أحكام الشهادات، والإقرار

خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني

2023-09-15 - 1445/02/30 2023-10-12 - 1445/03/27
التصنيفات: المعاملات
عناصر الخطبة
1/من الذي تُقبلُ شهادتهُ؟ 2/كم عَدَدُ الشُّهودِ الذين يُقبَلُون؟ 3/حكمُ الشهادة على الشهادة 4/البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكَر 5/الإقرار.

اقتباس

ولا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الآباءِ والأمهات لأولادِهم، ولا تُقْبَلُ شهادةُ الأولاد للآباء والأمهات والأجداد، ولا تقبلُ شهادةُ الزَّوجِ لِزَوجَتِهِ، ولا شهَادةُ الزوجة لزوجها...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله -عز وجل-، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ، أما بعدُ:

 

فحَدِيثُنَا معَ حضراتِكم في هذه الدقائقِ المعدوداتِ عنْ موضوع بعنوان: «أحكام الشهادات، والإقرار»، وسوف ينتظم حديثنا معكم حول خمسة محاور:

المحور الأول: من الذي تُقبلُ شهادتهُ؟

 

المحور الثاني: كم عَدَدُ الشُّهودِ الذين يُقبَلُون؟

 

المحور الثالث: حكمُ الشهادة على الشهادة.

 

المحور الرابع: البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكَر.

 

المحور الخامس: أحكام الإقرار.

 

واللهَ أسألُ أن يجعلنا مِمَّنْ يستمعونَ القولَ، فَيتبعونَ أَحسنَهُ، أُولئك الذينَ هداهمُ اللهُ، وأولئك هم أُولو الألبابِ.

المحور الأول: من الذي تُقبلُ شهادتهُ؟

اعلموا -أيها الإخوة المؤمنون- أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فيمَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، عَدْلًا، بَالِغًا، عَاقِلًا، ناطِقًا، حَافِظًا؛ فلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ صَبِيٍّ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)[البقرة: 282]، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ رِجَالِنَا.

 

ولَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَيْسَ بِعَاقِلٍ، كَالطِّفْلِ، وَالمَجْنُونِ، وَالسَّكْرَانِ حَتَّى يَعْقِلَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا يُقْبَلُ فَعَلَى غَيْرِهِمْ أَوْلَى[1].

 

ولَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الأَخْرَسِ بِالإِشَارَةِ إِلَّا إِذَا أَدَّهَا بِخَطِّهِ.

 

ولَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الكَافرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ)[الطلاق: 2].

 

ولَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الفَاسِقِ؛ لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)[الطلاق: 2].

 

ولَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الغَلَطِ، وَالغَفْلَةِ. ولَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ العَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ؛ رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا زَانٍ، وَلَا زَانِيَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ[2] عَلَى أَخِيهِ»[3].

 

ولا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الآباءِ والأمهات لأولادِهم، ولا تُقْبَلُ شهادةُ الأولاد للآباء والأمهات والأجداد، ولا تقبلُ شهادةُ الزَّوجِ لِزَوجَتِهِ، ولا شهَادةُ الزوجة لزوجها، ولَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَجُرُّ عَلَى نَفْسِهِ نَفْعًا بِشَهَادَتِهِ.

 

المحور الثاني: كم عَدَدُ الشُّهودِ الذين يُقبَلُون؟

اعلموا -أيها الإخوة المؤمنون- أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ في الزِّنَا، وَاللُّوَاطِ إِلَّا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 4].

وَقَولِه تَعَالَى: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النور: 13]].

 

وإذَا ادَّعَى مَنْ عُرِفَ بِغِنًى أَنَّهُ فَقِيرٌ؛ لِيَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَا يُعْطَى حَتَّى يَأْتِيَ بِثَلَاثَةِ شُهُودٍ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ؛ رَوَى مُسْلِمٌ عنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا»، ثُمَّ قَالَ: «يَا قَبِيصَةُ إِنَّ المسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ المسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا[4] مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا»[5].

 

ويُقْبَلُ في الحُقُوقِ المَالِيَّةِ كالبَيعِ، والإِجارةِ، والشَّرِكَةِ شَهَادَةُ رَجُلٍ، وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 282].

 

ولَا يُقْبَلُ فِي القِصَاصِ، وَالقَذْفِ، وَشُرْبِ الخَمْرِ، وَالنِّكَاحِ، وَالرَّجْعَةِ إِلَّا شَهَادةُ رَجُلَينِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)[البقرة: 282]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)[الطلاق: 2].

وروى البيهقي بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ»[6].

 

ويُقْبَلُ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَدَاءِ الآدَمِيِّ، وَدَاءِ الدَّابَّةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ؛ رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ»[7].

 

ومَا لَا يُوجَدُ فِيهِ إِلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فِي الحُقُوقِ المَالِيَّةِ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَيَمِينٌ. رَوَى مُسْلِمٌ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- «قَضَى بِيَمِينٍ، وَشَاهِدٍ»[8].

 

ومَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَالبِكَارَةِ، وَالثِّيُوبَةِ، وَالحَيْضِ، وَالعِدَّةِ، وَالوِلَادَةِ، وَالرَّضَاعِ.

رَوَى البُخَارِيُّ عنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ -رضي الله عنه- قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «وَكَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟، دَعْهَا عَنْكَ»[9].

 

وَيُقْبَلُ شِهَادَةُ أَهْلِ الكِتَابِ مَعَ يَمِينِهِمْ فِي الوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ)[المائدة: 106].

 

وَيُقْبَلُ شِهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ رَجُلٌ فِي الجَرَاحَاتِ وَالقَتْلِ إِذَا شَهِدَ فِيهِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا، أَوْ يَنْقَلِبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ، أَوْ يَخْتَلِفُوا؛ روى عبد الرزاقِ عَنْ -عَلِيٍّ رضي الله عنه- «أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ»[10].

فإذا تفرَّقوا، أو اختلفوا، أو رجعوا إلى أهليهم لم تقبل شهادة بعضهم على بعض.

 

المحور الثالث: حكم الشهادةِ على الشهادة:

اعلموا -أيها الإخوة المؤمنون- أنَّهُ يَجُوزُ للشَّاهِدِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الذَّهَابِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ القَاضِي أَنْ يَقُولَ لِفُلَانٍ يَخْتَارُهُ: اشْهَدْ يَا فُلَانُ عِنْدَ القَاضِي بِكَذَا، فَيُؤَدِّي الشَّهَادَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا يَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ.

 

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: الأول: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ دُونَ حُقُوقِ اللهِ -تَعَالَى-، فَتُقْبَلُ فِي الأَمْوَالِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ المَالُ كالإِجَارةِ، والشَّركَةِ، والبيعِ، ولا تُقبل في حقوق الله كشرب الخمر، والزنا.

 

الثاني: أَنْ يَتَعَذَّرَ حُضُورُ شهودِ الأَصْلِ لِمَجْلِسِ الحُكْمِ؛ لِمَوْتٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ غَيْبَةٍ، أَوْ خَوْفٍ، ولَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شهودِ الفَرْعِ إِذَا أَمْكَنَ حُضُورُ الأَصْلِ.

 

الثالث: أَنْ يَكُونَ شاهِدَا الأَصْلِ والفَرْعِ عَدْلَينِ، وتدُومُ عدَالتُهمَا إِلَى صُدُورِ الحُكْمِ.

 

المحور الرابع: البينةُ على المدَّعي، واليمين على من أنكَر:

مَنِ ادَّعَى حَقًّا مِنَ المَالِ أَوْ يُقْصَدُ بِهِ المَالُ، كَالبَيْعِ، وَالإِجَارَةِ، وَالقِصَاصِ، وَالقَذْفِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالنَّسَبِ، فعلَيهِ البَيِّنَةُ وهيَ الشُّهودُ، فَإِنْ لمْ يَأْتِ بالبَيِّنَةِ، وَأَنْكَرَ المُدَّعَى عَلَيْهِ، فَعَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ اليَمِينُ. رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى المدَّعَى عَلَيْهِ»[11].

 

ورَوَى مُسْلِمٌ عنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الحَضْرَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَقَالَ الحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي، أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلْحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟»، قَالَ: لَا، قَالَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ»، فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَدْبَرَ: «أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»[12].

 

ورَوَى البُخَارِيُّ عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟»، قُلْتُ: لَا، فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: «احْلِفْ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذًا يَحْلِفَ، وَيَذْهَبَ بِمَالِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[آل عمران: 77] [13].

 

أقولُ قولي هذا، وأَستغفرُ اللهَ لي، ولكُم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله وكفى، وصلاةً وَسَلامًا على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا، أما بعد:

فالمحور الخامس: أحكام الإقرار:

لَا يُقْبَلُ الإِقْرَارُ إلَّا مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ، فَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الطِّفْلِ، وَالمَجْنُونِ. رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ»[14].

 

وَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ إِلَّا إَذا كَانَ عَاقِلًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَالوَكَالَةِ، وَالإِجَارَةِ؛ فإذا لمْ يأْذنْ له وليُّه لم يَجُز إقراره.

 

وَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ المُكْرَهِ عَلَى نَفسِهِ بِشَيءٍ. روَى ابنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»[15].

 

وَلَا يَصِحُّ، وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ المَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى مَالِهِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ أصحاب الديونِ مُتَعَلِّقَةٌ بمَالِهِ فَلَمْ يُقْبَلِ الإِقْرَارُ عَلَيْهِ.

 

مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِآدَمِيٍّ، أَوْ حَقٍّ للهِ -تَعَالَى- لَا تُسْقِطُهُ الشُّبْهَةُ، كَالزَّكَاةِ، وَالكَفَّارَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ رُجوْعُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ للهِ كشربِ الخمرِ، أو زنا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، قُبِلَ رُجُوعُهُ. رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ جَابرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ؛ فقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ، فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ»[16].

 

وَمَنْ أَقَرَّ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَلَوْ قُبَيْلَ مَوْتِهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وله أحكام المسلمين من الإرثِ، والصلاةِ، والدفن، ونحوه؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[النساء: 17]؛ أَيْ قَبْلَ المُعَايَنَةِ لِلْمَلَائِكَةِ[17].

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللهَ -عز وجل- لَيَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ، مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»[18].

ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»[19].

وَرَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا، بَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟»، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا[20]، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ[21].

 

نسأل اللهَ أن يختمَ لنا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

 

الدعـاء...

 

اللهم ثبِّت قلوبَنا على الإيمان.

 

اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

اللهم إنا نعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر.

 

اللهم إنا نعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال.

 

اللهم اغسِل قلوبنا بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّ قلوبنا من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدَّنس، وباعِد بيننا وبين خطايانا كما باعدت بين المشرق والمغرب.

 

اللهم إنا نعوذ بك من الكسل، والمأثم، والمغرم.

 

 

 

أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.

 

----------

[1] انظر: «الكافي» (6/ 193).

[2] غمر: أي حقد، وعداوة.

[3] حسن: رواه أبو داود (3603)، وابن ماجه (2366)، وحسنه الألباني.

[4]الحِجَا: أي العَقْلُ الكَامِلُ؛ [انظر: «النهاية في غريب الحديث» (1/ 348)].

[5] صحيح: رواه مسلم (1044).

[6] صحيح: رواه البيهقي في «الكبرى» (7/ 111)، وصحح الألباني وقفه في «الإرواء» 1839).

[7] صحيح: رواه أبو داود (2344)، وصححه الألباني.

[8] صحيح: رواه مسلم (1712).

[9] صحيح: رواه البخاري (2660).

[10] رواه عبدالرزاق (8/ 350)، وابن أبي شيبة (4/ 360).

[11] متفق عليه: رواه مسلم (1711)، والبخاري بمعناه (2514).

[12] صحيح: رواه مسلم (139).

[13] صحيح: رواه البخاري (2667).

[14] صحيح: رواه أبو داود (4405)، والترمذي (1423)، وابن ماجه (2041)، وصححه الألباني.

[15] صحيح: رواه ابن ماجه (2045)، وصححه الألباني.

[16] صحيح: رواه أبو داود (4433)، وصححه الألباني.

[17] انظر: «تفسير القرطبي» (5/ 92).

[18] حسن: رواه الترمذي (4253)، وابن ماجه (3537)، وحسنه الألباني.

[19] متفق عليه: رواه البخاري (25)، ومسلم (20).

[20] مُتَعَوِّذًا: أَيْ مُعْتَصِمًا.

[21] متفق عليه: رواه البخاري (4269)، ومسلم (96).

المرفقات

أحكام الشهادات، والإقرار.doc

أحكام الشهادات، والإقرار.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات