أدب الاختلاف في الإسلام

محمد كامل السيد رباح

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

من نعم الله على عبده ورعايته ­ سبحانه ­ أن يكشف له عن مدى ارتباط مذاهبه وأفكاره ومعتقداته بهوى نفسه، قبل أن تهوي به في مزالق الضلال، حتى يضيء المولى ­ سبحانه ­ مشاعل الإيمان في قلبه، فتكشف زيف تلك المذاهب أو الأفكار أو المعتقدات ذلك؛ لأن حسنها في نفسه لم ...

 

 

 

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله.

 

وبعد:

 

فإن أمراض المسلمين -في عصرنا هذا- قد تعددت وتشعبت وفشت؛ حتى شملت جوانب متعددة من شئونهم الدينية والدنيوية.

 

ومن العجب أن الأمة المسلمة لا تزال على قيد الحياة، لم تصب منها تلك الأدواء -بحمد الله- مقتلاً على كثرتها وخطورتها، وكان بعضها كفيلاً بإبادة أمم وشعوب لم تغن عنها كثرتها ولا وفرة مواردها.

 

ولعل مرد نجاة هذه الامة إلى هذا اليوم رغم ضعفها هو وجود كتاب الله ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- بين ظهرانيها، ثم دعوة نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم-، واستغفار الصالحين من أبنائها: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33].

 

وإن من أخطر ما أصيبت به هذه الأمة في الآونة الأخيرة: مرض الاختلاف.

 

الاختلاف في كل شيء، وعلى كل شيء، حتي شمل العقائد والأفكار والتصورات والآراء؛ إلى جانب الأذواق والتصرفات والسلوك والأخلاق، وتعدى الاختلاف كل ذلك حتى بلغ أساليب الفقه، وفروض العبادات، وكأن كل ما لدى هذه الأمة من أوامر ونواة يحثها على الاختلاف أو يدفعها إليه، والأمر عكس ذلك تماماً فإن كتاب الله وسنة رسوله ما حرصا على شيء بعد التوحيد حرصهما على تأكيد وحدة الأمة، ونبذ الاختلاف بين أبنائها، ومعالجة كل شيء من شأنه أن يعكر صفو العلاقة بين المسلمين، أو يخدش أخوة المؤمنين.

 

ولعل مبادئ الإسلام ما حضت على شئي حضها علي الوحدة والائتلاف بين المسلمين؛ وأوامر الله ورسوله واضحة في دعوتها لإيجاد الأمة التي تكون كالجسد الواحد إذا اشتكي بعضه أصابه الوهن كله.

 

حقيقة الاختلاف:

 

الاختلاف والخلاف

 

الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله.

 

والخلاف أعم من "الضد"؛ لأن كل ضدين مختلفان، وليس كلُّ مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: (فاخْتَلفَ الأحْزابُ مِنْ بينِهم… )[مريم:37].

 

(وَلا يزَالُون مُخْتلِفين) [هود:118]

 

(إنَّكُم لفِي قولٍ مُخْتلِف) [الذاريات:8].

 

(إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بينهم يوْم القِيامةِ فيما كانوا فيهِ يخْتلِفون) [يونس:93].

 

وعلى هذا يمكن القول بأن "الخلاف والاختلاف " يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.

 

أقسام الخلاف من حيث الدوافع:

 

1­ خلاف أملاه الهوى: قد يكون الخلاف وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه.

 

وهذا النوع من الخلاف مذموم بكل أشكاله ومختلف صوره؛ لأن حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق, والهوى لا يأتي بخير فهو مطية الشيطان إلى الكفر، قال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)[البقرة 87].

 

وبالهوى جانب العدل مَن جانبه مِن الظالمين.

 

(فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)[النساء 135].

 

وبالهوى ضل وانحرف الضالون.

 

(قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)[الأنعام: 56].

 

والهوى ضد العلم ونقيضه، وغريم الحق، ورديف الفساد، وسبيل الضلال: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[ص: 26].

 

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)[المؤمنون: 71].

 

(وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)[الأنعام"116].

 

وأنواع الهوى متعددة، وموارده متشعبة، وإن كانت في مجموعها ترجع إلى "هوى النفس وحب الذات" فهذا الهوى منبت كثير من الأخطاء، وحشد من الانحرافات، ولا يقع إنسان في شباكه حتى يزين له كل ما من شأنه الانحراف عن الحق، والاسترسال في سبيل الضلال، حتى يغدو الحق باطلا، والباطل حقا، والعياذ بالله.

 

ويمكن رد خلاف أهل الملل والنحل ودعاة البدع في دين الله –تعالى- إلى آفة الهوى.

 

ومن نعم الله على عبده ورعايته ­ سبحانه ­ أن يكشف له عن مدى ارتباط مذاهبه وأفكاره ومعتقداته بهوى نفسه، قبل أن تهوي به في مزالق الضلال، حتى يضيء المولى ­ سبحانه ­ مشاعل الإيمان في قلبه، فتكشف زيف تلك المذاهب أو الأفكار أو المعتقدات ذلك؛ لأن حسنها في نفسه لم يكن له وجود حقيقي، بل هو وجود ذهني أو خيالي أو صوري صوره الهوى وزينه في النفس، ولو كان قبيحا في واقعه أو لا وجود له إلا في ذهن المبتلى به.

 

ولاكتشاف تأثير الهوى في فكرة ما طرق كثيرة: بعضها خارجي وبعضها ذاتي.

 

أ - فالطرق الخارجية لاكتشاف أن الهوى وراء الفكرة ­ موضع الاختلاف ­ أن تكون مناقضة لصريح الوحي من كتاب وسنة، ولا ينتظر ممن يزعم في نفسه الحرص على الحق أن يلهث وراء فكرة تناقض كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

 

ومما يكشف كون الفكرة وليدة الهوى: تصادمها مع مقتضيات العقول السليمة التي يقبل الناس الاحتكام اليها ففكرة تدعو إلى عبادة غير الله أو تحكيم غير شريعته في حياة الناس وفكرة تدعو إلى إباحة الزنا أو تزيين الكذب أو تحض على التبذير لا يمكن أن يكون لها مصدر غير الهوى ولا يدعو لها إلا من بيد الشيطان زمامه.

 

ب ­ أما الطرق الذاتية لاكتشاف ما إذا كان الهوى محضن الفكرة، فتكون بنوع من التأمل والتدبر في مصدر تلك الفكرة، ومساءلة النفس بصدق حول سبب تبنيها لتلك الفكرة دون غيرها، وما تأثير الظروف المحيطة بصاحب الفكرة ومدى ثباته عليها إن تبدلت؟ وهل هناك من ضغوط وجهت المسار دونما شعور؟ ثم الغوص في أعماق الفكرة نفسها، فإن كانت قلقة غير ثابتة، تتذبذب بين القوة والضعف تبعاً لمشاعر معينة، فاعلم أنها وليدة الهوى ونزغ من الشيطان، فاستعذ بالله السميع العليم، وأحمده على أن بصرك بالحقيقة قبل أن يسلسل قيادك لهوى النفس.

 

2- خلاف أملاه الحق: قد يقع الخلاف دون أن يكون للنفس فيه حظ أو للهوى عليه سلطان فهذا خلاف أملاه الحق، ودفع إليه العلم واقتضاه العقل، فمخالفة أهل الإيمان لأهل الكفر والشرك والنفاق خلاف وواجب لا يمكن لمؤمن مسلم أن يتخلى عنه، أو يدعو لإزالته لأنه خلاف سداه الإيمان ولحمته الحق.

 

وكذلك اختلاف المسلم مع أهل العقائد الكافرة والملحدة، كاليهودية والنصرانية والوثنية والشيوعية، ولكن الاختلاف مع أهل تلك الملل وهذه العقائد لا يمنع من الدعوة إلى إزالة أسبابه بدخول الناس في دين الله أفواجا وتخليهم عن دواعي الخلاف من الكفر والشرك والشقاق والنفاق وسوء الاخلاف والإلحاد والبدع والترويج للعقائد الهدامة.

 

3­ خلاف يتردد بين المدح والذم: ولا يتمحض لأحدهما، وهو خلاف في أمور فرعية تتردد أحكامها بين احتمالات متعددة يترجح بعضها على بعضها الآخر بمرجحات وأسباب سنأتي على ذكرها ­ إن شاء الله ­.

 

ومن أمثلة هذا التقسيم: اختلاف العلماء في انتقاض الوضوء من الدم الخارج من الجرح، والقيء المتعمد، واختلافهم في حكم القراءة خلف الإمام، وقراءة البسملة قبل الفاتحةن والجهر بـ "آمين"، وغير ذلك من أمثلة تضيق عن الحصر.

 

وهذا النوع من الاختلاف مزلة الأقدام، إذ يمكن فيه أن يلتبس الهوى بالتقوى، والعلم بالظن والراجح بالمرجوح والمردود بالمقبول، ولا سبيل إلى تحاشي الوقوع في تلك المزالق إلا باتباع قواعد يحتكم اليها في الاختلاف، وضوابط تنظمه، وآداب تهيمن عليه، وإلاّ تحول إلى شقاق وتنازع وفشل، وهبط المختلفان فيه عن مقام التقوى إلى درك الهوى، وسادت الفوضى، وذر الشيطان قرن.

 

آداب عامة ينبغي للمختلفين أن يراعوها

 

1- العذر بالجهل:

 

يقول ابن تيمية: وكثير من المؤمنين قد يجهل هذا فلا يكون كافرا ( 11-411).

 

وفي حديث ابن ماجة عن حذيفة: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة, وليسري على كتاب الله -عز وجل- في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية, وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها, فيقول صلة بن زفر لحذيفة راوي الحديث: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة, ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار، ثلاثاً " [رواه الحاكم].

 

وقد وقع في الديار الشيوعية وأيام سقوط الأندلس أشياء من هذا القبيل -والله المستعان-.

 

2 – العذر بالاجتهاد:

 

يقول ابن تيمية: أعذار الأئمة في الاجتهاد فليس أحد منهم يخالف حديثاً صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عمداً فلا بد له من عذر في تركه, مضيفاً: وجميع الأعذار ثلاثة أصناف أحدها: عدم اعتقاده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ ( 20- 232 ).

 

وعذر المقلد من نوع عذر الجاهل يقول ابن عبد البر: ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها [جامع بيان العلم وفضله].

 

ويقول ابن تيمية: وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور 19 – 262).

 

ويقول ابن القيم: فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال.

 

3- العذر باختلاف العلماء:

 

عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم: إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على مَن عمل فيها مجتهداً أو مقلداً [إعلام الموقعين 3 – 365)].

 

ويقول العز بن عبد السلام: مَن أتى شيئاً مختلفاً في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفاً [قواعد الأحكام 1-109)].

 

قال إمام الحرمين: ثم ليس للمجتهد أن يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موقع الخلاف إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا, ومن قال إن المصيب واحد فهو غير متعين عنده فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين [الإرشاد، ص 312)].

 

4- الرفق في التعامل:

 

والرفق أصل من أصول الدعوة ومبدأ من مبادئ الشريعة ففي حديث الرجل الذي بال في المسجد وزجره أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فنهاهم عليه الصلاة والسلام قائلاً: لا تزمروه –أي لا تقطعوا بوله– وأتبعوه ذنوباً من ماء, وقال للرجل: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات.

 

وحديث خوات بن جبير -رضي الله عنه- حين رآه مع نسوة، فقال: ماذا تبغي هاهنا؟ قال: ألتمس بعيراً لي شاردا، ثم حسن إسلامه وخلصت توبته، فمازحه عليه الصلاة والسلام قائلا: ماذا فعل بعيرك الشارد؟ قال: قيده الإسلام يا رسول الله.

 

وحديث الأعرابي الذي أعطاه، فقال له: أحسنت عليك، فقال كلاماً غير لائق فهم به الصحابة، فنهاهم عليه الصلاة والسلام، وأدخله في البيت فأعطاه ثم خرج به, وقال: هل أحسنت؟ فقال: أحسنت علي وفعلت وفعلت, فضحك عليه الصلاة والسلام, وضرب مثلاً بصاحب الراحلة الشاردة.

 

5- أن لا يتكلم بغير علم:

 

 قال تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36].

 

لا بد من الإحاطة بما في المسألة قبل أن تخالف.

 

قل للذي يدعى علمـا ومـعـرفة *** عـلمت شيئـا وغابت عنك أشـيـاء

فالعلم ذو كثــرة في الصحف منتشر *** وأنت يا خل لم تستكمل الصحفا

 

6- أدب مراعاة المصالح الشرعية في الإنكار:

 

فإذا كان النهي سيؤدي إلى مفسدة أكبر أو سيضيع مصلحة أعظم فلا نهي ولا أمر، ويفصل ابن تيمية ذلك في الفتاوى (20/58)

 

ولو كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه ( 14/472).

 

فحيث كانت المفسدة للأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجباً وفعل محرماً، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله وليس عليه هداهم[الاستقامة (2/211)].

 

وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون، فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليه آخرون إنكاراً منهياً عنه فيكون ذلك من ذنوبهم فيحصل التفرق والاختلاف.

 

بعض فوائد الاختلاف المقبول:

 

وكما أسلفنا فإنه إذا التزمت حدود الاختلاف، وتأدب الناس بآدابه كان له بعض ‏الإيجابيات منها:

 

‏1- أنه يتيح - إذا صدقت النوايا - التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون ‏الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة.

 

‏2- وفي الاختلاف - بالوصف الذي ذكرناه - رياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح ‏مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها.

 

‏3- تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة، ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه، ‏بما يتناسب ويسر هذا الدين الذي يتعامل مع الناس من واقع حياتهم.

 

4- إكساب الأفراد الثقة بالنفس والقدرة علي المواجهة وإيجاد الحلول.

 

5- الاختلاف في الرأي رحمة؛ لأنه من المستحيل حمل الناس على رأي واحد.

 

تلك الفوائد وغيرها يمكن أن تتحقق إذا بقي الاختلاف ضمن الحدود والآداب التي يجب ‏الحرص عليها ومراعاتها، ولكنه إذا جاوز حدوده، ولم تراع آدابه فتحول إلى جدال ‏وشقاق كان ظاهرة سلبية سيئة العواقب، تحدث شرخاً في الأمة - وفيها ما يكفيها - ‏فيتحول الاختلاف من ظاهرة بناء إلى معاول للهدم.

 

الأعراض السيئة للاختلاف:

 

1- تشتيت الوقت والجهد والمال.

 

2- الخلاف ينتج عنه خلاف جديد.

 

3- يضر بالصحة لكلا الطرفين.

 

4- يدفع للتدمير والسرقة والكذب.

 

5- تغيير المعلومات.

 

تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه من الاختلاف:

 

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدرك أن بقاء هذه الأمة رهين بتآلف القلوب التي التقت على الحب في الله، وأن حتفها في تناحر قلوبها لذلك كان عليه الصلاة والسلام يحذر من أن يذر الخلاف قرنه فيقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم".

 

وكان كرام الصحابة رضوان الله عليهم يرون أن الخلاف لا يأتي بخير كما في قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الخلاف شر".

 

لذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتث بذرة الخلاف قبل أن تتنامى عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: هجّرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف في وجهه الغضب، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".

 

وعن النزال بن سبرة قال: سمعت عبدالله بن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كلاهما محسن" قال شعبة: أظنه قال: "لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا".

 

فهنا يعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة ومن يأتي بعدهم عواقب الاختلاف ويحذرهم منه.

 

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم الصحابة -رضوان الله عليهم- أدباً هاماً من آداب الاختلاف في قراءة القرآن خاصة، فيقول في الحديث الصحيح: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا".

 

فيندبهم عليه الصلاة والسلام للقيام عن القرآن العظيم إذا اختلفوا في بعض أحرف القراءة أو في المعاني المرادة من الآيات الكريمة حتى تهدأ النفوس والقلوب والخواطر، وتنتفي دواعي الحدة في الجدال المؤدية إلى المنازعة والشقاق، أما إذا ائتلفت القلوب وسيطرت الرغبة المخلصة في الفهم فعليهم أن يواصلوا القراءة والتدبر والتفكير في آيات الكتاب.

 

ونرى كذلك أن القرآن الكريم كان ­ أحيانا ­ يتولى التنبيه على "أدب الاختلاف" حين يقع بين الصحابة رضوان الله عليهم، فعن عبدالله بن الزبير قال: "كاد الخيّران أن يهلكا ­ أبو وبكر وعمر -رضي الله عنهما-رفعا أصواتهما عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر بالقعقاع بن معبد بن زرارة، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله –تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2]. قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه".

 

معالم أدب الاختلاف في عصر النبوة:

 

نستطيع على ضوء ما سبق أن نلخص معالم "أدب الاختلاف" في هذا العصر بما يلي:

 

1­ كان الصحابة رضوان الله عليهم يحاولون ألا يختلفوا ما أمكن فلم يكونوا يكثرون من المسائل والتفريعات، بل يعالجون ما يقع من النوازل في ظلال هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعالجة الأمر الواقع ­ عادة ­ لا تتيح فرصة كبيرة للجدل فضلا عن التنازع والشقاق.

 

2­ إذا وقع الاختلاف رغم محاولات تحاشيه سارعوا في ردّ الأمر المختلف فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسرعان ما يرتفع الخلاف.

 

3­ سرعة خضوعهم والتزامهم بحكم الله ورسوله وتسليمهم التام الكامل به.

 

4­ تصويب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمختلفين في كثير من الأمور التي تحتمل التأويل، ولدى كل منهم شعور بأن ما ذهب إليه أخوه يحتمل الصواب كالذي يراه لنفسه، وهذا الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين لأخيه، والبعد عن التعصب للرأي.

 

5­ الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من شأنه أن يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين حيث لا يهم أي منهما أن تظهر الحقيقة على لسان أو على لسان أخيه.

 

6­ التزامهم بآداب الإسلام من انتقاء أطايب الكلم وتجنب الألفاظ الجارحة بين المختلفين مع حسن استماع كل منهما للآخر.

 

7­ تنزههم عن المماراة ما أمكن، وبذلهم أقصى أنواع الجهد في موضوع البحث، مما يعطي لرأي كل من المختلفين صفة الجد والاحترام من الطرف الآخر، ويدفع المخالف لقبوله أو محاولة تقديم الرأي الأفضل منه.

 

تلك هي أبرز معالم "أدب الاختلاف" التي يمكن إيرادها، استخلصناها من وقائع الاختلاف التي ظهرت في عصر الرسالة.

 

سبيل النجاة:

 

والآن وقد شخص الداء الذي تعاني الأمة منه، فلعل فيما يأتي شيئاً من علاج:

 

أولا: إن على المسلمين المخلصين الذين يعملون في حقل الدعوة الإسلامية، ويعيشون واقع مأساة الأمة وحقيقتها أن يختاروا مجموعة من أذكى أبناء الأمة وأنبه شبابها، ويهيؤوا لهم أفضل السبل لدراسة علوم الشريعة على أيدي هذه القلة القليلة والبقية الباقية من علماء الشريعة الذين يجمعون بين العلم والقدوة الحسنة والتقوى والفكر السليم والإدراك القويم لغايات الإسلام ومقاصده وكلياته والفقه في علومه، وأن يتخذوا من أسلوب التربية النبوية منهجاً لهم، ويعضد هؤلاء الشباب فئة أخرى تمكنت من العلوم العصرية المختلفة ممن يرى فيهم أنهم على قدر كبير من الإخلاص والتقوى، لعل هؤلاء وأولئك بعد ذلك أن يوجهوا المسيرة ويرشدوا الصحوة ويسددوا خطاها، فتستعيد الأمة عافيتها، وتستأنف دورها القيادي للبشرية التي تدنو من الهاوية يوماً بعد يوم، ولا نجاة لها إلا في الإسلام.

 

ثانيا: تعديل مسار الفكر لدى المسلمين، بحيث تعالج الأزمة الفكرية التي يعيشها المسلمون اليوم، ولا يدرك إلاّ القلائل أبعادها، هذه الأزمة التي تبرز بوضوح من خلال انهيار مؤسسات الأمة، وانعدام منظماتها وتدني مستوى الوعي والمعرفة والتربية في أبنائها، وتفكك علاقاتها وانحراف الكثرة الغالبة من قياداتها، وإحباط المحاولات الخيرة للنخبة الصالحة من أبنائها، كل ذلك لأن الإسلام أقصي عن حياة الأمة، وغدت الهوة عميقة بين مثل الإسلام وبين جماعات بشرية ترى الإسلام سحابة في السماء لا تمطر ولا تحيي الموات، أو ماء على صخرة ملساء لا ينبت زرعاً ولا كلأ، حيث القلوب غلظت وعلاها الران، والعيون عمشت فما عادت تفرق بين خير وشر.

 

إن المؤسسات التعليمية المختلفة قد أخفقت في أن تقدم للأمة الإنسان المسلم السوي، فالجامعات التي أقيمت على النمط الغربي في بلاد المسلمين، لم تر أن من مهمتها إعداد العالم المسلم في سائر فروع المعرفة والذي يقوى على أسلمة جميع المعارف والعلوم على يديه، بل رأت أن مهمتها: إعداد المتعلم المفتون بعلوم الغرب وفنونه، والذي سرعان ما يدير ظهره لعقيدة الأمة وأهدافها وغاياتها في الحياة.

 

فخرجت تلك الجامعات أجيالاً ضعيفة في انتمائها، مرتبكة في علاقاتها، مضطربة في تفكيرها، عاجزة عن تسخير معارفها لخدمة الأمة.

 

وأما المؤسسات التعليمية التي أضيفت عليها الصبغة الشرعية، كالأزهر والجامعات المماثلة له، أو الكليات والمعاهد المشابهة لكلياته ومعاهده فهي وإن نجحت بشكل محدود في أن تقدم للأمة بعض المتخصصين الجيدين في بعض العلوم الشرعية، إلا أنها عجزت عن أن تقدم للأمة علماء مسلمين قادة ومفكرين ومجددين يستطيعون أن يقدموا الإسلام للأمة من خلال كلياته وغاياته ومقاصده، ويواجهوا التحديات المعاصرة، وينتصروا عليها، ولذلك انحسر الفكر الإسلامي، ولم يعد هو المهيمن على حياة المسلمين وتفكيرهم، وانفتحت عقول المسلمين وقلوبهم لكل ألوان الفكر المغاير للإسلام، ووقف المسلمون عاجزين عن معالجة قضاياهم في مجالات السياسة والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي وغيرها، ناقلين نقلاً مشوهاً كل ما يرونه لدى الآخرين، وفتكت الصراعات المختلفة بين المتعلمين من أبناء الأمة في سائر مقوماتها، هذه الصراعات التي كانت تحسم في الكثير الغالب لصالح الفريق المتأثر بالغرب، المفتون بثقاته، وبدلاً من أن توحد الطليعة المؤمنة صفوفها وتعمل على مواجهة هذه التحديات شغلت ­ للأسف ­ بصراعات وقضايا خلافية، وذلك لاختلاط الجزئيات بالكليات والمقاصد بالمبادئ في أذهان الكثيرين من أبنائها.

 

إننا بحاجة ماسة إلى الفكر الإسلامي السليم القائم على فهم روح الإسلام وغاياته وقواعده الكلية، ومراتب أحكامه من خلال مصدريه العظيمين: الكتاب الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

كما نحتاج إلى دراسة سبل السلف الصالح في تعامله مع هذه المصادر خلال القرون الخيّرة، وأساليب فهمهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لنتمكن من إعادة طرح التصورات والحلول الإسلامية لما تعاني منه الأمة بشكل يجعلها على يقين تام أن الإسلام هو السبيل الأوحد لإنقاذها، وفيه الأمثل لجميع مشكلاتها، هذا اليقين الذي يحمل الأمة على الالتفاف حول أسس الفكر الإسلامي بوعي وإدراك يحول بينها وبين الشياطين أن تجتالها، فإذا ثبت الأمة إلى رشدها، ووضعت يدها على الجرح، وعرفت موطن الداء لابد لها بعد ذلك أن تتبين الخطوات التي يجب أن تسلكها للوصول إلى الدواء وتحقيق الهدف، وما ذلك عنها ببعيد.

 

والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات