة ذلك لانكف عن هذا الأذى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طَوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين"(متفق عليه).

 

ومن الأذى: وضع القاذورات في طريقه ومضايقته فيها، وتسليط الزوجة أو الأولاد لإيذائه أو إيذاء أهل بيته، وإزعاجه بالأصوات المؤذية من أجهزة المسجل وغيرها.

 

ومن الأذى: هجره وقطعه، وحسده في نفسه أو زوجته وأولاده، أو في وسائل راحته، وسعة دنياه.

 

ومن الأذى: احتقاره والسخرية منه: بمأكله أو مشربه، أو ملبسه أو مسكنه، أو خَلقه أو خُلقه، قال حسان -رضي الله عنه-:

 

فما أحدٌ منا بمهدٍ لجار *** أذاةً ولا مُزرٍ به وهو عائد

لأنا نرى حقَ الجوار أمانة *** ويحفظه منا الكريم المعاهد

 

ومن الأذى: كشف أسراره، والبحث عن عيوبه، والفرح بزلاته ومصائبه؛ فالجار أقرب الناس إلى جاره وأعرفهم بأخباره، فمن اللؤم والحرمة كشف خبره وهتك سره، قال الحطيئة:

 

لعمرك ما المجاور من كليب *** بمقصى في الجوار ولا مضاع

همُ صُنعٌ لجارهمُ وليست *** يد الخرقاء مثلَ يد الصَّناع

ويحرم سرُّ جارهم عليهم *** ويأكل جارهم أنف القصاع

أي: أول الطعام.

 

والجار الصالح لا يتتبع عثرات جاره، بل يسترها، ولا يفرح لهفواته بل يحزن إن وصل علمه إليها، قال الشاعر:

لا يفطنون لعيب جارهمُ *** وهمُ لحفظ جواره فطُن

 

معشر المسلمين: إن إيذاء الجيران ذنب كبير يذهب من الإيمان جزء كبيراً، وإذا ذهب كمال الإيمان تعرّض صاحبه للعقوبات، وتخلى الله عن عونه ومعيته له، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"(متفق عليه).

 

فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا التكرار في نفي الإيمان عن الجار المؤذي.

 

بل أعظم من ذلك أن الجار المؤذي متوَّعَد بعدم دخول الجنة، إذا استمر على إيذائه، أو استحل ذلك، ومات على هذه الحالة السيئة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"(رواه مسلم)، والبوائق: الشرور.

 

فاتقِ أيها الجار في جيرانك، واحذر الأذية؛ فإنها إلى النار مطية.

 

أيها المسلمون: ومن حقوق الجار على جاره: حمايته من كل سوء يعرض له، والدفاع عنه، وحفظه في أهله وماله حال غيبته، والتضحية من أجله، في حدود المقدور عليه، ما عدا غير المستطاع.

 

وهذا الحق -إن كان من حق المسلم على المسلم- فالجار من أحق الناس به، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"(متفق عليه) فمعنى: "لا يسلمه" أي: لا يخذله، ولا يتركه لعدوه، بل ينصره وينجده.

وهذا الصنيع الشجاع يدل على شرف الجار المُعِين، وعلو همته ونجدته، وكرم شيمه وسمو أخلاقه. وقد كان هذا الخلق النبيل فخراً وشرفاً يفتخر به العربي في الجاهلية والإسلام، كما قال الشاعر:

وإني لأحمي الجارَ من كل ذلةٍ *** وأفرح بالضيف المقيم وأبهَج

 

وقالت الأخرى تمدح أخاها بحمايته جاره:

وجارك محفوظ منيعٌ بنجوة *** من الضيم لا يؤذى ولا يتذلل

 

وقالت:

يحامي عن الحيِّ يوم الحفا *** ظِ والجار والضيف والنُزَّل

 

وقال الشاعر:

أنتِ أختي وأنت حرمةُ جاري *** وحقيق عليَّ حفظُ الجوار

إن للجار إن تغيّب غيبياً *** حافظاً للمَغيب والأسرار

ما أبالي أكان للجار سترٌ *** مسبَل أم بقي بغير ستار

 

وهذا الحق الكبير-عند ذوي النفوس العلية، والخصال الزكية- لا يسقط بالجفاء والأذية، والفعال غير الرضيِّة، بل يبقى ليؤدى، ولعله سيكون سبباً لهداية ذلك الجار البعيد عن إحسان الجوار، وتغيير أسلوبه المعوج؛ فقد كان لأبي حنيفة -رحمه الله- جار بالكوفة يؤذيه بصوته ليلاً حينما يعود من عمله، ويرفع صوته منشداً وهو في حالة سُكر:

 

أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهةٍ وسِداد ثغر

 

فيسمع أبو حنيفة صوته، فاتفق ذات ليلة أن أخذه الحرس وحبسوه، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة، فسأل عنه في الغد فأخبروه بحبسه، فركب إلى أمير البلد، وطلب منه إطلاق الجار فأطلقه في الحال، فلما خرج الفتى دعاه أبو حنيفة، وقال له سراً: "فهل أضعناك يا فتى؟ قال: لا، ولكن أحسنت أحسن الله جزاءك، ولن أعود إلى ما كنت أفعل".

 

وإن من العجيب في حماية الجار ما فعله أحد العرب الذي نزل الجراد حول خبائه فمنع أحداً أن يصيده حتى طار وبعُد عنه.

 

عباد الله: ومن حقوق الجار على جاره: الإحسان إليه بكل ما يستطاع من وجوه الإحسان القولية والفعلية. فلا يكفي الجارَ أن يسلم من الأذى، وإنما يضاف إليه الإحسان وإيصال المعروف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره"(رواه مسلم)

 

قال حاتم الطائي لزوجته:

 

إذا كان لي شيئان يا أم مالك *** فإن لجاري منهما ما تخيّرا

وفي واحد إن لم يكن غير واحد *** أراه له أهلاً إذا كان مُقتِرا

 

ومن وجوه الإحسان إلى الجار: تهنئته عند فرحه، وتعزيته عند مصيبته، وعيادته عند مرضه، وبداءته بالسلام والبشاشة في وجهه، والإحسان إلى أهله وأولاده، وتفقد أحواله، وإرشاده إلى ما ينفعه في أمر دنياه و دينه, والإهداء إليه، وإعارته، أو إعطاؤه ما يحتاج إليه ونحو ذلك، ومن أهم ما يحسن إليه: سد خلّته، وتفقد مطعمه ومشربه؛ لأن قوام الحياة بذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك"(رواه مسلم).

 

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"(رواه أبو داود والترمذي ، وهو صحيح).

 

وينبغي النظر في مراتب الجيران وتقديم الأقرب فالأقرب، والأولى فالأولى في الإهداء وبذل المعروف، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك بابا"(رواه البخاري).

 

إخوتي الكرام: لا يحتقر أحدنا هديته لجاره مهما قلّتْ، فهي -وإن لم تكن تُسرُّ العيون، أو تشبع البطون، أو تناسب الأقدار- لكنها تقرِّب القلوب، وتذيب العداوات، وتعمّق الود، وتعمل على مد حبال التعاون والتواصل.

 

قال الشاعر:

إن الهدية حلوةٌ *** كالسحْر تجتذب القلوبا

تُدني البعيدَ عن الهوى *** حتى تصيّره قريبا

وتعيد مضطغن العدا *** وةِ بعد بغضته حبيبا

تنفي السخيمة عن ذوي الش *** شحنا وتمتحق الذنوبا

 

لقد ورد الوعيد -معشر المسلمين- في حق من يقصر في هذا الحق، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع"(رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به"(رواه الطبراني ، وإسناده حسن).

 

وعن ابن عمر قال: "لقد أتى علينا زمان وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه"(رواه البخاري في الأدب المفرد، وهو حسن).

 

وهذا النص الشريف -يا عباد الله- يحتم علينا مراجعة أنفسنا ها هنا في الدنيا قبل الآخرة في تقصيرنا في بذل المعروف الحسي والمعنوي للجار.

 

يقول حاتم الطائي لزوجته:

إذا ما عملت الزاد فالتمسي له *** أكيلاً فإني لست آكله وحدي

أخاً طارقاً أو جار بيت فإنني *** أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

وكيف يَسيغ المرء زاداً وجاره *** خفيف المِعى بادي الخصاصة والَجهد

 

أيها المسلمون: ومن حقوق الجار على جاره: احتمال أذاه، والصفح عن هفواته، والعفو عن عثراته، واحتمال سوء تصرفاته.

 

وهذا أدب عظيم يكشف عن حسن المعدن، وكرم المنبت، وشرف الخلق، ونبل الصفات.

 

وهذا الحق كثيراً ما قصّر فيه الجيران، وضاقت بعض النفوس عن استيعابه، وعدّته العادات شيئاً غريباً.

 

فكم من مشكلات حدثت، وروابط انفصمت، ومحبة تحولت إلى بغضاء، ووصل تبدل إلى جفاء، وإحسان تحول إلى إساءة، وسبب ذلك: ضعف مراعاة هذا الأدب.

 

فهذا الحق يحتاج إلى انتصار على النفوس، ونجاح في هضم الحمية المقيتة، وكبح لجماح الغضب والطيش، وهذا صعب على كثير من النفوس، خصوصاً من لها مكانة بين الجيران، أو جاءها الأذى ممن هو أدنى منزلة منها؛ ولهذا فإن هذا الحق أصعب الحقوق على النفوس؛ فبذل المعروف قد يكون شيمة يطبع عليها الإنسان، بخلاف الصبر على أذى الآخرين.

 

فالجار الصالح حقيقة إنما يبتلى بهذا الحق ويُعرف به، قال بعض الصالحين: "ليس حسن الجوار كف الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى".

 

وقال أحد الناس يمدح بعض جيرانه الصالحين:

يا سائلي عن حسينٍ *** وقد مضى أشكالهْ

أقلّ ما في حسين ** كفُّ الأذى واحتماله

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله؛ إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.

 

أما بعد: أيها المسلمون: إن من شقاء المرء أن يجاور جارَ سوء، والإنسان الصالح لا يضيق بشيء ذرعاً ضيقه بجار السوء الذي يسمع منه الخنا، ويلقى منه العناء، إن كلمه بالحسنى عاداه، وإن سكت على شره آذاه، عِيل صبُره، وضاق صدره، فاضطر إلى بيع داره، أو تحوّلَ عنه إلى سواه، خاصة في هذا الزمن الذي قلّت فيه المساكن وضاقت البيوت بمن فيها، فحين يرحل جار آذاه جاره، ويسأل عن سبب رحيله يقول:

 

يلومنني أن بعتُ بالرخص منزلي *** وما علموا جاراً هناك ينغّص

فقلت لهم كفوا الملامة إنها *** بجيرانها تغلو البيوت وترخص

 

أو يقول:

إذا ما الحرُّ هانَ بأرض قوم *** فليس عليه في هرب جُناح

وهُنَّا بأرضكمُ وصِرنا *** كقيء الأرض تذروه الرياح

 

وإن أراد أن يصرّح يقول:

تنكّرَ من كُنّا نُسَر بقُربه *** وعاد زعافاً بعد ما كان سَلسلا

وحُق لجار لم يوافقه جاره *** ولا لاءمته الدار أن يتحولا

 

ولضرر الجار السيء كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول"(رواه النسائي وابن حبان، وإسناده حسن).

 

ومعناه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من الجار السيء الملازم في الوطن المستقَر فيه، بخلاف الجار المؤذي الذي يبقى زمناً ثم يذهب كصاحب البادية ونحوه.

 

عباد الله: إن الجار الصالح حين يسمع برحيل جاره الصالح يحزنه ذلك أشد الحزن، ويعد رحيله من جواره مصيبة من المصائب، كأنما رحل واحد من أهل بيته، لما عزم بعض السلف على الرحلة إلى الشرق، وكان من بلاد المغرب، قال له أحدهم:

 

أشمسَ الغرب حقاً ما سمعنا *** أ بأنك قد سئمت من الإقامه

وأنك قد عزمت على طلوع *** إلى شرقٍ سموت به علامه

لقد زلزلتَ منّا كل قلب *** بحق الله لا تُقم القيامه

 

بهذه المشاعر الفياضة والحب الصادق يشبِّه رحيلَ جاره المغربي إلى المشرق بحصول علامة من علامات قيام الساعة وهي: طلوع الشمس من مغربها، كما أخبر سول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأين نحن اليوم من هذه المشاعر؟!

 

وأراد جار لأبي حمزة السكري -رحمه الله- أن يبيع داره، فقيل له: بكم؟ قال بألفين ثمن الدار، وبألفين جوار أبي حمزة.

 

وباع أحد السلف داره بمائة ألف درهم؟ ثم قال: "بكم تشترون جوار جاري فلان؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟! قال: ردوا علي داري، وخذوا مالكم، لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قرّبني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرّج عني. فبلغ ذلك جاره الذي مدحه بهذا الكلام فبعث إليه بمائة ألف درهم".

 

معاشر المسلمين: وبعد هذا: علينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نعاتب جيراننا، وأن نؤدي الحقوق التي علينا قبل أن نطلب حقوقنا.

 

فلنبدأ بأنفسنا، ولنحذر كل الحذر الإساءة إلى الجيران؛ فإن العاقبة وخيمة، والعقوبة أليمة، واللعنة تنتظر المؤذي، والذنب مضاعف، فلينتبه، فعن أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو جاره، قال: "اطرح متاعك على طريق" فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، لقيت من الناس ما لقيت، قال: "وما لقيت منهم؟” قال: يلعنونني، قال: "قد لعنك الله قبل الناس فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ارفع متاعك؛ فقد كفيت"(رواه الطبراني والبزار، وهو حسن).

 

وعن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أصحابه عن الزنا، قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فقال: "لأن يزني الرجل بِعَشْرِ نسوة أيسرُ عليه من أن يزني بامرأة جاره"، وسألهم عن السرقة، قالوا: حرام حرمها الله -عز وجل- ورسوله، فقال: "لأن يسرق من عَشرَةِ أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره"(رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الكبير، وهو صحيح).

 

فاتقوا الله -يا عباد الله- وأصلحوا ما بينكم اليوم قبل الوقوف بين يدي الله -تعالى-: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].

 

ثم صلوا وسلموا على خير البرية...

 

المرفقات

أدب الجوار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات