اقتباس
وهذه عقوبة قلبية، وهي أشدُّ من العقوبة الجسدية بالسجن أو الجلد، وعلى وليِّ الأمر أن يعاقب المتخلفين عن صلاة الجمعة بلا عذر، بما يكون رادعاً لهم عن جريمتهم، فليتق الله كل مسلم أن يضيع فريضة من فرائض الله -عز وجل-، فيعرض نفسه لعقاب الله، وليحافظ على ما أوجب الله عليه؛ ليفوز بثواب الله، والله يؤتي فضله من يشاء.
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من بعد، حمداً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، سبحانك ربنا لا نحصي ثناءً على نفسك كما أنت أثنيت على نفسك الكريمة والمجيدة، وأشهد ألا إله الا الله وحده لا شريك له، شهادة حق وصدق وعدل، وأشهد أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد:
يقول المولى تبارك في سورة الجمعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة:11،10،9]. يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره أنها سميت الجمعة جمعة؛ لأنها مشتقة من الجمع وأنّ أهل الاسلام يجتمعون في هذا اليوم مرة واحدة من كل أسبوع، وكما ثبت في الصحاح أنه في هذا اليوم الأغرّ قد كمل جميع الخلائق، وفيه خلق آدم -عليه السلام-، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة.
كان يوم الجمعة يسمى بيوم العروبة، وقد ثبت أنّ الأمم التي سبقت الاسلام كانت تعظم هذا اليوم إلا أنهم ضلوا عنه، على حين اختار اليهود يوم السبت عيداً له بالرغم من أن الله –تعالى-لم يخلق في هذا اليوم شيئاً، واختار النصارى يوم الأحد عيداً لهم؛ لأنّ يوم الأحد هو اليوم الذي ابتدأ الله فيه خلق الخلائق. واختار المولى عزوجل-هذا اليوم الأغر؛ ليكون عيداً للمسلمين، وذلك لأنه في هذا اليوم أكمل الله –عزوجل- فيه الخليقة كلها.
فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله إليه، فالناس لنا تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد".
وفي رواية للإمام مسلم: "أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا إلى يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضي بينهم قبل الخلائق".
لقد أمر الله –عزوجل- المؤمنين بالاجتماع لعبادته -سبحانه وتعالى- يوم الجمعة، وأمرهم أن اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي هنا هو المشي السريع وإنما المقصود الاهتمام بها كقوله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء:19].
فالمشي السريع إلى الصلاة منهيّ عنه لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا".
وفي رواية: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا".
ويستحب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها، لما ثبت في -الصحيحين- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل".
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم".
ورد عن عراك بن مالك -رضي الله عنه- إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: "اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين".
وورد عن بعض السلف أنه من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة؛ لقوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفلحون أي اذكروا الله كثيراً في حال بيعكم وشراءكم أخذكم وعطاءكم، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة، ولهذا جاء في الحديث: "أنه من دخل سوقاً من الأسواق فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة".
إنّ الله -تبارك وتعالى- خصّ الله المسلمين بهذا اليوم وجعله عيدهم الأسبوعي، وفرض فيه صلاة الجمعة، وخطبتها وأمر المسلمين بالسعي إليها جمعاً لقلوبهم، وتوحيداً لكلمتهم، وتعليماً لجاهلهم، وتنبيهاً لغافلهم، ورداً لشاردهم، بعد أسبوع كامل من العمل والاكتساب، كما حرّم فيه الاشتغال بأمور الدنيا، وبكل صارف عن التوجه إلى صلاة الجمعة عند الدعوة إليه.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى، ويوم الفطر، وفيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم الى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلا أعطاه ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرّب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهنّ يشفقن من يوم الجمعة". رواه أحمد وابن ماجه.
فإذا صليت الجمعة كانت كفارة لما سبقها خلال أيام الأسبوع؛ لقوله عليه -الصلاة والسلام-: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر".
حكم صلاة الجمعة:
صلاة الجمعة فرض على كل ذكر حر مكلف مسلم مستوطن ببناء، فلا تجب الجمعة على مسافر سفر قصر، ولا على عبد وامرأة، ومن حضرها منهم أجزأته، وتسقط الجمعة بسبب بعض الأعذار كالمرض والخوف.
على من تجب صلاة الجمعة؟
تجب على كل مسلم بالغ عاقل حرّ ذكر مقيم غير معذور بعذر من أعذار تركها. فلا تجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة في الدنيا، ولا تجب على الصبي ولا المجنون ولا العبد ولا الأنثى ولا المسافر وإن كان مسافة سفره دون مسافة القصر، ولا المعذور بعذر من أعذار تركها كالمريض مرضًا يشق معه الذهاب إلى مكان الجمعة.
وتجب على من نوى الإقامة في بلد الجمعة أربعة أيام كاملة، أي غير يومي الدخول والخروج فأكثر؛ لأنه بذلك ينقطع حكم السفر.
ولا تجب الجمعة على مسافر سفر قصر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر.
ومن خرج إلى البر في نزهة أو غيرها، ولم يكن حوله مسجد تقام فيه الجمعة، فلا جمعة عليه، ويصلي ظهرا ً.
ولا تجب على امرأة.
حكم تارك صلاة الجمعة؟
من ترك صلاة ثلاث جمع متواليات تهاوناً بها، أي بلا عذر، فقد ختم الله قلبه؛ لحديث رواه الترمذي جاء فيه: "من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه".
وروى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنه سئل عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يشهد الجمعة ولا الجماعة، قال: "هو في النار".
يستفاد من هذا التهديد والوعيد في ترك الجمعة أنه من ترك الجمعة ممن تجب عليه من غير عذر فهي كبيرة من كبائر الذنوب الموجبة للنار بنص حديث الترمذي -رحمه الله.
وهذه عقوبة قلبية، وهي أشدُّ من العقوبة الجسدية بالسجن أو الجلد، وعلى وليِّ الأمر أن يعاقب المتخلفين عن صلاة الجمعة بلا عذر، بما يكون رادعاً لهم عن جريمتهم، فليتق الله كل مسلم أن يضيع فريضة من فرائض الله -عز وجل-، فيعرض نفسه لعقاب الله، وليحافظ على ما أوجب الله عليه؛ ليفوز بثواب الله، والله يؤتي فضله من يشاء.
شروط صلاة الجمعة:
تنقسم شروط صلاة الجمعة إلى قسمين:
1-شروط وجوب.
2-شروط صحة.
أولاً: شروط الوجوب تنقسم إلى قسمين:
1-متفق عليها.
2-ومختلف فيه.
المتفق عليها: الاسلام والعقل والذكورية.
1-الإسلام: أن يكون مسلماً، وضده الكافر، فالكافر لا تجب عليه الجمعة، بل ولا تصح منه.
2-العقل: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق أو يعقل.
وزوال العقل إما أن يكون بجنون، ويلحق به كل من زال عقله بسبب مباح، وأن يكون بسبب محرم، كمن شرب المسكر أو تناول دواء من غير حاجة فزال عقله.
3-الذكورية: وهي شرط أساسي اذ لا تجب على النساء؛ لأنّ الجمعة يجتمع لها الرجال، والمرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال، ولكنها إن أرادت أن تصليها صحت منها: "لا تمنعوا إماء الله مساجدكم أو مساجد الله، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-وقد ثبت أن النساء كنّ يصلين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجماعة.
والمختلف فيها: البلوغ والحرية والاقامة والقدرة على أدائه.
1-البلوغ: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "رواح الجمعة واجب على كل محتلم". ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "رفع القلم عن ثلاثة وذكر منها الصبي حتى يحتلم".
2-الحرية: أن يكون حراً: وضد الحر العبد، والمراد بالعبد المملوك، ولو كان أحمراً، أو قبلياً، فالعبد لا تلزمه الجمعة وذلك كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الجمعة واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، او مريض".
3-الإقامة: فأكثر العلماء أن المسافر في غير معصية لا جمعة عليه.
4-القدرة على أدائها: وهذا يعني أن يكون الإنسان خالياً من الأعذار المانعة من أداء صلاة الجمعة ومن هذه الأعذار: المرض الذي لا يستطيع معه الوصول إلى مكان الصلاة... الأعمى الذي لم يجد من يقوده إلى المسجد... وإن وجد من يقوده إلى المسجد ولو بأجر وجبت عليه، والشيخ الفاني الذي لا يقوى على المشي، ولكن إن وجد مركباً ولو بأجرة وجبت عليه، والخوف على مال من سطو سلطان أو لص...شدة المطر والطين.
وكل ما هو مبتلى برائحة كريهة بسبب مرض أو ما شابه ذلك ولا يمكن له إزالتها، ولمن أكل بصلاً أو ثوماً نيئاً بأن يعتزل المساجد عموماً وذلك لأنه لا يجوز لمن أكل شيئاً ذا رائحة كريهة تؤذي الناس والملائكة أن يدخل المسجد، فإن أمكن إزالتها وجبت، ويحرم أكل الثوم ونحوه يوم الجمعة إذا علم أو غلب على ظنه أنه لا يمكن إزالته قبل صلاة الجمعة لأن أكله يمنعه من واجب عليه.
واشترط كثير من العلماء الإقامة في قرية مبنية بحجارة أو لبن أو قصب أو ما جرت به العادة، لا يظعن عنها صيفاً أو شتاءً، وأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة عليهم.
ولا يشترط لإقامة الجمعة أن تكون في المدن دون غيرها، بل تقام في القرى أيضاً، قال ابن باز -رحمه الله-، في تعليقه على الفتح وهو فعل الجمعة في القرى كما فعل أهل جواثي في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك يدل على مشروعية إقامة الجمعة بالقرى، والله أعلم.
تجوز صلاتها في ساحة مكشوفة:
قال النووي -رحمه الله-: "قال أصحابنا: و لا يشترط إقامتها في مسجد، و لكن تجوز في ساحة مكشوفة بشرط أن تكون داخلة في القرية أو البلدة معدودة من خطتها، فلو صلوا خارج البلد لم تصح بلا خلاف، سواءً كان بقرب البلدة أو بعيداً منه، و سواءً صلوها في ركن أم ساحة، و دليله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي ... ولم يُصلِ هكذا".
شروط صحة الجمعة:
دخول الوقت: وهذا مجمع عليه فلا تصح قبل الوقت ولا بعده؛ لأنها صلاة مفروضة، فاشترط لها دخول الوقت كبقية الصلوات: فلا تصح قبل وقتها ولا بعده؛ لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء:103].
وأداؤها يكون بعد الزوال أفضل وأحوط؛ لأنه الوقت الذي كان يصليها فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في أكثر أوقاته، وأداؤها قبل الزوال محل خلاف بين العلماء، وآخر وقتها آخر وقت صلاة الظهر، بلا خلاف.
تقدم الخطبتين على الصلاة:
ويشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين؛ لمواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب الخطبتين وهو قائم، وكان يفصل بينهما بجلوس.
ومن شروط صحة صلاة الجمعة: تحميد الله –عزوجل- والثناء عليه -سبحانه وتعالى- بما هو أهله، ونطق الشهادتين، والصلاة على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والوصية بتقوى الله –عزوجل-، والموعظة الحسنة، وقراءة ما تيسّر من الذكر الحكيم، بخلاف ما عليه خطب بعض المعاصرين اليوم، من خلوها من بعض هذه الشروط أو أغلبها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم