عناصر الخطبة
1/اصطفاء الله وتفضيله لبعض خلقه 2/وجوب تعظيم الأشهر الحرم 3/الحكمة من جعل الأشهر الحرم أربعة 4/من خصائص الأشهر الحرم ومميزاتهااقتباس
وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد؛ لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظِّموا ما عظَّم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظَّمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.
عباد الله: إن الله هو الخالق المالك المتصرف، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهو -سبحانه- يفعل ما يشاء في خلقه، فالخلق خلقه والأمر أمره، والكل في ملكه -سبحانه وتعالى-، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان."
فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب،، وقد ورد ذكر هذه الأشهر الحرم في قول الله -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[التوبة: 36]؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: "(مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أي: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، فإنما أضافه إلى مضر ليبيِّن صحة قولهم في رجب: أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما كانت تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضان اليوم، فبين -صلى الله عليه وسلم- أنه رجب مضر، لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد؛ لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا" أهـ.
معاشر المسلمين: إن لهذه الأشهر خصائص وميزًا ميزها الله بها، فلا بد من معرفتها:
فمن خصائصها: أن عقوبة الذنوب فيها أعظم من غيرها، قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36]؛ أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تُضاعف؛ لقوله -تعالى-: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: 25]، وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام.
وقال قتادة في قوله: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ): "إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء"، قال القرطبي -رحمه الله-: "خص الله -تعالى- الأربعة أشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان، كما قال -تعالى-: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة: 197].
ومنها: أنه يحرم فيها ابتداء القتال -ابتداء قتال الأعداء على القول الراجح-؛ لقوله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)[المائدة: 2]، ولقوله -تعالى-: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)[التوبة: 5]، وقال بعض أهل العلم: "بل إن ابتداء القتال فيها نسخ بتحريمه كما في غيرها، ولكن الراجح أنه محرم -أعني الابتداء- إلا أن يبدأنا الكفار، أو يكون القتال إتمامًا لقتال سابق، فإنه لا بأس به".
ومن فضائل الأشهر الحرم: أن أعمال الحج كلها تقع في ذي الحجة، قال -تعالى-: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، قال البخاري: قال ابن عمر: "هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة".
اللهم فقهنا في الدين، وارزقنا العمل بالتنزيل.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولا عن خصائص الأشهر الحرم، فمن خصائصها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة، كما يقول ابن القيم -رحمه الله-، وقد علق على ذلك بقوله: "لم يكن الله ليختار لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في عمره إلا أَوْلى الأوقات وأحقها بها، فأفضل أوقات العمرة في ذي القعدة".
ومن خصائص الأشهر الحرم: أن فيها عشرَ ذي الحجة التي أقسم الله بها في كتابه، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها من أفضل الأيام على الإطلاق، وأن العمل الصالح فيها أعظم من غيرها، روى البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
وفي الأشهر الحرم يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم القر، وأيام التشريق، وهي من أعظم الأيام عند الله، وعيد أهل الإسلام، روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن قرط، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تعالى- يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ".
وفيها أيضًا: صيام شهر الله المحرم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ"، وفيها: يوم عاشوراء الذي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن صيامه يكفر السنة الماضية، وهو اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه.
ذكر القرطبي -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36]، قال: "بارتكاب الذنوب؛ لأن الله -تعالى- إذا عظَّم شيئًا من جهة واحدة، صارت له حرمة واحدة، وإذا عظَّمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيِّئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار -تعالى- إلى هذا بقوله -تعالى-: (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا)[الأحزاب: 30 - 31].
أيها المؤمنون: لنعظم ما عظم الله، فلنترفع عن الذنوب والآثام في كل وقت خصوصا في الأشهر الحرم، ولنبادر للعمل الصالح فيها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم