أحبك يا أبي – يا من مات أبوه

الشيخ راشد بن عبدالرحمن البداح

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/بعض معاناة الآباء نحو أولادهم 2/مكانة الأب وأهميته في الأسرة 3/إياك أن تخسر والدك 4/السبيل إلى رِضى الوالد 5/وصايا نافعة للأبناء في بر الآباء.

اقتباس

الأبُ سورٌ عالٍ من الأمانِ يَلُف العائلةَ، وهو عمودُ البيت، وسرُّ استقراره. إنه سندُك في هذه الحياة، إنه صاحبُ القلبِ الكبير. ووجودُه نعمةٌ من الله لا تكرَّر في الحياة مرتين. وإذا كانت الأمومةُ هي الحنان، فالأبوّة هي الأمان. وإذا كانت النساءُ أمهاتِ الرجال، فإن الرجالَ آباءُ للنساء...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ الذي أظهرَ لعبادهِ من آياتِه دليلاً، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، المتفردُ بالخلقِ والتدبيرِ جملةً وتفصيلاً، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أصدقُ الخلقِ قِيلاً، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبهِ والتابعين لهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا. أما بعد: فاتقوا اللهَ؛ فتقوى اللهِ ما جاورَتْ قلبَ امرئٍ إلا وَصَل.

 

يقول أحد الآباء: أمرٌ أفرحني وأحزنني معًا؛ دخل أولادي وقبَّلوا رأسي، ثم دخلوا على أمهم، وقبَّلوا رأسها، وجلسوا عندها. أفرحني احترامهم لنا، وأحزنني مزيدُ برِّهم بأمهم، وقلةُ جلوسهم معي.

هذه بعض معاناة الآباء نحوَ أولادهم، لكنهم يكتمونها، ولا يَبثون شجونَهم.

 

نعم؛ هذا صحيحٌ، والواقعُ يصدِّقه! امتلأتِ الجوالاتُ بالقصائدِ والأناشيدِ والمقالاتِ والخواطرِ حولَ الأم وبرِّها، وقليل منها حولَ الأب بخصوصه. وكثيرون حينما يَسمعُ عن بَرِّ الوَالِدينِ يَتبَادَرُ إلى أَذهَانِهِمْ بِرُّ الأُمهَاتِ فَحَسبُ.

 

وإذا كانت الأمومةُ هي الحنان، فالأبوّة هي الأمان. وإذا كانت النساءُ أمهاتِ الرجال، فإن الرجالَ آباءُ للنساء.

الأبُ سورٌ عالٍ من الأمانِ يَلُف العائلةَ، وهو عمودُ البيت، وسرُّ استقراره. إنه سندُك في هذه الحياة، إنه صاحبُ القلبِ الكبير. والكونُ على اتّساعِـه لا يضاهي أبداً سعةَ قلبِ الأب. ووجودُه نعمةٌ من الله لا تكرَّر في الحياة مرتين. فرْقُ الأب عن باقي الرجال؛ كفَرْقِ ماءِ زمزمَ عن باقي المياه.

 

في نظر العالم أنتَ أبي، وفي نظري أنت العالَم. ونفتخرُ بك أمام العالم كلِّه كيفما كنت. كلما احتجتُ إلى وطن يحميني، وصدرٍ يأويني ناديتُ بكلمة أبي.

وحمِدتُ ربَّ الكوْنِ فـي عليائِهِ *** أنْ كُنتَ أنتَ، وليسَ غيرُكَ والدي

 

ومهما كنا كباراً فإحساسُنا بآبائنا يبقى طفوليًّا في أعماقنا. ذلك أن الأب: هو ذاك الذي تطلبُه نجمتين، فيعود حاملاً لك السماء.

 

ينصحنا بما هو أفضلُ لنا، يعاتبُنا سراً، ويمدحُنا جهراً، وليس ثمتَ فرحٌ أعظمُ من فرح الأبِ بنجاحِ ابنِه، بل الأبُ هو الشخصُ الوحيدُ الذي يتمنى أن يكون ابنُه أرفعَ وأفضلَ منه.

 

إنه الأبُ -أيها الابنُ الكريم- أتدري من أبوك؟ أبوك من كنتَ له مجبنةً مبخلة، يَكُدُّ ويسعى، ويلاقي صروفَ الأذى؛ لكي يربِّيْك، وينفقُ عليك. إذا نظر إليك بشَّ، وإذا أقبلت عليه هشَّ، وأما تأنيبُه فدواءٌ حلوٌ يتجاوز مرارتَه.

 

ماذا تقول لله؟ واللهُ الذي يقول: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان:14].

وقال ربي: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ)[الإسراء:25] أتدري ما معنى عندك؟! عندك؛ أي التجاؤهُما إليك، واحتماؤهُما بك، وحاجتُهما لك، فما فعلتَ؟ اتقِ اللهَ تعالى أن يكون جزاؤهما بعد كلِّ تلك التضحياتِ والسنين؛ أن تتجرأَ، فتقولَ لهما: (أفّ). تدري ما معنى (أفّ) عند الله؟ معناها: جحودُ هذه التربية.

فأَحِبَّ أَباك إذا كان مُنصفاً، وإذا لم يكن كذلك فتحمَّلْه.

 

أيها الابنُ: أتدري ما الحزنُ الكبيرُ حتى على البار بوالديه؟! إنه يومُ فراقِ الأبِ عن هذه الدنيا. وأما المقصرُ والعاقُ فحزنُهما مضاعَف. يومٌ أو شهرٌ.. عامٌ أو أعوامٌ.. تساوَتِ الأزمنةُ لمن فَقَدَ والَده. عندما يموتُ الوالدُ يولدُ اليُتمُ في أعماقنا.

 

أنْ تَفقدَ أباكَ مَعناه أنكَ تخسرُ الجدار الذي تستنِدُ إليه، ويختلُّ توازُنُ البيت.  أنْ تفقِدَ أباك مَعناه أن تفقدَ المَظلة التي تحميك. أنْ تفقدَ أباك ستدرِكَ أن هناك بكاءٌ دون دموعٍ، وكلُّ فرحةٍ لا تكتمل لأن الأبَ غيرُ موجود.

 

 

الخطبة الثانية:

 

فإن سألتَ أيها الابنُ: ما السبيل إلى رِضى الوالد؟ فالجوابُ: هي في الوصايا الخمس منَ اللهِ لك: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:23-24]، هذه الخمسُ اعتصِمْ بها: أمَرَ بقولين، ونهى عن قولين، وأمَرَ بفعلٍ جامعٍ.

 

(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)[لقمان:14]، قال سفيانُ بنُ عيينةُ -رحمه الله-: "إذا صليتَ الصلواتِ الخمسَ فقد شكرتَ اللهَ، وإذا دعوتَ لوالديكَ في أدبارِ الصلواتِ الخمسِ فقد شكرتَ لوالديكَ"( تفسير الثعلبي 7/ 313).

 

فيا أيها البار: أتريدُ أن يزيدَ برُّك بوالديكَ ولو كانا تحتَ الثرى؟! إذًا: فلتُكثر من الدعاءِ لهما، وخصوصاً دُبُرَ كلِّ الصلواتِ المكتوبةِ والنافلة. ويا مَنْ مَنَّ الله عليه بحياةِ والديه أو أحدِهما: احذرْ، ثم احذرْ، ثم احذرْ أن تفوتَك الفرصة، بادرْ بالبر، واطَّرِحِ العقوقَ والهجرَ، فسَيَأْتِي اليومُ الذي لَنْ تَرَى فِيهِ أَبَاكَ، ومَن جَرَّبَ الحِرمَانَ عَرَفَ، وَسَتَبْكِي نَدَمًا أَنْ لَوْ بَرَرْتَ بِهِ، فَاتَّقِ اللهَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ اللِّقَاءُ إلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ.

 

وإنما هيَ أيامٌ قلائلُ؛ تُضحّيْ من أجل رضاهُ، في رضا اللهِ سبحانه، ثم تفوزُ بعدها بالبركةِ في الدنيا، وبجنةِ النعيم في الآخرة.

 

فاللهم ربَّنا أوزعنا أن نشكرَ نعمتَك التي أنعمتَ علينا وعلى والدَينا، وأن نعملَ صالحاً ترضاه، وأدخلنا برحمتِك في عبادِك الصالحين. اللهم ارزقهما عَيشاً قارَّاً، ورزقاً دارَّاً، وعملاً بارَّاً.

 

اللهم مَن كان منهما حياً فأطِل في عمرِه، وأحسنْ في عملِه وأحسِنْ له الخاتمة، واجعله راضيًا عنا، وادفع عنه البلاء والمكروه. اللهم ومَن كان منهما قد وارَيناه في التراب، ففارقَنا فضلُ مُصاحبتِه وبرِّه، اللهم فنوِّر له في قبره، ووسع له فيه. اللهم واجمعنا بهما في الفردوس.

 

اللهم واحفظ علينا ديننا، وأعراضَنا ومقدساتِنا، وبارك في أرزاقنا واقض ديوننا، وبارك في أهلنا، وارزقنا ونساءنا مزيدَ التبصر بكيد متبعي الشهوات، الذين يريدون أن نميلَ ميلاً عظيمًا.

 

اللهم يا من حفِظت بلادَنا طيلة هذه القرون، وكفيتها شر العاديات الكثيرات المدبَّرات الماكرات، اللهم فأدم بفضلك ورحمتك حفظَها من كل سوء ومكروه، اللهم عُم أوطانَ المسلمين بالخير والسلام.

 

اللهم عليك بالحوثيين والنصيريين والمتربصين والقتلة المفسدين، وكل محارب للدين.

اللهم احفظ لنا ملكَنا وأمدَّه بالصحة في طاعتك، ومصلحة الإسلام والمسلمين. وأعنه ووليَّ عهده ببطانةٍ صالحةٍ ناصحة.

 

اللهم واحفظ جنودَنا في حراساتِهم وثكناتِهم وتفتيشاتِهم، وفي الجمارك والطرقِ والحدودِ والمساجد، واخلفهم في أهليهم بخير.

 

المرفقات

أحبك يا أبي – يا من مات أبوه

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات