صفوت الشوادفي
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءً إلا الجنة".
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تزداد القلوب المؤمنة شوقًا إلى زيارة بيت الله الحرام، وتتعلق الأفئدة بهذه الرحلة المباركة.
وقد اختار الله سبحانه وتعالى مكة واصطفاها، وجعلها خير وأشرف بلاد الأرض وأحبها إلى الله، كما ثبت بذلك الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت".
وقد كتب علماء التاريخ والسير في أخبار مكة وفضلها شيئًا كثيرًا بين المخطوط والمطبوع؛ فمن ذلك: كتاب (أخبار مكة) لأبي الوليد الأزرقي (توفي نحو 250 هـ)، وكتاب (أخبار مكة) للفاكهي (توفي نحو 275 هـ)، وكتاب (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) و(شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) كلاهما لتقي الدين الفاسي (توفى 832هـ)، وكتاب (إتحاف الورى بأخبار أم القرى) لعمر بن فهد المكي (توفي 885)، و(غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام)، لعز الدين المكي (توفي 922)، و (الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف) لابن ظهيرة المخزومي (توفي 986 هـ)، و(الإعلام بأعلام بيت الله الحرام) لقطب الدين النهروالي (توفي 988 هـ)، و(منائح الكرام في أخبار مكة والبيت وولاة الحرام) للسنجاري (توفي 1125هـ)، و(درر الفوائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة) لعبد القادر الأنصاري، وكتاب (الإيجاز في مناسك الحج وطريق الحجاز) لرضوان رشوان، ولقد ألف كتابه هذا سنة (134 هـ)، وهي نفس السنة التي تأسست فيها جماعة أنصار السنة المحمدية.
وقد عرضت هذه الكتب وغيرها بين مكثر ومقل لأخبار مكة المكرمة، فتحدث مؤلفوها عن الحجر الأسود: أصله وفضله، وعن بناء بيت الله الحرام نشأة وتاريخًا، وعن كسوة الكعبة على مر العصور وتتابع الدهور، وعن مقام إبراهيم وما يتعلق به، وعن زمزم وما لها من الفضل والمنزلة، وأحكام مائها، وتحدثوا -كذلك - عن الصفا والمروة، والسعي بينهما، وعلاقة ذلك بقصة إسماعيل، عليه السلام، وأمه هاجر، رضي الله عنها. وكتبوا عن: منى ومزدلفة وعرفات، وذكروا المسافات بين مكة وهذه الأماكن، ووصفوا أبواب الحرم وأساطينه، وعدد هذا وهذا، كما وصف بعضهم نماذج للرحلات البرية القديمة على ظهور الإبل، وشرحها على وجه التفصيل والبيان، ووصف المتأخرون منهم الرحلات البحرية القديمة بالباخرة. وكان دافعهم جميعًا لتسجيل هذه الأخبار حبهم الشديد لبيت الله الحرام ومكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
وقد أردنا أن يقف قراء مجلتنا الحبيبة على جانب من هذه الأخبار، وأن يتعرفوا على فضائل مكة المكرمة، وبيت الله الحرام ليعرفوا ما شرف الله به هذه الأمة، وخصها به من الفضل والكرامة؛ فنقول مستعينين بالله:
مكة المكرمة:
سماها الله سبحانه وتعالى في القرآن: مكة، وبكة، وأُم القرى، والقرية، والبلد الأمين، والبلدة. وقد اختلف العلماء في تسميتها مكة على أقوال منها: سميت بذلك لقلة مائها.
أو لأنها تمكَّ المخ من العظم ما ينال قاصدها من المشقة؛ من قولهم: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه، ومكَّ الفصيل ضرع أمه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه. أو لأنها تمكَّ من ظلم فيها؛ أي تهلكه وتنقصه. أو لأن الناس كانوا يمكون فيها ويضحكون؛ من قوله: ﴿ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ﴾ [الأنفال: 35]. أي تصفيقًا وتصفيرًا، وهذا ضعيف من جهة اللغة والتصريف.
وأما تسميتها (بكة) بالباء، فقد اختلف العلماء كذلك في بيانها على أقوال: منها: أن بكة موضع بيت الله الحرام، ومكة سائر البلد؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]. ومنها أن: بكة المسجد، ومكة الحرم كله وتدخل فيه البيوت. وقال بعضهم: بكة هي مكة، والميم مبدلة من الباء في لغة العرب. ومعنى بكة عند قوم: مشتقة من البك؛ وهو الإزدحام، وذلك لإزدحام الناس في الطواف. وقال بعضهم: البك: دقّ العنق، وذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم؛ قال عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه: "لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وقصه الله عز وجل".
وأمّا عن فضائل مكة وخصائصها، فقد ذكر العلماء لها جملة من الخصائص والفضائل التي شرفها الله بها، ولم يجعل شيئًا منها لبلد سواها:
1- فمن ذلك:
أن المسجد الحرام بها؛ وهو أول مسجد وضع في الأرض؛ كما في الصحيحين عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع في الأرض؟ فقال: "المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا".
2- ومن فضائلها:
أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، كما ثبت في الحديث الصحيح؛ وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق.
3- ومن فضائلها:
أن الله قد اختار أفضل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين منها، واختارها لنزول أفضل كتبه، وهو القرآن الكريم؛ ففيها بدء نزول الوحي.
4- ومن خصائص البلد الحرام أن الله جعله مناسك لعباده:
وأوجب على كل قادر من المسلمين الإتيان إليه من قريب ومن كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا خاشعين خاضعين كاشفي رءوسهم متجردين من لباس وزينة أهل الدنيا.
5- ومن فضائل البلد الأمين:
أن الله قد جعله حرمًا آمنًا، لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد، ولا يقطع نباته الرطب، ولا تلتقط لقطته للتمليك، بل للتعريف أبدًا غير مقيد بزمن كلقطة غيره.
6- ومن فضائلها:
أن الحج إليها وسيلة لحط الخطايا، ومحو السيئات؛ كما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". أي بغير ذنوب ولا سيئات، وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءً إلا الجنة".
7- ومن فضائل البلد الأمين:
أن الله عز وجل قد أقسم به في موضعين من القرآن الكريم؛ فقال: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 1-3]، وقال أيضًا: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ ﴾ [البلد: 1-2].
8- ومن خصائص مكة:
أنه لا يوجد على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه غير الحجر الأسود.
9- ومن فضائل مكة أن الله قد جعلها قبلة لأهل الأرض كلهم:
فليس على وجه الأرض قبلة غيرها، وكل مصل وقائم وراكع وساجد يجب عليه أن يتوجه إليها في صلاته، وإلا بطلت صلاته إذا توجه عاقدًا إلى غيرها مع قدرته على التوجه إليها.
10- ومن خصائصها:
أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض تشريفًا لها.
11- وقد سماها الله عز وجل أم القرى؛ فالقرى كلها لها تبع كما سميت الفاتحة أم القرآن إظهارًا لمنزلتها وعظيم قدرها.
12- ومن خصائص البلد الحرام:
أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى: ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].
13- وعلى هذا تكون الحسنة في الحرم مضاعفة، والسيئة كذلك مضاعفة؛ وقد ذكر ابن القيم، رحمه الله، أن السيئة في حرم الله وبلده أعظم جرمًا من مثلها في أي موضع آخر من الأرض.
14- ومن أعظم ما يختص به البلد الحرام أن القلوب تهوى إليه:
والأفئدة تميل إليه؛ فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فكم أنفق في حب مكة من الأموال والأرواح، ورضي المسافر لها شوقًا مفارقة الأهل والأحباب والأوطان، وتحمل في سفره صنوفًا من العذاب والمشقة والهوان، والسر في ذلك أن جعل بيته الحرام مثابة للناس؛ أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرًا، بل كلما سافروا إليه ازدادوا شوقًا ومحبة إليه.
وسوف نلتقي إن شاء الله في العدد القادم لنكمل الحديث عن الكعبة والمشاعر المقدسة. فنسأل الله أن يرزقنا حجًا لبيته، وصلاة في حرمه، وطوافًا بكعبته، وأن يجعل ذلك خالصًا لوجهه، وذخرًا لنا يوم العرض والحساب، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
المصدر : الألوكة
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم