أحكام الأيمان والنذور

خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني

2023-10-06 - 1445/03/21 2023-10-23 - 1445/04/08
عناصر الخطبة
1/ أحكام الأيمان 2/أحكام الحلف وأنواعه 3/ الاستثناء في اليمين 4/كفارة الأيمان 5/ اليمين على نية الحالف أو المحلوف له؟ 6/ أحكام النذور 7/الوفاء بالنذر 8/ كفارة النذر

اقتباس

مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى النِّيَّةِ، فَمَتَى نَوَى الحَالِفُ بِيَمِينِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِمَا نَوَاهُ، دُونَ مَا لَفَظَ بِهِ... أَمَّا إِذَا اسْتُحْلِفَ أَمَامَ القَاضِي، فإِنَّ يَمِينَهُ تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ القاضِي، ولا عبرةَ بنيَّتهِ..

الخطبةُ الأولَى: 

 

إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله -عز وجل-، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.

 

أما بعدُ: فحَدِيثُنَا معَ حضراتِكم في هذه الدقائقِ المعدوداتِ عنْ موضوع بعنوان: "أحكام الأيمانِ، والنذور".

وسوف ينتظم حديثنا معكم حول محورين:

المحور الأول: أحكام الأيمان.

المحور الثاني: أحكام النذور.

 

واللهَ أسألُ أن يجعلنا مِمَّنْ يستمعونَ القولَ، فَيتبعونَ أَحسنَهُ، أُولئك الذينَ هداهمُ اللهُ، وأولئك هم أُولو الألبابِ.

 

المحور الأول: أحكام الأيمان:

اعلموا -أيُّهَا الإِخوةُ المؤمنونَ- أَنَّ الأَيمَانَ ثلاثةُ أنواع: الأول: يمينُ لَغوٍ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ، فَيَظْهَرَ بِخِلَافِهِ، أَوْ أَنْ تَجْرِيَ اليَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غْيرِ قَصْدٍ إِلَيْهَا كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَقُولَ: وَاللهِ، فَيَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ: لَا وَاللهِ.

رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ كَلَّا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ"[1].

 

وَمَنْ حَلَف يمينَ لغوٍ لمْ تجِبْ علَيهِ كَفَّارَةٌ؛ لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[البقرة: 225].

 

وَلَكِنْ يُكْرَهُ الإِكْثَارُ مِنْهَا؛ لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 224].

 

الثَّاني: يَمينُ غَمُوسٍ: هِيَ يَمِينٌ كَاذِبَةٌ فَاجِرَةٌ يَحْلِفُهَا كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِهِ، يَقْتَطِعُ بِهَا الحَالِفُ مَالَ غَيْرِهِ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الإِثْمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ[2]. ومثالها: أن يقول: واللهِ لم آخذ حقي من فلان، أو: والله لقد رأيتُ فلانًا يفعل كذا؛ وهو كاذب في ذلك.

رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ"[3].

 

وَرَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[آل عمران: 77]. [4]

 

وَمَنْ حَلَفَ يَمينَ غَموسٍ لَمْ تَجِبْ عليهِ كفَّارةٌ، وَإِنَّمَا يجِبْ علَيهِ أَنْ يَتُوبَ إِلى اللهِ، وَيُرجِعَ الحَقَّ إلى أهْلِهِ إِنْ كَانَ أَخَذَ حَقًّا.

 

الثَّالثُ: يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ: هِيَ اليَمِينُ عَلَى شَيءٍ مُسْتَقْبَلٍ عَاقِدًا عَلَيْهِ قَلْبَهُ، كأَنْ يقُولَ: واللهِ لن أَدخُلَ بيتَ فلانٍ، أو: واللهِ لن أفعلَ كذا.

فإذا فعلَ المحلوفَ عَليه وَجبتْ عليه الكفَّارةُ؛ لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 89].

 

وَلَا تَنْعَقِدُ اليَمِينُ التي تُوجِبُ الكفَّارةَ إِلَّا بِاللهِ، أَوِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. كَأَنْ يَقُولَ الحَالِفُ: وَاللهِ، أَوْ: تَاللهِ، أَوْ: بِاللهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ: وَالرَّحْمَنِ، أَوْ: وَالعَزِيزِ، أَوْ: وَالقَدِيرِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ: وَعِزَّةِ اللهِ، أَوْ: وَقُوَّةِ اللهِ، أَوْ: وَكَلَامِ اللهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا.

 

فَلَوْ حَلَفَ بِالكَعْبَةِ، أَوْ بِنَبِيٍّ، أَوْ عَرْشٍ، أَوْ كُرْسِيٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، ولَمْ تجِبْ عليهِ الكفَّارةُ، وإنَّما على الحالفِ أنْ يتوبَ إلى اللهِ. رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ"[5].

 

وَرَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنه سَمِعَ رَجُلًا يَحْلِفُ: لَا وَالْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ"[6].

 

ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ[7] وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"[8].

 

اعلموا -أيُّهَا الإِخوةُ المؤمنونَ- أَنَّ كَفَّارَةَ اليَمينِ لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ حَلَفَ إِلَّا إِذَا تَوَفَّرَتْ سَبْعَةُ شُرُوطٍ: الأولُ: أَنْ يَكُونَ الحَالِفُ بَالِغًا عَاقِلًا، فَلَا تَجِبُ كَفَّارَةُ اليَمينِ عَلَى صَبِيٍّ، وَمَجْنُونٍ، وَنَائِمٍ. رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ عَليٍّ، وَعَائِشَةَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ"[9].

 

الثاني: أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا، فَلَا تَجِبُ الكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ حَلَفَ مُكْرَهًا، وَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ. روَى ابنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"[10].

 

الثالث: أَنْ يَكُونَ الحَالِفُ قَاصِدًا لِلْيَمِينِ، فَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْيَمِينِ لَمْ تَجِبْ عَلَيهِ الكَفَّارَةُ، كَأَنْ يَقُولَ: لَا وَاللهِ، وَ: بَلَى وَاللهِ، وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينَ لَغوٍ. قالَ -تَعَالَى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)[المائدة: 89].

 

الرابع: أَنْ يَكُونَ الحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي المُسْتَقْبَلِ، فَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فِي المَاضِي، لَمْ تَجِبْ عَلَيهِ الكَفَّارَةُ، وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينَ غَمُوسٍ. قالَ -تَعَالَى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)[المائدة: 89].

 

الخَامس: أَنْ يفعَلَ الَمحْلُوفَ عَلَيْهِ ذَاكِرًا لِحَلِفِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الكَفَّارَةُ. قالَ -تَعَالَى-: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب: 5].

 

وَروَى ابنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"[11].

 

السَّادسُ: أَنْ يفعَلَ الَمحْلُوفَ عَلَيْهِ مُخْتَارًا، فَإِنْ فَعَلَ الَمحْلُوفَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا، لَمْ تَجِبْ عَلَيهِ الكَفَّارَةُ. قالَ -تَعَالَى-: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب: 5].

 

وَروَى ابنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"[12].

 

السابع: أَنْ لَا يَكُونَ الحَالِفُ عَلَّقَ يَمِينَهُ بِالمَشِيئَةِ، فَإِنِ اسْتَثْنَى عَقِيبَ يَمِينِهِ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ تَجِبْ عَلَيهِ الكَفَّارَةُ. رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ؛[13] أي لم تجِبْ عليه الكفَّارَةُ.

 

وَرَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -عليه السلام-: "لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِئَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ، وَنَسِيَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ»[14].

 

ففي هذا الحديث ينبغي لمن أراد أن يحلف أن يقول في يمينهِ: إن شاء الله، وذلك يُفيدهُ فائدتين: الأولى: أن ذلك يعينه على عدَم الحِنثِ في يمينه. الثانية: أنه إذا حنِثَ لم تجب عليه الكفارةُ.

 

اعلموا -أيُّهَا الإِخوةُ المؤمنونَ- أَنَّ كَفَّارَةَ اليَمِينِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أَوْ عِتْقُ عَبْدٍ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ العِتْقِ، وَالإِطْعَامِ، وَالكِسْوَةِ فَعَلَيهِ صيامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. قالَ -تَعَالَى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 89].

 

وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي الصِّيَامِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ، لِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنهما-: "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ"[15] (رواه الحاكم وصححه الألباني في الإرواء: 2578).

 

اعلموا -أيُّهَا الإِخوةُ المؤمنونَ- أَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى النِّيَّةِ، فَمَتَى نَوَى الحَالِفُ بِيَمِينِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِمَا نَوَاهُ، دُونَ مَا لَفَظَ بِهِ، كَأَنْ يُدْعَى لِغَدَاءٍ، فَيَحْلِفَ أَلَّا يَتَغَدَّى، وقَصَدَ هَذَا الغَداءَ بعَينهِ، فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيهِ الكَفَّارَةُ إِذَا أَكَلَ منْ غَدَاءٍ غيرهِ. روى البُخاريُّ ومُسلمٌ عنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"[16].

 

أَمَّا إِذَا اسْتُحْلِفَ أَمَامَ القَاضِي، فإِنَّ يَمِينَهُ تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ القاضِي، ولا عبرةَ بنيَّتهِ. رَوَى مُسْلِمٌ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ"، وَفِي لفظٍ: "الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ المسْتَحْلِفِ"[17].

 

أقولُ قولي هذا، وأَستغفرُ اللهَ لي، ولكُم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله وكفى، وصلاةً وَسَلامًا على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا، وبعد:

 

المحور الثاني: أحكام النذور:

اعلموا -أيُّهَا الإِخوةُ المؤمنونَ- أَنَّ مَنْ نَذَرَ فِعْلَ طَاعةٍ وَجَبَ عَلَيهِ أَنْ يَفْعَلَهَا، كَأَنْ يَقُولَ: للهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ، أَوْ: إِنْ شَفَانِيَ اللهُ مِنْ مَرَضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ. رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ"[18].

 

ومَنْ نَذَرَ فِعْلَ مُبَاحٍ، كَأَنْ يَقُولَ: للهِ عَلَيَّ أَنْ أَلبَسَ ثَوبي، أَوْ: أَرْكَبَ سَيَّارتي، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَبَيْنَ إِخْرَاجِ كَفَّارَةِ يَمِينٍ. رَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا نَذْرَ إِلَّا فِيمَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ"[19].

 

ورَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ"،[20] وَإِذَا وَجَبَتِ الكَفَّارَةُ فِي المَعْصِيَةِ، فَفِي المُبَاحِ أَوْلَى.

ورَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو -رضي الله عنهما- أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ، قَالَ: "أَوْفِي بِنَذْرِكِ"، قَالَتْ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَذْبَحَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، مَكَانٌ كَانَ يَذْبَحُ فِيهِ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: "لِصَنَمٍ؟"، قَالَتْ: لَا، قَالَ: "لِوَثَنٍ؟"، قَالَتْ: لَا، قَالَ: "أَوْفِي بِنَذْرِكِ"[21].

 

وَمَنْ نَذَرَ فِعْلَ مُحَرَّمٍ وَجَبَ عَلْيهِ أَنْ يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ كَأَنْ يَقُولَ: للهِ عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الخَمْرَ، أَوْ: أَقْتُلَ إِنسَانًا، أَوْ: أَظْلِمَ النَّاسَ. رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ، فَلَا يَعْصِهِ"[22].

 

ورَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ"[23].

 

وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "النَّذْرُ نَذْرَانِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللهِ فَذَلِكَ لِلهِ، وَفِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ، وَلَا وَفَاءَ فِيهِ، وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ"[24].

 

وكَفَّارَةُ اليَمِينِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أَوْ عِتْقُ عَبْدٍ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الإِطْعَامِ، وَالكِسْوَةِ، والعِتْقِ، فعليهِ صيامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. قالَ -تَعَالَى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 89].

 

الدعـاء...

 

اللهم ثبِّت قلوبَنا على الإيمان.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.

 

ربنا أفرِغ علينا صبرًا، وثبِّت أقدامنا، وانصُرنا على القوم الكافرين.

ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

 

ربنا إننا آمنَّا، فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار.

ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.

 

أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.

 

 

[1] صحيح: رواه أبو داود (3256)، والبخاري موقوفًا (4613).

[2] انظر: «المطلع» صـ (387).

[3] صحيح: رواه البخاري (6675).

[4] متفق عليه: رواه البخاري (666)، ومسلم (138).

[5] متفق عليه: رواه البخاري (6108)، ومسلم (1646).

[6] صحيح: رواه أبو داود (3253)، والترمذي (1535)، وحسنه، وصححه الألباني.

[7] اللات: اسم صنم كان لثقيف بالطائف.

[8] متفق عليه: رواه البخاري (6107)، ومسلم (1647).

[9] صحيح: رواه أبو داود (4405)، والترمذي (1423)، وابن ماجه (2041)، وصححه الألباني.

[10] صحيح: رواه ابن ماجه (2045)، وصححه الألباني.

[11] صحيح: رواه ابن ماجه (2045)، وصححه الألباني.

[12] صحيح: رواه ابن ماجه (2045)، وصححه الألباني.

[13] صحيح: رواه أبو داود (3263)، والترمذي (1532)، وصححه الألباني.

[14] متفق عليه: رواه البخاري (5242)، ومسلم (1654).

[15] صحيح: روى قراءة أُبَيٍّ البيهقي في «الكبرى» (10/60)، والحاكم في «مستدركه» (2/303)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3/429)، أما قراءة ابن مسعود، فرواها البيهقي في «الكبرى» (10/60)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (8/513، 514)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (3/429)، وصحح كلا الروايتين الألباني في «الإرواء» (2578).

[16] متفق عليه: رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).

[17] صحيح: رواه مسلم (1653).

[18] صحيح: رواه البخاري (6696).

[19] حسن: رواه أبو داود (2194)، وأحمد (2/185)، وحسنه الألباني.

[20] صحيح: رواه أبو داود (3292)، والترمذي (1524)، والنسائي (3834)، وابن ماجه (2125)، وصححه الألباني.

[21] صحيح: رواه أبو داود (3314)، وصححه الألباني.

[22] صحيح: رواه البخاري (6696).

[23] صحيح: رواه أبو داود (3292)، والترمذي (1524)، والنسائي (3834)، وابن ماجه (2125)، وصححه الألباني.

[24] صحيح: رواه النسائي (3845)، وصححه الألباني.

 

المرفقات

أحكام الأيمان والنذور.doc

أحكام الأيمان والنذور.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات