أحسن العطايا اليقين -2

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/تعريف اليقين ومنزلته 2/علامات ودرجات اليقين 3/وسائل حصول اليقين   4/أقسام اليقين البشري 5/يقين المؤمن ويقين الكافر 6/كمال اليقين ونقصه 7/الثقة واليقين برب العالمين

اقتباس

يقين المؤمن أن كل شيء بأمر الله, ووجوده بأمر الله, وزواله بأمر الله, وزيادته بأمر الله, ونقصه بأمر الله، ونفعه بأمر الله, وضرره بأمر الله, وكثرته بأمر الله, وقلته بأمر الله. ولذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرزقه الله من اليقين ما يخفف عنه مصائب الدنيا...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إِنّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا , مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ , وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِي لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران آية 102 ]، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [ النساء آية 1 ]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب آية 70-71 ].

 

أيها المسلمون: المتدبر في أحوال الناس يجد أمورًا عجيبة، فكثير من الناس قد لا يجد من الدنيا كثير مال، ولا كثير متاع، ومع ذلك فهو ساكن النفس، راضٍ مطمئن القلب، مستريح البال، بينما غيره ممن ملكوا الأموال والوظائف والأرصدة والحسابات، تجدهم أصحاب أنفسٍ قلقة، وقلوبٍ وجلة، فواعجبًا من اطمئنان مع القلة وذلك طريق من طرق اليقين، وواعجبًا من قلق مع الكثرة، وذلك من أسرع طرق الشك والريبة.

 

أيها الأحباب: نحن جميعًا نحتاج أن نفهم عن الله أمره، ونفقه أحكامه القدرية والكونية، لنقف على العلة من الخلق والأمر، واليوم نحاول -بمشيئة الله تعالى- أن نقف على شيء من فقه اليقين.

 

عباد الله: كثيرًا ما توقظ آيات القرآن الكريم القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاء العجائب في هذا الكون الهائل، غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع، إلا القلب العامر باليقين؛ قال رب العالمين: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات:20].

 

فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك، وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة، وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع. وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء لا تنطلق للقلب بشيء، ولا تتجاوب معه بشيء.

 

وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب؛ لا يحسون فيه حياة، ولا يفقهون له لغة؛ لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم، ولم تبث الحياة فيما حولهم! وقد يكون منهم علماء وفيهم يتحقق فيهم قوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الروم: 7]. أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم، فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين.

 

واليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، فاليقين روح أعمال القلوب، التي هي روح أعمال الجوارح. ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كل ريب وشك، وكل سخط وحيرة، وكل هم وغم.

 

وإذا وصل اليقين إلى القلب امتلأ بمحبة الله, والخوف منه, والرضا به, والشكر له, والتوكل عليه, والإنابة إليه, والتوجه إليه, والأنس به, وعدم الالتفات إلى غيره.

 

واليقين لا يساكن قلبًا فيه سكون لغير الله، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24]. وقال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرعد: 2].

 

واليقين: هو ظهور الشيء للقلب كأنه يراه، أو بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين, فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلاً, وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان.

 

أيها المسلمون: وإن من علامات اليقين: النظر إلى الله في كل شيء, والرجوع إليه في كل أمر, والاستعانة به في كل حال, والالتفات إليه في كل نازلة, والإنس به في كل وقت, وإرادة وجهه في كل حركة وسكون, وعدم الالتفات عنه إلى غيره في كل حال. وإذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة، والرخاء عنده مصيبة؛ لأن البلاء يرده إلى معبوده، والرخاء يشغله عن معبوده غالبًا.

 

أيها الأحباب: واليقين على ثلاث درجات:

 

الدرجة الأولى: علم اليقين، وهو قبول ما ظهر من الحق -سبحانه- من أوامره ونواهيه ودينه وشرعه الذي ظهر لنا منه، وعلمناه بواسطة رسله، فنتلقاه بالقبول والتسليم والانقياد. وقبول ما غاب للحق، وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الله -سبحانه- على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أمور المعاد كالجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ورجّ الأرض، ونسف الجبال، وطي العالم، وما قبل ذلك من أمور البرزخ، وعذاب القبر ونعيمه.

 

فقبول هذا كله إيمانًا وتصديقًا هو علم اليقين، بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا ريب. والوقوف على ما قام بالحق -سبحانه- من أسمائه وصفاته وأفعاله، ونعوت كماله، وتوحديه.

 

وهذه الثلاثة أشرف العلوم: علم الأسماء والصفات والتوحيد, وعلم الأمر والنهي, وعلم المعاد واليوم الآخر.

 

الدرجة الثانية: عين اليقين، وهو رؤية الشيء عيانًا، فعلمنا الآن بالجنة والنار علم يقين، فإذا أُزلفت الجنة للمتقين، وشاهدها الخلائق، وبُرّزت الجحيم للغاوين، وعاينها الخلائق، فذلك عين اليقين.

 

الدرجة الثالثة: حق اليقين، وهي أعلى درجات اليقين، وهي مباشرة الشيء والإحساس به، كما إذا أدخل أهل الجنة الجنةَ، وتمتعوا بما فيها من ألوان النعيم، وأدخل أهل النار النارَ، وذاقوا ما فيها من ألوان العذاب، فذلك حينئذ حق اليقين.

 

فعلم اليقين بالقلب، وعين اليقين بالبصر، وحق اليقين بالمباشرة والتذوق والإحساس، ومعرفة القلب، ورؤية البصر.

 

ومثل هذه المراتب الثلاث كمن أخبرك أن عنده عسلاً، وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه، فازددت يقينًا، ثم ذقت منه. فالأول علم اليقين، والثاني عين اليقين، والثالث حق اليقين.

 

أيها الإخوة الكرام: يحصل اليقين للإنسان من أربعة أبواب: السمع, والبصر, والكلام, والفكر.

 

فإذا سمع الإنسان كلام الله ورسوله، تأثر بذلك، وإذا نظر إلى آيات الله الكونية وآياته الشرعية، تأثر بذلك.

 

وإذا تفكر في عظمة الله وكبريائه، وعظمة مخلوقاته وأفعاله، تأثر بذلك، وإذا تكلم في عظمة الله، وعظمة أسمائه وصفاته، وتحدث بنعمه وآلائه، جاء عنده اليقين، وتأثر بذلك.

 

فإذا استعمل الإنسان هذه القوى في معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله تأثر القلب فجاء عنده اليقين على ربه، ولم يلتفت لغيره.

 

فاليقين يورث التأثر, ثم يأتي التوجه إلى الله, ثم تأتي الرغبة في الأعمال الصالحة, ثم تأتي السعادة في الدنيا والآخرة. واليقين لا يحصل إلا بالمجاهدة، فالقائم على النار يخاف منها، ولا يلتفت إلى سواها، فكيف إذا وقف أمام الخالق الجبار كيف لا يخافه هيبةً وإجلالاً وتعظيمًا.

 

والطفل الصغير إذا أراد شيئًا من أمه أو أبيه سأله بيقين؛ لأنه لا يعرف غيرهما، فكذلك المسلم إذا سأل ربه باليقين، ولم يلتفت إلى غيره أجابه كما قال -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]. والبكاء سبب لحصول المراد، فالطفل يبكي كلما أراد شيئًا من أمه أو أبيه، ولا يزال يبكي حتى يحصل على ما يريد، وكذلك المسلم يبكي أمام الله خاشعًا ذليلاً، مستغفرًا متضرعًا حتى يستجاب له، كما قال سبحانه عن عباده المؤمنين: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 109].

 

أيها الأحباب: ويقين البشر على قسمين:

 

أحدها: يقين على الله، وهذا يقين المؤمنين، حيث يولد الطاعة والمحبة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والإقبال على الله، والتوجه إليه في جميع الأحوال.

 

الثاني: يقين على الأسباب والأشياء، وهذا يقين الكفار، وهذا يولد عند الإنسان الاعتماد على الأسباب، والدعوة إلى الأسباب، والتوجه إليها في جميع الأحوال.

 

وبسبب هذا اليقين يغفل الإنسان عن مراد الله منه، وعن مراده من الله، ويشغل بدنياه عن آخرته، فيشقى في دنياه، ويخسر آخرته. واليقين على شيء ما يجعل الإنسان يتوجه إليه، ويعتمد عليه، سواء كان مالاً، أو جاهًا، أو علمًا، أو قوة، أو طعامًا، أو صنمًا، أو دواءً.

 

ولما كان الاعتماد على هذه الأشياء من دون الله في قضاء الحاجات شركًا بالله؛ لذا يجب نفي تأثير جميع المخلوقات والأشياء، وإثبات اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته ودينه، فهو الفعّال لما يشاء، وغيره لا يفعل شيئًا إلا بإذنه، فهو سبحانه الذي (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرعد: 2].

 

ولهذا لا ينتفع بالقرآن حقًّا إلا من نفى تأثير هذه الأشياء النفي الكامل، وجاء عنده اليقين على الله وحده، وتوكل عليه وحده، وفوَّض الأمور كلها إلى الله وحده، كما قال سبحانه: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية: 20].

 

فمن آمن بالله وحده, وسلّم نفسه لله وحده, وتوكل على الله وحده, وصبر على ذلك, نصره الله, وسخَّر له الكائنات, واستخلفه في الأرض, وأسعده في الدنيا والآخرة, وجعله داعيًا إلى الله وإلى دينه, قال سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].

 

أيها المسلمون: كان عند أهل الجاهلية مرضان خطيران:

 

الأول: يقينهم بالأسباب والأصنام، فاجتهد عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى خرج من قلوبهم اليقين الفاسد إلى اليقين على الله وحده لا شريك له.

 

الثاني: مرض آخر، وهو أن قاضي الحاجات هو الأسباب، فالله -عزَّ وجلَّ- أعطاهم الأوامر لقضاء حاجاتهم، فأخرج لهم الحوت العظيم من البحر, وأنزل لهم بصلاة الاستسقاء الماء من السماء, وأخرج لهم الماء في الحديبية من بين أصابع الرسول -صلى الله عليه وسلم, ورأوا البركة في الطعام والماء واللبن؛ بسبب امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ، وقضى الله حاجاتهم، ونصرهم مع قلة الأسباب، أو عدمها.

 

وإذا كان يقين المسلم على ربه قويًا فلن يقف له شيء؛ لأن الله معه، وإذا كان الله معه فمن ذا يقف له؟, ومن ذا يستهين به؟.

 

وإذا نزعنا من قلوبنا اليقين على المخلوقات سلب الله قوتها وسخرها لنا، فماذا قال أصحاب موسى؟، وماذا قال موسى؟، حين رأوا البحر وفرعون وقومه: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 61، 62].

 

فلما سُلب موسى اليقين على الماء والعدو، وتوكل على الله وحده، جاءته نصرة الله فورًا، فانفلق له البحر، فأنجى الله موسى ومن آمن معه، وأهلك عدوه بهذا البحر في آنٍ واحد، أمر بالنجاة، وأمر بالهلاك قال سبحانه: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 63-68].

 

ومن كان يقينه على غير الله سلّطه الله عليه، وأذله به، وخذله من جهته، كما أذل الله قوم نوح مع كثرتهم، وعادًا مع قوتهم، وفرعون مع ملكه، وقارون مع ماله.

 

والمؤمن في يقينه على ربه كالطير، فما دام الطير في الأرض، يرى كل شيء كبيرًا، ويخاف من أي شيء، فإذا حلّق في السماء، رأى كل شيء صغيرًا، ولا يخاف من أحد؛ لأنه ترقى في علو السماء. فكذلك المسلم ما دام متأثرًا بالمخلوق فهو دائمًا في خوف، فإذا تعلق بالله وتوكل عليه وحده سقط من عينه المخلوق مهما كان، ومهما كانت قوته.

 

أيها السلمون: يقين المؤمن أن كل شيء بأمر الله, ووجوده بأمر الله, وزواله بأمر الله, وزيادته بأمر الله, ونقصه بأمر الله، ونفعه بأمر الله, وضرره بأمر الله, وكثرته بأمر الله, وقلته بأمر الله. ولذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرزقه الله من اليقين ما يخفف عنه مصائب الدنيا، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: "اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا" [الترمذي (3502) وحسنه الألباني]، أما الكافر فيقينه على ما يراه من الأسباب فقط.

 

الأشياء لا تأتي إلا بإرادة الله, والأحوال لا تصلح إلا بإرادة الله, فهو الذي يفعل ما يشاء, ويغير إذا شاء, ويبدل إذا شاء، فما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن, وبيده كل شيء قال سبحانه: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].

 

وإذا جاء اليقين على ذات الله، وعلى عظمة الله وقدرته، فالله -عزَّ وجلَّ- يسخّر الكائنات لخدمة أوليائه، وإهلاك أعدائه، حتى يكون الغائب كالشاهد. كما سخر الماء لتدمير كفار قوم نوح، وإهلاك فرعون وقومه. وكما أرسل الريح لتدمير كفار قوم عاد, وهكذا النار سخرها الله لحفظ إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-, وهكذا النار أرسلها الله على قوم شعيب فأهلكتهم, وهكذا جبريل أرسله الله إلى قوم لوط فقلب ديارهم عليهم, وهكذا قوم ثمود أهلكهم الله بالصيحة.

 

والله -عزَّ وجلَّ- أطلع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- على ما في ملكوت السموات والأرض من المخلوقات، فلما علم أنه ليس بيدها شيء، وأن أمرها بيد الله وحده، صرف وجهه عن هذه الأشياء إلى خالق هذه الأشياء، وتوكل عليه وحده في جميع أموره فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 79]، وبهذا اليقين العظيم واجه الباطل، وأنجاه الله من ظلم الطغاة، فلما ألقوه في النار، أنجاه الله من النار، وانتصر التوحيد على الشرك.

 

وكثير من الناس يقينه في الظاهر على الله، وفي الباطن على الأموال والأشخاص والأشياء، وهذا ليس بصحيح، فإن قاضي الحاجات واحد لا شريك له، وإن كان الله يقضي ببعض الأسباب حاجات بعض الناس امتحانًا وابتلاء، فالأسباب يُبتلى بها المسلم، ويطمئن بها الكافر. فالمؤمن يقينه على الله وحده، والكافر يقينه على الأسباب والمحسوسات وحدها.

 

يا عباد الله: كلما دخل حب الدنيا في القلب ضعف اليقين، ثم ضعف الإيمان، ثم ضعفت العبادة، ثم ضعف امتثال أوامر الله في جميع شُعب الحياة، ثم جاء غضب الله وسخطه، ثم حلت العقوبات بالأمة.

 

وكلما استعملت الأمة النفس والمال والوقت على مراد النفس لا على مراد الله؛ جاءت العقوبات والمصائب في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123- 124].

 

وثمرة الإيمان بالله وإخلاص العمل له حصول اليقين على ذاته وأسمائه، وصفاته، وأفعاله وخزائنه، ووعده ووعيده، وعدم الالتفات إلى ما سواه، وبكمال الإيمان، وكمال اليقين، وكمال التقوى تحصل الخيرات, وتنزل البركات, وتُقضى الحاجات في الدنيا والآخرة.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

 

واليقين الكامل يحصل للعبد بأربعة أمور هي:

 

اليقين الأول: أن يعلم العبد بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا تصريف ولا تدبير لجميع المخلوقات إلا بأمر الله وحده، فكل المخلوقات والموجودات ليس بيدها شيء.

 

والأشكال والأسباب، والبواعث والنتائج، لا تأتي ولا تحصل ولا تفعل إلا بأمر الله وإذنه وإرادته -سبحانه-، ولا ينفع شيء في الكون ولا يضر إلا بإذن الله، وهذا هو معنى (لا إله).

 

اليقين الثاني: أن يتيقن العبد أن الله هو القادر وحده لا شريك له، وأن قدرته مطلقة، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا يحتاج لغيره في إرادته وأفعاله، وأنه خالق كل شيء، وبيده الأمر كله، وهو المعبود الذي يستحق العبادة وحده دون سواه، وهذا هو معنى (إلا الله).

 

اليقين الثالث: أن السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة هي بالإيمان والتقوى، ولا يمكن أن ينالها الإنسان في حياته إلا باقتدائه بالأسوة الحسنة محمد -صلى الله عليه وسلم- في جميع أحواله، وعدم الاقتداء بشخصية أحد سواه، قال سبحانـه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].

 

فقد علمنا محمد -صلى الله عليه وسلم- كيفية الاستفادة من خزائن الله بالإيمان والتقوى، وإن كانت الأسباب طريقًا آخر. فعلّمنا كيفية العبادة وأوقاتها، وكيفية المعاشرات والمعاملات، وأداء الحقوق، والحلال والحرام، وكل ما تحتاج الإنسانية لسعادة الدارين.

 

اليقين الرابع: أن جميع الأجسام والأشكال، والأسباب والأعمال لا تفيد بغير طريق ومنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فالتجارة والصناعة والزراعة، والوظائف والمعاملات، والحكم والولايات هي وأصحابها في خطر دائم إن لم يكونوا جميعًا على طريق محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حينما أُلقي في النار، لم يتوجه إلى أي مخلوق، وإنما توجه إلى الله طالبًا منه النجاة وحده، فسلب الله الإحراق من النار فورًا، وجعلها بردًا وسلامًا عليه.

 

وموسى -صلى الله عليه وسلم- لما تبعه فرعون وجنوده، ووقف أمام البحر: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 61، 62]. فسُلب اليقين على ضُر الماء والعدو فجاءته نصرة الله، وأنجاه الله ومن آمن معه، وفتح له البحر فعبره ونجا، وعبره فرعون ومن معه فأغرقهم الله.

 

وهذا مصداق ما صح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [البخاري 4563]. فما أحوجنا لترك الاعتماد والافتقار للأسباب والثقة واليقين بقدرة رب العالمين.

 

أيها المسلمون: ويحصل اليقين وكمال الطاعة والعبودية بأمور أهمها:

 

التوحيد: فيرى الأشياء والأحوال كلها من مسبّب الأسباب -سبحانه-، ولا يلتفت إلى الوسائط، بل يرى الوسائط مسخَّرة لا حكم لها. إدراكه أن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره، فيقبل على الطاعات، ويجتنب المعاصي، وذلك يثمر صدق مراقبة الله في الحركات والسكنات، والتحرز من السيئات.

 

ومنها اليقين بأن الله مطلع عليك في كل حال، ومشاهد لهواجس ضميرك، وثمرة ذلك أن يكون الإنسان في خلوته متأدبًا في جميع أحواله، كالجالس بمشهد ملك معظم، ينظر إليه محترزًا من كل هيئة تخالف هيئة الأدب والوقار، وكذا في فكره، وهذا يورث الحياء والخوف، وذلك يورث فعل الطاعات، واجتناب المعاصي والسيئات: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4].

 

والقلب إذا زاد نور الإيمان فيه أناب إلى الله، وتوكل عليه وحده، وأحب الطاعات، وكره المعاصي.

 

وبامتثال أوامر الله، وفعل كل سُنة، يزداد نور القلب، وبمخالفة السنن يزيد ظلام القلب، وتحصل العقوبات. والإيمان يزيد بالطاعات والدعوة، والنظر في الآيات الكونية، والآيات الشرعية، ولكن الباطل لا يزول إلا بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء كلمة الله.

 

أيها الناس: منح الله كل نبي من أنبيائه سلاحين: سلاح الدعوة, وسلاح الدعاء. فبالأول تنزل الهداية، وبالثاني تُقضى الحاجات.

 

والشيطان أول من أفسد يقين آدم على ربه وعلى أوامره، حين أغراه بالأكل من الشجرة، ليحصل له الملك والخلد، فلما خالف أمر الله بالأكل من الشجرة، أخرجه الله من الجنة، وأهبطه والشيطان إلى الأرض بعد أن تاب عليه، وحذّره وذريته من الشيطان بقوله: (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27].

 

ولا يزال الشيطان يفسد يقين الخلق، فاتبعوه إلا قليل منهم: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سبأ: 20]. فهل من داعٍ إلى الله؟, وهل من مذكّر بالله, وهل من ناصح لعباده؟ (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [إبراهيم: 52].

 

أيها الأخ الكريم: إذا طاف عقلك في الكائنات، وامتد نظرك في الأرض والسماوات والنجوم والكواكب السايرات، والشمس والقمر، والليل والنهار، رأيت على صفحاتها قدرة الله الباهرات، وامتلأ قلبك بالإيمان بالله واليقين فيه والثقة به، وانطلق لسانك بالتنزيه، والتعظيم والتسبيح، والتهليل، وخضعت مشاعرك وجوارحك لسلطان الخالق العظيم والمبدع الحكيم، فلا خالق غيره ولا رب سواه، وصدق الله العظيم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].

 

عباد الله: أليس الله -جل وعلا- هو الذي خلق الْحَبَّ وَالنَّوَى، وأخرج الميت من الحي، وأخرج الحي من الميت، أليس خالقنا سبحانه هو الذي فلق الإِصْبَاحِ، وجعل الليل ساكنًا والشمس والقمر في حسبان دقيق، واستمعوا إلى ذلك كله في كلمات وجيزة وعبارات بليغة تدل على عظيم صنع الله، قال ربنا تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام: 95- 96].

 

أخيرًا -أيها الحبيب- كن على يقين بربك، وثقة فيه، لا تحمدن أحدًا على فضل الله، ولا تذمن أحدًا على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره.

 

وإن الله بفضله وعدله قد جعل الروح والفرج في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في السخط والشك. سبحانه، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله!!.

 

سبحانه، قد يعطي وهو يمنع، وقد يمنع وهو يعطي، وقد تأتي العطايا على ظهور البلايا، وقد تأتى البلايا على ظهور العطايا. وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

 

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.

 

 

 

المرفقات

العطايا اليقين -2

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات