أحاديث مختارة تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة

خالد بن علي أبا الخيل

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الحياة الدنيا
عناصر الخطبة
1/الغاية من الخلق 2/الدنيا وسيلة لا غاية 3/قصص وصور مشرقة في زهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة في الدنيا

اقتباس

الحياة عبادة وطاعة، والسلف دنياهم بأيديهم لا في قلوبهم، بخلاف زماننا ممن اتخذ الدنيا غاية، ودخلت قلبه، وتمكنت في كل زاوية، فإليكم مواقف وعبر، ونماذج وصور، تبين حقيقة الدنيا، وما عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأوفياء، وأنها لا تزن عند الله شيئا، فهو...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، تذكرة لأولي القلوب والأبصار، وتبصرة لذوى الألباب والاعتبار، الذى أيقظ من خلقه من اصطفاه فزهدهم في هذه الدار، وشغلهم بمراقبته وإدامة الإفكار، وملازمة الاتعاظ والادكار، ووفقهم للدأب في طاعته، والتأهب لدار القرار، والحذر مما يسخطه ويوجب دار البوار، والمحافظة على ذلك مع تغاير الأحوال والأطوار‏.‏

وأشهد أن لا إله إلا الله البر الكريم، الرؤف الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الهادى إلى صراط مستقيم، والداعي إلى دين قويم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر النبيين، وآله، وسائر الصالحين‏.‏

 

فاتقوا الله، فالتقوى هي الكنز الأوفى، والدرع الأقوى.

 

أيها المسلمون: يقول الله -جل في علاه-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].

 

وهذا تصريح بأنهم خلقوا للعبادة، فحق عليهم الاعتناء بما خلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة، فإنها دار نفادٍ لا محل إخلادٍ، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشروع انفصام لا موطن دوام، ‏فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العباد، وأعقل الناس فيها هم الزهاد‏.

 

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24].

 

إن لله عبادًا فُطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحي وطنا

جعلوها لُجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا

 

فحق على المكلف أن يذهب بنفسه مذهب الأخيار، ويسلك مسلك أولي النهى والأبصار، فالسلف الدنيا عندهم وسيلة لا غاية، والأصل العمل للآخرة: (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].

 

الحياة عبادة وطاعة، والسلف دنياهم بأيديهم لا في قلوبهم، بخلاف زماننا ممن اتخذ الدنيا غاية، ودخلت قلبه، وتمكنت في كل زاوية، فإليكم مواقف وعبر، ونماذج وصور، تبين حقيقة الدنيا، وما عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأوفياء، وأنها لا تزن عند الله شيئا، فهو أكرم الخلق، فنأخذ الدروس والفوائد، ونستعد بالعمل والأوامر، وهي أحاديث مختارة تزهد في الدنيا، وترغب في الآخرة، وهي الحلقة الثانية.

 

ومضت الحلقة الأولى في جمعة ماضية، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما شبع آل محمد بخبز من شعير يومين متتابعين، حتى قبض".

 

وفي رواية: "مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةِ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاثُ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ".

 

وعن عروة عن عائشة كنت تقول: "يَا ابْنَ أُخْتِي، وَاللهِ إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلالِ، ثُمَّ الْهِلالِ، ثُمَّ الْهِلالِ، ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ نَارٌ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-، قُلْتُ: يَا خَالَةُ، وَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الأسودان التمر والماء".

 

وعن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير".

 

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "لم يأكل النبي -صلى الله عليه وسلم- على خوان حتى مات، وما أكل خبزًا مرقَّقًا، حتى مات".

 

وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيت نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه".

 

والدقل: تمر رديء.

 

وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ" فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- مَنَاخِلُ؟ قَالَ: "مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- مِنْخَلا مِنْ حِينِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ" قُلْتُ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ شَعِيرًا غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: "كُنَّا نَطْحَنُهُ فَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَدْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ".

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: "مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ"؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا"، فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيْنَ فُلَانٌ؟" قَالَتْ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ"، فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ" [أخرجه مسلم].

 

وعن خالد بن عمرو العدوي قال: "خطبنا عتبة بن غزوان، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما، وعند الله صغيرا".

 

وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "أَخْرَجَتْ لَنا عائِشَةُ -رضي اللَّهُ عنها- كِساء وَإِزاراً غَلِيظاً، قالَتْ: قُبِضَ رسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- في هذين".

 

وعنْ سَعد بن أبي وَقَّاصٍ -رضيَ اللَّه عنه- قال: "إِنِّي لأَوَّلُ العَربِ رَمَى بِسَهْمِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنا نَغْزُو مَعَ رسولِ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- ما لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الحُبْلَةِ، وَهذا السَّمَرُ، حَتى إِنْ كانَ أَحَدُنا لَيَضَعُ كما تَضَعُ الشاةُ مالَهُ خَلْطٌ" [متفق عليه].

 

وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قال: "واللَّه الذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ، إِنْ كُنْتُ لأعَتمِدُ بِكَبِدِي على الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وإِنْ كُنْتُ لأشُدُّ الحجَرَ على بَطْني منَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يوْماً على طَرِيقهِمُ الذي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ النَّبِيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وعَرَفَ ما في وجْهي ومَا في نَفْسِي، ثُمَّ قال: "أَبا هِرٍّ" قلتُ: لَبَّيْكَ يا رسولَ اللَّه، قال: "الحَقْ" ومَضَى، فَاتَّبَعْتُهُ، فدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لي فدَخَلْتُ، فوَجَدَ لَبَناً في قَدحٍ، فقال: "مِنْ أَيْنَ هذَا اللَّبَنُ؟" قالوا: أَهْداهُ لَكَ فُلانٌ أَو فُلانة، قال: "أَبا هِرٍّ" قلتُ: لَبَّيْكَ يا رسول اللَّه، قال: "الحق إِلى أَهْل الصُّفَّةِ فادْعُهُمْ لي" قال: "وأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضيَافُ الإِسْلام، لا يَأْوُون عَلى أَهْلٍ، ولا مَالٍ، ولا على أَحَدٍ، وكانَ إِذَا أَتَتْهُ صدقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، ولَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئاً، وإِذَا أَتَتْهُ هديَّةٌ أَرْسلَ إِلَيْهِمْ، وأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فيها، فسَاءَني ذلكَ، فَقُلْتُ: وما هذَا اللَّبَنُ في أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْتَ أَحَقَّ أَن أُصِيب منْ هذا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذا جاؤوا أَمَرنِي، فكُنْتُ أَنا أُعْطِيهِمْ، وما عَسَى أَن يبْلُغَني منْ هذا اللَّبَنِ" الحديث [رواه البخاري].

 

وعن مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّه عنه- قال: "لَقَدْ رأَيْتُني وإِنِيّ لأَخِرُّ فِيما بَيْنَ مِنْبَرِ رسولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إلى حُجْرَةِ عائِشَةَ -رضي اللَّه عنها- مَغْشِيّاً عَلَيَّ، فَيجِيءُ الجَائي، فيَضَعُ رِجْلَهُ عَلى عُنُقي، وَيرَى أَنِّي مَجْنونٌ وما بي مِن جُنُونٍ، وما بي إِلاَّ الجُوعُ" [رواه البخاري].

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ".

 

وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: "كُنَّا جُلُوساً مَعَ رسولِ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- إِذْ جاءَ رَجُلٌ مِن الأَنْصارِ، فسلَّم علَيهِ، ثُمَّ أَدبرَ الأَنْصَارِيُّ، فقال رسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: "يَا أَخَا الأَنْصَارِ، كَيْفَ أَخِي سعْدُ بنُ عُبادةَ؟" فقال: صَالحٌ، فقال رسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: "مَنْ يعُودُهُ مِنْكُمْ؟" فَقام وقُمْنا مَعَهُ، ونَحْنُ بضْعَةَ عشَر ما علَينَا نِعالٌ وَلا خِفَافٌ، وَلا قَلانِسُ، ولا قُمُصٌ نمشي في تلكَ السِّبَاخِ، حَتَّى جِئْنَاهُ، فاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حوله حتَّى دنَا رسولُ اللّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- وَأَصْحابُهُ الَّذِين مَعهُ" [رواه مسلم].

 

اللهم لك الحمد على نعمك المتكاثرة، وآلائك المتناثرة: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20].

 

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

 

ومن المواقف المزهرة والصور المشرقة: ما جاء عن أبي عبدِ اللَّه جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما- قال: "بَعَثَنَا رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-، وَأَمَّرَ عَلَينَا أَبَا عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه-، نتَلَقَّي عِيراً لِقُرَيْشٍ، وَزَّودَنَا جِرَاباً مِنْ تَمْرٍ لَمْ يجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدةَ يُعْطِينَا تَمْرةً تَمْرَةً، فَقِيل: كَيْف كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قال: نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيهَا مِنَ المَاءِ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلى اللَّيْلِ، وكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصيِّنا الخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالمَاءِ فَنَأْكُلُهُ" الحديث [رواه مسلم].

 

ومن النماذج الحية لحالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه: ما جاء عن جابر قال: "إِنَّا كُنَّا يَوْم الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرضَتْ كُدْيَةٌ شَديدَةٌ، فجاؤوا إِلى النبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- فقالوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضتْ في الخَنْدَقِ، فقال: "أَنَا نَازِلٌ" ثُمَّ قَامَ وبَطْنُهُ معْصوبٌ بِحَجرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقاً، فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- المِعْول، فَضرَب فعاد كَثيباً أَهْيَلَ، أَوْ أَهْيَمَ.

 

فقلتَ: يا رسولَ اللَّه ائْذَن لي إِلى البيتِ؟ فقلتُ لامْرَأَتي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- شَيْئاً مافي ذلكَ صبْرٌ فِعِنْدَكَ شَيءٌ؟ فقالت: عِندِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبحْتُ العَنَاقَ، وطَحَنْتُ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللحمَ في البُرْمَة، ثُمَّ جِئْتُ النبيَّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- وَالعجِينُ قَدْ انْكَسَرَ، والبُرْمَةُ بيْنَ الأَثَافِيِّ قَد كَادَتَ تَنْضِجُ.

 

فقلتُ: طُعَيِّمٌ لي فَقُمْ أَنْت يا رسولَ اللَّه وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ؟ قال: "كَمْ هُوَ؟" فَذَكَرتُ له، فقال: "كثِير طيب، قُل لَهَا لا تَنْزِع البُرْمَةَ، ولا الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتيَ" فقال: "قُومُوا" فقام المُهَاجِرُون وَالأَنْصَارُ، فَدَخَلْتُ عليها، فقلت: وَيْحَكِ جَاءَ النبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- وَالمُهَاجِرُونَ، وَالأَنْصارُ وَمن مَعَهم، قالت: هل سأَلَكَ؟ قلتُ: نعم، قال: "ادْخُلوا وَلا تَضَاغَطُوا" فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيجْعَلُ عليهِ اللحمَ، ويُخَمِّرُ البُرْمَةَ والتَّنُّورَ إِذا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ وَيَغْرفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ مِنه.

 

وفي روايةٍ: قال جابرٌ: لمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيتُ بِالنبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- خَمَصاً، فَانْكَفَأْتُ إِلى امْرَأَتي، فقلت: هل عِنْدَكِ شَيْء، فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- خَمَصاً شَدِيداً، فَأَخْرَجَتْ إِليَّ جِراباً فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ، داجِنٌ فَذَبحْتُهَا، وَطَحنتِ الشَّعِير، فَفَرَغَتْ إلى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا في بُرَمتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إلى رسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-، فَقَالَتْ: لا تفضحْني برسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- ومن معَهُ، فجئْتُه فَسَارَرْتُهُ، فقلتُ: يا رسول اللَّه، ذَبَحْنا بُهَيمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعالَ: أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ رسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- فقال: "يَا أَهْلَ الخَنْدَق: إِنَّ جابراً قدْ صنَع سُؤْراً فَحَيَّهَلاًّ بكُمْ" فقال النبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: "لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلا تَخْبِزُنَّ عجِينَكُمْ، حَتَّى أَجيءَ" فَجِئْتُ، وَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- يقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتي، فقالتْ: بِك وَبِكَ، فقلتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ، فَأَخْرَجَتْ عجيناً فَبسَقَ فِيهِ، وبارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلى بُرْمَتِنا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قال: "ادْعُ خَابزَةً فلْتَخْبزْ مَعكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُم وَلا تَنْزلُوها" وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّه لأَكَلُوا حَتَّى تَركُوهُ وَانَحرَفُوا، وإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَأَنَّ عَجِينَنَا لَيخْبَز كَمَا هُوَ.

 

واسمع إلى هذه القصة وما فيها من الزهد والبركة، فعن أنس قال أَبو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْم: "قَد سَمعتُ صَوتَ رسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- ضَعِيفاً أَعرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَل عِندَكِ مِن شيءٍ؟ فقالت: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقَرَاصاً مِن شَعيرٍ، ثُمَّ أَخَذَت خِمَاراً لَهَا فَلَفَّتِ الخُبزَ بِبَعضِه، ثُمَّ دسَّتْهُ تَحْتَ ثَوبي وَرَدَّتْني بِبَعضِه، ثُمَّ أَرْسلَتْنِي إِلى رسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-، فَذَهَبتُ بِهِ، فَوَجَدتُ رسولَ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- جالِساً في المَسْجِدِ، ومَعَهُ النَّاسُ، فَقُمتُ عَلَيهِمْ، فقالَ لي رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: "أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟" فقلت: نَعم، فقال: "أَلِطَعَام؟" فقلت: نَعَم، فقال رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: "قُومُوا" فَانْطَلَقُوا وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيديِهِم، حَتَّى جِئتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخبَرتُهُ، فقال أَبُو طَلْحَةَ: يا أُمِّ سُلَيمٍ، قَد جَاءَ رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- بالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا ما نُطْعِمُهُمْ؟ فقالتْ: اللَّهُ وَرسُولُهُ أَعْلَمُ.

 

فَانطَلَقَ أَبُو طَلْحةَ حتَّى لَقِيَ رسولَ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-، فأَقبَلَ رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- مَعَه حَتَّى دَخَلا، فقال رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: "هَلُمِّي ما عِندَكِ يا أُمِّ سُلَيْمٍ" فَأَتَتْ بِذلكَ الخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رسولُ اللَّه ففُتَّ، وعَصَرَت عَلَيه أُمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً فَآدَمَتْهُ، ثُمَّ قال فِيهِ رسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- ما شَاءَ اللَّه أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: "ائذَن لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُم، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثم قال: "ائذَن لِعَشَرَةٍ" فَأَذنَ لهم، فَأَكَلُوا حتى شَبِعُوا، ثم خَرَجوا، ثُمَّ قال: "ائذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لهُم حتى أَكل القَوْمُ كُلُّهُم وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعونَ رَجُلاً أَوْ ثَمَانُونَ" [متفق عليه].

 

وفي روايةٍ: "فما زال يَدخُلُ عشَرَةٌ وَيَخْرُجُ عَشَرَةٌ، حتى لم يَبْقَ مِنهم أَحَدٌ إِلا دَخَلَ، فَأَكَلَ حتى شَبِعَ، ثم هَيَّأَهَا فَإِذَا هِي مِثلُهَا حِينَ أَكَلُوا مِنها".

 

وفي روايةٍ عن أَنسٍ قال: "جِئتُ رسولَ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- يوْماً فَوَجَدتُهُ جَالِساً مع أَصحابِهِ، وَقد عَصَبَ بَطْنَهُ بِعِصابَةٍ، فقلتُ لِبَعضِ أَصحَابِهِ: لِمَ عَصَبَ رسولُ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- بطْنَهُ؟ فقالوا: مِنَ الجُوعِ".

 

فَذَهَبْتُ إِلى أبي طَلحَةَ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ سُليمٍ بنتِ مِلحَانَ، فقلتُ: يَا أَبتَاه، قد رَأَيْت رسولَ اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- عَصبَ بطنَهُ بِعِصَابَةٍ، فَسَأَلتُ بَعضَ أَصحَابِهِ، فقالوا: مِنَ الجُوعِ، فَدَخل أَبُو طَلحَةَ على أُمِّي، فقال: هَل مِن شَيءٍ؟ قالت: نعم عِندِي كِسَرٌ مِنْ خُبزٍ وَتمرَاتٌ، فإِنْ جَاءَنَا رسول اللَّه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- وَحْدهُ أَشبَعنَاه، وإِن جَاءَ آخَرُ معه قَلَّ عَنْهمْ. وذَكَرَ تَمَامَ الحَديث.

 

هذا، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.

 

 

المرفقات

أحاديث مختارة تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات