أثر الكلام الطيب على الفرد والمجتمع

صلاح بن محمد البدير

2022-09-23 - 1444/02/27 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/فوائد التواصل والحديث مع الناس 2/بعض آداب الحديث 3/الوالدان أولى الناس بالكلام الطيب 4/الوصية بحسن الكلام بين الزوجين 5/أثر الكلام الطيب في نفوس المتلقين 6/على المسلم أن يعرف لأهل الفضل مكانتهم

اقتباس

النصح إذا اكتسى لفظًا حسنًا سهلًا، صار في القلب أحلى، وللصدر أملى، وإذا صيغ بالوصف الرفيع، وزُخرِفَ بالمعنى الجميل البديع لَانَتْ له الأسماعُ، ومَالَتْ إليه الطباعُ، فلا تُخاطِبوا المقصرينَ بخطاب التنفير والتقنيت والتيئيس، ولا تقابلوهم بالتقطيب والتعبيس...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، مَنَّ على مَنْ شاء بحلاوة المنطق وطِيب الكلام وأكرَمَ، أحمده على ما أسبغ من العطاء وأنعَمَ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادة تهدي إلى الطريق الأقوم، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المخصوص بجوامع الكلم وبدائع الحكم، وودائع العلم والحِلْم والكرم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 

أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: اتقوا اللهَ تقوى مَنْ تذكَّر الآجالَ واستعدَّ للارتحال ولم تخدعه زخارفُ الآمال؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

أيها المسلمون: المحادَثة مع الناس صلة لا محيد عنها، فيها تحصيل للعلوم، وتنوير للفهوم، وتلقيح للعقول، وترويح للقلوب، وتسريح للهموم، وحُسْن المحادَثة وجَمال الكلام عند المخاطبة، وحلاوة المنطق عند المقابلة والمواجهة والمجالسة، من كرائم الخصال وأشهرها مَنقَبَةً، وأرفعها درجةً، ومن وشى مقاله، وزوق كلامه، وهذب لسانه، وجمل بيانه، وزين خطابه، تقديرًا وتوقيرا للمخاطبين انقادت له القلوب بالمحبة، وسرت إليه النفوس بالوداد.

 

وقد جَبَلَ اللهُ القلوبَ على حُبّ مَنْ خاطبها بالألفاظ المستعذبة الرائقة سمَّاعًا، كما جبلها على بغض فاسد اللسان، وعلى مقت الصخاب الحديد السليط الشتام، وعلى كره الفاحش البذي الذي لا يبالي بما نطق من الكلام، وحلاوة المنطق سلوى لكل محروم ومكلوم ومهموم.

لا خيلَ عندكَ تُهدِيها ولا مالُ *** فليُسعِدِ النطقُ إن لم يُسعِد الحالُ

 

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والكلمة الطيبة صدقة"(مُتَّفَق عليه)، فلا تُخاطِبوا الناسَ إلا بأحسن الألفاظ، وأجملها وألطفها، وأبعدِها عن اللفظ الخسيس المفحش، والجافي الغليظ، وأسلَمِها ممَّا فيه ضَعةٌ أو نقيصةٌ أو حطٌّ أو زرايةٌ بالمخاطَبِينَ، وأنقاها ممَّا فيه تهكُّمٌ أو تحقيرٌ أو تصغيرٌ أو تقليلٌ للسامعين، قال الله -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[الْبَقَرَةِ: 83]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: كلموهم طيِّبًا، ولينوا لهم جانبًا"، وقال بعض الحكماء: "الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوانح"، وقال الله جل وعز: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)[الْإِسْرَاءِ: 53]، وقد قيل: "الحرب أولها كلام وآخرها اصطلام".

كبيرُ الشرِّ أولُه صغيرٌ *** كذاك الحرب يقدمها الكلامُ

 

قال محمد بن علي: "سلاحُ اللئامِ قبيحُ الكلامِ"، والمرء لا يَرشَح لسانُه إلا بما طُبِعَ عليه جَنانُه، ولا يُنبت البقلةَ إلا الحقلةُ.

وإنَّ لسانَ المرءِ مفتاحُ قلبه *** إذا هو أَبدَى ما يجن من الفم

 

أيها المسلمون: وأَوْلَى مَنْ تتأكد العنايةُ بالألفاظ عند محادثته ومخاطبته الوالدان، ولا يخاطب الوالدان إلا بالمعاني الجليلة، المزوقة المحسنة، بحلل الألفاظ الشريفة؛ لعلو مكانتهما، ورفعة قدرهما، وعظيم حقهما، قال الله جل وعز: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[الْإِسْرَاءِ: 23]، فنهى عن مخاطبتهما بصوت الأفاف المتضجر المتكره المتثاقل، وأمر بالقول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب، ويستدعيه حفظ الحق والمنزلة، ولا يدعوهما بأسمائهما، ولا يرفع صوته بلا فائدة عند مقامهما؛ لأن ذلك من الجفاء وسوء الأدب، قال أبو هريرة -رضي الله عنه- في حق الوالد: "لا تسمه باسمه، ولا تمش أمامه، ولا تجلس قبلَه"(رواه البخاري في الأدب المفرد).

 

أيها الزوجةُ المباركةُ: زوجُكِ كنُّكِ وظِلُّكِ، وعضادتُكِ، وبابُ سعادتِكِ، فلا تخاطبيه بما يؤذيه، ولا تطلقي لسانك بالسوء فتغضبيه، وعظميه وبجليه، فقد سمى الله الزوج سيدًا فقال: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ)[يُوسُفَ: 25]، وسُمي الزوج سيدًا؛ لأنَّه يسوس زوجته ويقوم عليها بالأمر والنهي، وقالت امرأة سعيد بن المسيب: "ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلموا أمراءكم"(رواه أبو نعيم).

 

أيها الزوج المبارك: زوجتك حليلتك وقرينتك، وعقيلتك وقعيدتك، ترجو نفعك ورفدك، ورقة قلبك، وأمان صوتك، فابسط لها لسان التحنن والتحفي، والتكرمة والملاطفة والمبارة، ولا تُهِينَنَّها بالتصميت والتسكيت، ولا تضجرنها بالتقريع والتعنيف والتبكيت، ولا تُخِيفَنَّها بالتطليق والتفريق والتشتيت، وقد قيل: "النساءُ يَغلِبنَ الكرامَ، ويَغلِبُهُنَّ اللئامَ".

 

أيها الآباء والأمهات: فالولد ثمرة القلب وريحانة الفؤاد، فأسمِعُوه خطابَ الرأفة والرحمة، والتحبُّب والترفق، وأظهِروا له لسانَ التشجيع والتحفيز والاستمالة والإقناع، ومَنْ وصَف ولدَه بالبلادة والبلاهة والغفلة والخُرق فقد وقَع في التعنيف اللفظيّ المنافي لكمال تربيته، وإن لم تصل تلك الألفاظ إلى حد التحريم، ولا يحل للوالد أن يكون شتَّامًا أو لعَّانًا لأهله وأولاده، ومن اعتاد شتم أهله وأولاده بالكلمات المحرمة شرعًا فقد سقطَتْ عدالتُه، ورُدَّتْ شهادتُه عندَ بعض الفقهاء، وينبغي الدعاءُ للأولاد بالهداية والتوفيق والصلاح، ولا يجوز الدعاء عليهم، ومن الوالدين من يَعجَل حالَ الضجر والغضب؛ لقلة تدبُّرِه، وعدم تثبُّتِه، وضَعْف صبره، فيدعو على نفسه وأهله وولده، بالموت أو الهلاك أو الدمار، أو بما لا يحب أن يستجاب له، ولو استجيبت له دعوة السوء كما استجيبت له دعوة الخير لهلك وندم، قال جل وعز: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)[الْإِسْرَاءِ: 11]، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم"(رواه مسلم).

 

أيها المسلمون: والنصح إذا اكتسى لفظًا حسنًا سهلًا، صار في القلب أحلى، وللصدر أملى، وإذا صيغ بالوصف الرفيع، وزُخرِفَ بالمعنى الجميل البديع لَانَتْ له الأسماعُ، ومَالَتْ إليه الطباعُ، فلا تُخاطِبوا المقصرينَ بخطاب التنفير والتقنيت والتيئيس، ولا تقابلوهم بالتقطيب والتعبيس، وخاطبوهم بخطاب الترفق والتشويق والترغيب، عن جندب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدث أن رجلًا قال: "واللهِ لا يغفر الله لفلان، وإن الله -تعالى- قال: من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألَّا أغفر لفلان؟! فإني قد غفرتُ لفلان وأحبطتُ عملك" أو كما قال، (رواه مسلم)، قال أبو هريرة: "تكلَّم بكلمة أوبَقَتْ دنياه وآخرته"، قال الله -تعالى-: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)[طه: 44]؛ أي: لطيفًا رقيقًا؛ لأنَّ تليينَ القولِ يكسِر سَوْرةَ عنادِ العتاة، ويُليِّن قسوةَ الطغاةِ.

 

قال زازان الكوفي التابعي، عن سبب إقباله على الله -تعالى-: "كنتُ غلامًا حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور، فكنتُ مع صاحب لي وأنا أغنيهم، فمر ابن مسعود فدخل ثم قال: لو كان ما يُسمَع من حُسْن صوتك يا غلامُ بالقرآن كنتَ أنتَ أنتَ. ثم مضى، فقلتُ لأصحابي: مَنْ هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود -رضي الله عنه-"، فأُلقي في نفسه التوبةَ، فتاب وحسُنَت توبتُه، ولزم ابنَ مسعود -رضي الله عنه- حتى صار إمامًا في العلم.

 

أقول ما تسمعون وأستغفِر الله فاستغفِروه، إنَّه كان للأوابينَ غفورًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله آوى مَنْ إلى لُطفه أوى، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، داوى بإنعامه مَنْ يئس من أسقامه الدوا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، مَنِ اتّبَعَه كان على الْهُدَى، ومَنْ عصاه تردى في هوة الهوى، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه، صلاةً تبقى، وسلامًا يَترَى.

 

أما بعدُ، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبوه وأطيعوه ولا تعصوه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].

 

أيها المسلمون: ومن ارتفع قدرُه وعظُمَ شأنُه فلا يُخاطَب إلا بما يليق بمقامه واحترامه، ومن جليل الأدب معرفة الرجال، ومعاشرتهم ومخاطبتهم على حسب ما يستحقونه ويستأهلونه، ومَنْ فَحُشَ لفظُه وساء أدبُه وكان بذيًّا مُولَعًا بالهجو والحط من ذوي الأقدار كرهه الناس ولفظه الجلاس، قال أبو عثمان: "مَنْ جل مقداره في نفسه، جلَّت أقدارُ الناس عندَه، ومَنْ صَغُرَ قدرُه في نفسه صَغُرَتْ أقدارُ الناسِ عندَه"، وقال سفيان بن عيينة: "إنَّه مَنْ جَهِلَ أقدارَ الرجال فهو بِقَدْرِ نفسِه أجهلُ".

 

أيها المسلمون: وينبغي للنظير أن يخاطب نظيره في المهنة، وقرينة في الوظيفة، وصاحبه في الخلطة والشركة بخطاب الأنداد، لا بخطاب الأعداء، ويتحدث معه بلسان المقارَبة، لا بلسان المغالَبة، ومِنَ الناس مَنْ يتعمَّد إساءةَ مُخاطَبة قرينه أو نظيره، ويروم مشاغبةَ زميله بحضرة الناس؛ بِقَصدِ الغضِّ منه، والحطِّ من مقداره، ويجادله في وجهه بما يرتفع عنه أرباب المروءات، ويواجهه بخطاب الإغضاب والإضجار، ويلصق به التهم، ويصغره بالإفك، ويحارب بالكذب، وذلك فعل المغرور المستأثر الطامع، الذي يروم الصعود على حقوق نظرائه، والاستحواذ على حقوق شركائه، ويطمح لإقصاء الآخَرين بالمكائد والخديعة والدناءة، ويشتري النصر بالغدر، والعلاء بالافتراء، ويرجو التوفيق بالتلفيق، وذلك ديدن مَنْ كان مذهبه النفاق، وليس مذهبه حسن الأخلاق، وقانا الله وإيَّاكم سبل السفهاء والجاهلين، وسلك بنا سبيل أهل الدين واليقين.

 

وصلُّوا وسلِّموا على أحمد الهادي شفيع الورى طُرًّا، فمَنْ صلى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.

 

اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا وسيدنا محمد، بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب، الشافع المشفَّع يوم الحساب، اللهم صل عليه وعلى جميع الآل والصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهاب.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، اللهم احفظ بلادنا، المملكة العربيَّة السعوديَّة، من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وحقد الحاقدين، وحسد الحاسدين، يا ربَّ العالمينَ، وجميع بلاد المسلمين يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرَنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين يا ربَّ العالمينَ، اللهم احفظ جنودنا، واحم حدودنا، يا ربَّ العالمينَ، احفظ جنودنا يا ربَّ العالمينَ، احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا وثغورنا، اللهم اشف مرضاهم، وارحم موتاهم، وتقبلهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا ربَّ العالمينَ، اللهم اجعل دعاءنا مسموعًا، ونداءنا مرفوعًا، يا كريم يا عظيم يا رحيم.

المرفقات

أثر الكلام الطيب على الفرد والمجتمع.pdf

أثر الكلام الطيب على الفرد والمجتمع.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات