اقتباس
غير أن الهدف السري لهذه المليشيات الإيرانية يبدو أنه أكبر مما هو معلن ومتداول، وعين إيران وطموحاتها يبدو أنها ترمي لما هو أهم وأخطر، وأن دخول المليشيات الإيرانية في سوريا هو حلقة من حلقات هذا المشروع الخطير؛ عين إيران على البحر المتوسط. فالميليشيات التي تسيطر عليها طهران تستعدَ لاستكمال ممر بري من شأنه أن يمنح إيران قوة كبيرة في المنطقة، وسوف تكون إيران قادرة على تحريك ميلشياتها وإمداداتها بين البحر
الإيرانيون صانعو سجاد ! وقد علمتهم صنعتهم الصبر والتؤدة، فصانع السجاد يمكث الشهور وربما السنين من أجل إخراج قطعة سجاد واحدة ولكنها في النهاية تكون صفقة رابحة جداً لصانعها، يبيعها ويساوم عليها بأغلى الأثمان. وقد نقل الإيرانيون خبراتهم في صنع السجاد إلى عالم السياسة والمناورة والعلاقات الإقليمية والدولية. وقد أثبتت تداخلاتهم العسكرية والسياسية في العراق ثم سوريا صبرهم الكبير من أجل تحقيق أهدافهم الاستراتيجية.
إيران جيوبوليتكياً:
تمتلك إيران من الناحية الجيوبوليتيكية، مقومات وعناصر قوة كبيرة، حيث تبلغ مساحة إيران 1.648.000 كيلومتر مربع، وهي تعتبر حسب تصنيف "باوندز" من الدول الكبيرة جدًا، حيث يبلغ طول حدودها البرية 2450 كم، وطول حدودها البحرية 2500 كم، ومن الملاحظ هنا أن إيران تتعادل طول حدودها البرية مع حدودها البحرية، وهذا يكشف أسباب اهتمامها في تطوير قدرات قواتها البحرية والبرية بشكل ملموس. وتشترك مع إيران في حدودها سبع دول هي: (باكستان - أفغانستان - العراق - تركمانستان - أذربيجان - أرمينيا - تركيا)
أما من الناحية الجيوإستراتيجية تشترك إيران مع سلطنة عمان في التحكم بمضيق هرمز، وتكمن أهمية المضيق الاستراتيجية للغرب بنقل 40% من النفط إلى دول العالم، كذلك تطل إيران على بحر قزوين الغني بالنفط والغاز الطبيعي، ويجعل إيران لها نفوذ في أسيا الوسطى، وهذا ما يفسر العلاقات الجيدة بين إيران وروسيا، بالإضافة إلى تمدد النفوذ الإيراني للسيطرة على مضيق باب المندب بعد انقلاب الحوثيين وسيطرتهم على العديد من المحافظات اليمنية، ونجاح طهران من التغلغل في منطقة أفريقيا وتحديدًا في إريتريا التي تطل من الناحية الجنوبية على مضيق باب المندب، وتملك طهران قاعدة عسكرية بحرية بها؛ ما عزز الطموح الإيراني بالهيمنة على المنطقة وتهديد خطوط الملاحة في قناة السويس متى شاءت إيران، إلا أن عاصفة الحزم فرملت كل المشاريع الإمبراطورية الإيرانية.
تركيا وإيران والعسكرية غير المتوازية:
تتمتع تركيا بقوة عسكرية تقليدية تفوق الإيرانيين، وهي القوة التي ورثتها عن العثمانيين، لاسيما القوة البحرية التي تُهيمن على شرق المتوسط، وتُعَد العامل الرئيسي للتوازن الغربي مع روسيا في البحر الأسود، ولم تسلم فقط تركيا من التفكك الذي لحق بالبلدان المُستعمَرة في المنطقة، بل واستفادت من عضويتها بحلف الناتو، الذي انضمت له عام 1952، لتعزيز وتحديث قوتها بشكل كبير، وحماية أراضيها من الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة، ومن أي خطر إيراني أثناء سنوات التوتر مع إيران إبان الثورة.
غير أن نقطة الضعف الرئيسية لتركيا عسكريًا أمام إيران، لاسيما مع تطور الأحداث الجارية في الشام مؤخرًا، وبالنظر لحداثة الدور التركي في المنطقة، والذي لم يكن موجودًا قبل 2002، هي غياب الخبرة في التعامل مع القوى غير المتوازية، مثل الميليشيات والجماعات المسلحة، سواء الصديقة منها التي تحتاج إلى دعم بشكل معين، كما تفعل إيران مع حزب الله، أو العدوة منها والتي لا تجدي معها الوسائل العسكرية التقليدية، كما أدركت منذ زمن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
أما إيران فرغم تفوقها العددي عسكرياً إلا إنها متخلفة تقنياً عن الجيش التركي بمراحل، وتكمن قوة إيران في أذرعها العسكرية غير المباشرة عبر عشرات المليشيات والوكلاء المحليين المنتشرين في دول المنطقة، ويخوضون حرباً بالوكالة عن حكومة طهران، وتُعتبر القوى غير المتوازية العامود الفقري للدور الإيراني في المنطقة، بدءًا من جنوب العراق وحتى لبنان، بل وامتدادًا أيضًا إلى غرب أفغانستان، حيث تستثمر إيران في الأسلحة والذخائر "الصغيرة" التي تستخدمها الميليشيات والجماعات المسلحة، وتزود بها حلفائها في المنطقة لبث نفوذها ومواجهة أعدائها بشكل غير مباشر.
مخطط إيران الشيطاني:
لاشك أن سقوط العراق الذي كان يمثل البوابة الشرقية أمام الأطماع الإيرانية الشيعية في المنطقة العربية كان نقلة هائلة على طريق إقامة إيران الكبرى وتصدير مبادئ الثورة الخومينية. فمع دخول الاحتلال الصليبي الأمريكي لبغداد سنة 2003 انساح الحرس الثوري الإيراني في بلاد الرافدين بحثاً عن تأسيس أكبر تغيير ديمغرافي واستراتيجي في تاريخ المنطقة في العصر الحديث.
فأكثر من خمسين مليشيا عسكرية تابعة لإيران تعمل على الأرض في العراق وسوريا من أجل تنفيذ مخطط إيران الكبرى، وتطويق العالم الإسلامي عموما والسعودية خصوصاً من الجهات الأربع. أبرزها: فيلق بدر: الذي تأسس في طهران عام 1981 من قِبل المجلس الأعلى الإسلامي العراقي على يد محمد باقر الحكيم الذي اُغتيل في العراق عام 2003، ويتزعمه حاليًا هادي العامري، نائب في البرلمان ووزير النقل ومسؤول ملف ديالى الأمني وقائد عمليات الزحف على المحافظات. ومنها جيش المهدي: تأسس في 2003 وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ويُعد الجناح المسلح للتيار الصدري، ويتزعمه مقتدى الصدر، نشط في الأحداث الطائفية التي مر بها العراق عام 2006 واُتهم بأنه مارس القتل على الهوية، واستهدف الأئمة والخطباء والمساجد في بغداد وغيرها. ومنها لواء أبو الفضل العباس: تأسس عام 2011 بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، وأعلن عن تأسيسه المرجع الشيعي قاسم الطائي ويقوده علاء الكعبي، وكان الهدف من تأسيسه هو مساعدة النظام السوري والدفاع عن مرقد السيدة زينب بدمشق وحمايته. أما التطور الأبرز الذي ظهر على الساحة العراقية في هذا الإطار العسكري المليشياوي هو "الحشد الشعبي" الذي تشكل في 13 يونيو 2014 بعد فتوى "الجهاد الكفائي" التي أطلقها المرجع الشيعي علي السيستاني، بعد سيطرة قوات "تنظيم الدولة" على محافظة نينوى. فقد اعتبرت كل الفصائل والأحزاب الشيعية "الحشد الشعبي" مؤسسة عليا ينضوي الجميع فيها، وأنها تمثل توجهًا شيعيًا مسلحًا، ولهذا فإن أعضاء "الحشد الشعبي" انقسموا إلى فئتين:
الأولى: هي الفصائل الكبيرة والمنظمة مثل كتائب "حزب الله وسرايا السلام ومنظمة بدر وغيرهم، وهؤلاء في معظمهم مدربين ويملكون خبرة قتالية متراكمة. الثانية: هم من استجابوا "لنداء المرجعية" من الشباب وكبار السن، وهؤلاء في غالبهم لا يُجيدون القتال وليس لديهم خبرة عسكرية، ويعدون المحرقة الرئيسية في القتال مقابل "تنظيم الدولة"، ويقدر عدد مقاتلي الحشد الشعبي بين 350 - 400 ألف مقاتلاً. هذه القوة الجرارة قد تحولت رسمياً إلى مؤسسة رسمية منضوية تحت لواء الجيش العراقي، أو بالأحرى هي نفسها قد أصبحت الجيش الإيراني في العراق.
ماذا تفعل مليشيات إيران في سوريا ؟!
لم يكن قاسم سليماني القائد الأعلى للمليشيات الإيرانية المنتشرة في العراق وسوريا مبالغاً عندما قال " إذا سقطت دمشق، ستسقط طهران " فأهمية سوريا الجيوإستراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة لإيران ومخططاتها التوسعية، فإيران ترى في سوريا العمق الاستراتيجي الخطير الذي سيمكنها من تطويق العالم الإسلامي، ويأمنها من تصدير مبادئ الثورة الخومينية، وترى في الأسد حليفاً وتابعاً وفياً لا يشك في إخلاصه، وكيف لا ؟! ووحدة المعتقد والمصير يجمع الطرفان.
مليشيات إيران في سوريا تختلف عن نظيرتها في العراق من حيث التركيبة والحركية، فهي خليط من غلاة متطرفين طائفيين، تم جلبهم من أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان واليمن، من أجل منع انهيار نظام الأسد الهزيل، وتدعيم جيشه المتداعي، هذه الميلشيات شكلت تحالفا بريا متطورا عزَز النفوذ الإيراني في سوريا، بما يُنذر بالخطر حتى على نظام الأسد نفسه، فهم يبنون قوة على الأرض سوف تمارس تأثيرا عسكريا وإيديولوجيا قويا في سوريا لصالح إيران، وليس هناك الكثير للأسد يمكنه القيام به للحدَ من النفوذ المتزايد لهذه الجماعات، رغم أن المسؤولين السوريين قلقون بشكل واضح حول هذا، لكنهم لن يستطيعوا تقييدهم، فهم يقاتلون لمنع إسقاط نظامهم.
غير أن الهدف السري لهذه المليشيات الإيرانية يبدو أنه أكبر مما هو معلن ومتداول، وعين إيران وطموحاتها يبدو أنها ترمي لما هو أهم وأخطر، وأن دخول المليشيات الإيرانية في سوريا هو حلقة من حلقات هذا المشروع الخطير؛ عين إيران على البحر المتوسط. فالميليشيات التي تسيطر عليها طهران تستعدَ لاستكمال ممر بري من شأنه أن يمنح إيران قوة كبيرة في المنطقة، وسوف تكون إيران قادرة على تحريك ميلشياتها وإمداداتها بين البحر المتوسط ??وطهران وقتما تريد، وسوف تفعل ذلك على طول الطرق الآمنة التي يجري تأمينها من قبل جنودها أو وكلائها.
المخطط الإيراني لفتح ممر بري يمتد من إيران سوريا مروراً بالعراق لينتهي على منفذ بحري على البحر المتوسط يعود لبداية سقوط العراق سنة 2003، الممر البري هو طريق معقد يقطع العراق العربي، من خلال الشمال الكردي، إلى مناطق الأكراد في الشمال الشرقي لسوريا ويمتد إلى ساحات القتال شمال حلب، حيث تنتشر قوات إيرانية وحلفائها على الأرض. وجرى ربط هذا الشريط رغم أنف الصديق والعدو، وبالأخص تركيا التي عارضت هذه الخطة، متخوفة مما يعنيه مثل هذا التطور بالنسبة لعلاقة إيران مع حزب العمال الكردستاني، وكذا الأكراد في وسطها، إذ إن أكثر هذه الخطة تتوقف عليهم. وقد جرى تنسيق الخطة من قبل كبار المسؤولين الحكوميين والأمنيين في طهران وبغداد ودمشق، وجميعهم يخضع لتوجيهات رأس الحربة في سياسة إيران الخارجية، قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري، اللواء قاسم سليماني، الذي يقود حروب إيران في سوريا والعراق.
يبدأ الممر عند نقاط الدخول التي استخدمتها إيران لإرسال الإمدادات والقوات إلى العراق على مدى السنوات 12 الماضية. وهي الطرق نفسها التي استخدمت من قبل "فيلق القدس" عندما دخل بلاد العراق. الطريق يعبر من بعقوبة عاصمة محافظة ديالى، نحو 60 ميلا إلى الشمال من بغداد، والتي كانت واحدة من المناطق الأكثر اضطرابا طائفيا في العراق، والتي قامت إيران بطمسها ديمغرافياً بصورة كبيرة، وعلى طول الطرق التي جرى تأمينها من قبل الميليشيات، التي تُعرف محليا باسم "وحدات التعبئة الشعبية"، يتحرك الشريط البري شمال غرب إلى المناطق التي كانت تسيطر عليها "تنظيم الدولة "، كما تعتبر بلدة الشرقاط في محافظة صلاح الدين هي واحدة من المناطق الهامة، وقد سيطرت عليها الميليشيات جنبا إلى جنب مع القوات العراقية في 22 سبتمبر الماضي، بما يمنح دفعة قوية لطموحات إيران. والميليشيات منتشرة حاليَا بأعداد كبيرة في الشرقاط، وتستعد للتحرك نحو الطرف الغربي من الموصل، إلى نقطة حوالي 50 ميلا إلى الجنوب الشرقي من سنجار، والتي يبدو أنها المحطة القادمة في الممر البرَي. وبين قوات الميليشيا وسنجار تقع بلدة تلعفر وهي معقل "تنظيم الدولة". وقد أقام مقاتلو حزب العمال الكردستاني في سنجار، بعد السيطرة عليها، وعلى امتداد الجبال العملاقة المتراصة في المناطق الحدودية بين العراق وسوريا على مقربة من جبل سنجار. وتدفع الحكومة العراقية لمقاتلي حزب العمال الكردستاني هناك، حيث أدرجتهم صمن وحدات التعبئة الشعبية. ومن معبر ربيعة الحدودي مع سوريا، يتجه الشريط البري نحو مدينتي القامشلي وكوباني باتجاه عفرين، التي تخضع لسيطرة الميليشيات الكردية السورية التي تنسق بصورة كبيرة مع إيران من أجل تنفيذ هذا المخطط الخطير.
حلب حجر عثرة لإيران:
من دون جميع النقاط بين طهران والساحل السوري، مثلت حلب حجر عثرة أمام المخطط الإيراني، فقد امتصت حلب القدرات الإيرانية أكثر من أي مكان آخر. ورغم تجمع الآلاف من مقاتلي الميليشيات، ومعظمهم من العراق، بجانب كتائب الأسد وشبيحته ومليشيا حزب الله اللبناني، ورغم الدعم الروسي والدولي ممثلاً في القصف الجوي الرهيب، إلا إن مسألة سقوط حلب مازالت مستعصية على هذا التحالف الرافضي الصليبي الدولي ، مما جعل المخطط الإيراني بإيجاد منفذ على البحر المتوسط يتوقف على أعتاب حلب الشرقية حيث خلاصة أبطال سوريا وأنجادها، مما استدعى تدخل الشيطان الأكبر " قاسم سليماني " للتدخل بنفسه وقيادة العمليات الميدانية في شرق حلب.
الاستيلاء على حلب سيكون المحطة المهمة في تأمين الممر البري الإيراني، والذي سيتجاوز "القريتين" إلى الشمال، فإن خطة الطريق ستستمر نحو مشارف رابع أكبر المدن السورية، حمص، ثم يتجه شمالا على امتداد قلب المناطق العلوية في سوريا، والتي جرى تأمينها بالقوات الجوية لنظام الأسد، لينتهي الطريق الإيراني، بشق الأنفس، إلى ميناء اللاذقية، الذي بقي تحت سيطرة النظام طيلة فترة الحرب.
إيران فقدت المئات من القتلى من مختلف الرتب العسكرية في حلب ومع ذلك مازالت تواصل القتال هناك بإصرار وصبر عجيبين، ولا تبالي بحجم الخسائر البشرية والمادية والسياسية، من أجل تحقيق مخططهم الخطير الذي حال إتمامه – لا قدر الله – ستتحول المنطقة بأسرها معه إلى بحر من النيران، وستشرع أمام مليشيات إيران وأذرعها العسكرية غير المتوازية الكثير من الأبواب التي سيلجون منها إلى ساحات الدول المحيطة، حيث يبثون القلق والفتن الطائفية والاضطرابات الدينية، وسيهددون أقوى خصومهم ؛ تركيا، في عقر دارها، بأن وصل تهديدهم إلى الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وستعم الفوضى في المنطقة بأسرها، مما يوجب على كل قادة المنطقة للانتباه أكثر وأكثر لهذا المخطط، فما مضى من مكائد ودسائس ومؤامرات إيران شيء، وهذا المخطط شيء آخر أشد خطراً وأعظم ضرراً.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم