أثَر العبادة المقبولة في النفس والسلوك

عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان

2021-05-21 - 1442/10/09 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/للعبادة المقبولة أثر حسن في سلوك صاحبها ونفسه 2/على المسلم أن يحرص على المداومة على الطاعة 3/التحذير من الإفلاس وإضاعة ثواب الأعمال 4/التوصية بصيام ست من شوال 5/على المسلم ألا يغتر بعمله

اقتباس

إنَّ للعبادة أثرًا في سلوك صاحبها، فالصلاة -مثلًا- تنهى عن الفحشاء والمنكَر، وإنَّ من علامات قَبول الأعمال تغيُّر الأحوال إلى أحسن حال، فما أحسَنَ الحسنةَ بعد السيئة تمحوها، وأحسنُ منها الحسنةُ بعدَ الحسنةِ تتلوها...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي وفق من شاء لهدايته، وهدى من شاء لطاعته، وتقبل من المتقين فأكرمهم بمرضاته، نحمده وهو أهل الثناء والحمد والنعم، وأهل الفضل والجود والكرم، نحمده وهو حسبنا وإليه الملجأ من كل بلاء ونِقَم، وهو الملاذ من كل هم وحزن وألم، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكَّل عليه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومَنْ يضلل فلا هاديَ له، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، وصفيُّه من خَلقِه وخليلُه، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومَنْ دعا بدعوته إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين؛ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131].

 

معاشر المسلمين: قبل أيام ودعنا شهر رمضان، أرجو الله أن نكون من المقبولين الفائزين فيه، وأن يثبِّت قلوبَنا وأقدامَنا على الصراط المستقيم، وأن يعيننا على طاعته، ويجعلنا من أهل مرضاته، انقضى شهر رمضان، موسم بركة وفضل وخير وبر، قد انقضت أيامُه، وطُويت أعمالُه، وفاز فيه مَنْ فاز، وحُرِمَ فيه مَنْ حُرِمَ، فيا ليت شعري مَنِ المقبولُ فنَهُنَيِّه، ومَنِ المردودُ فنُعزِّيه.

 

أيها الناس: جدِّدُوا العهدَ مع الله في كل زمان، ولا تقطعوا الصلةَ بالله بعد رمضان، فإنه قريبٌ مجيبٌ، يُجِيب الدعاءَ، ويقضي الحوائجَ، خزائنُه ملأى لا تَنفَدُ، ويداه مبسوطتانِ، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرَّحْمَنِ: 29]، حي قيوم، (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)[الْبَقَرَةِ: 255].

 

معاشر المسلمين: إنَّ للعبادة أثرًا في سلوك صاحبها، فالصلاة -مثلًا- تنهى عن الفحشاء والمنكَر، وإنَّ من علامات قَبول الأعمال تغيُّر الأحوال إلى أحسن حال، فما أحسَنَ الحسنةَ بعد السيئة تمحوها، وأحسنُ منها الحسنةُ بعدَ الحسنةِ تتلوها، سَلُوا اللهَ الثباتَ على الطاعات إلى الممات، وتعوَّذوا به من تقلُّب القلوب، ومِنَ الحَوْر بعد الكَوْر، اللهم يا مقلبَ القلوبِ ثبِّتْ قلوبَنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.

 

عبادَ اللهِ: اسألوا الله الثبات على طاعته، صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "‌إِنَّ ‌أَحَدَكُمْ ‌لَيَعْمَلُ ‌بِعَمَلِ ‌أَهْلِ ‌الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا"(متفق عليه).

 

عبادَ اللهِ: إياكم والإفلاسَ، احرصوا على القبول، واجتنِبوا أسبابَ ضياع الأجر، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: ‌الْمُفْلِسُ ‌فِينَا ‌مَنْ ‌لَا ‌دِرْهَمَ ‌لَهُ ‌وَلَا ‌مَتَاعَ قَالَ: "فَإِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ، قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْضَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"(أخرجه مسلم).

 

وعن ثوبان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَأَعْلَمَنَّ ‌أَقْوَامًا ‌مِنْ ‌أُمَّتِي ‌يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(أخرجه ابن ماجه).

 

معاشر المسلمين: إن طرق الخيرات كثيرة، فأين السالكون؟! وإن أبوابها لَمفتوحة، فأين الداخلون؟! وإن الحق لَواضح لا يزيغ عنه إلا الهالكون، فخُذُوا -عباد الله- من كلِّ طاعةٍ بنصيب؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْحَجِّ: 77].

 

وإن الصبر على المداوَمة والاستقامة والثبات من أعظم القربات، فالثباتُ والاستمرارُ دليلٌ على الإخلاص والقبول، وأحب الأعمال إلى الله أدومها، وكان عملُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديمةً.

 

فالثباتَ الثباتَ على الطاعة، والاستقامةَ الاستقامةَ على البِرِّ، والمداومةَ المداومةَ على العمل.

 

اللهم أصلِحْ لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِحْ لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واجعَلِ الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر يا ربَّ العالمينَ.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا يُكافئ ترادُفَ آلائه، والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه.

 

عبادَ اللهِ: الشهورُ كلُها مواسمُ عبادةٍ، وإن تفاوتت واختلفت في الفضل والوظائف، والعمرُ كلُّه فرصةُ عملٍ وطاعةٍ، وكلُّ ميسَّر لِمَا خُلِقَ له، كلٌّ يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتِقُها أو مُوبِقُها.

 

معاشر المسلمين: أقرِضوا الله قرضًا حسنًا، وقدِّموا لأنفسكم نفعًا؛ (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)[الْمُزَّمِّلِ: 20]، (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[الْبَقَرَةِ: 245].

 

واعلموا أن الصوم جنة، وكل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لله يجزي به، فمن استطاع منكم أن يصوم ستًّا من شوال فإنهن من سنن الهدى، وفعل المصطفى، فعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ ‌أَتْبَعَهُ ‌سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ"(أخرجه مسلم)؛ فقد جعَل اللهُ الحسنةَ بعشرة أمثالها؛ فشهرٌ بعشرة أشهر، وستةُ أيام بعشرة أضعافها ستين يومًا؛ أي: شهرين، فتلك سنة كاملة؛ فلا يبخلنَّ أحدُكم على نفسه بستة أيام، لعله أن يُكتَب ممَّن صام الدهرَ، وتلك غنيمةٌ عظيمةٌ، تستوجِب الحرصَ والسعيَ والجِدَّ، ولا بأسَ بصيامها متتابعةً أو متفرقةً.

 

وبعدُ عبادَ اللهِ: فإن نعم الله علينا لا تحصى، وخيره لا يستقصى، لا يحصرها الحساب والعد، ونعمة واحدة منها لا يكافئها الرد؛ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إِبْرَاهِيمَ: 34]، فاشكروا الله على آلائه ونعمه، وابذلوها في طاعته وعبادته، فلو أن رجلًا يخر على وجهه من يوم وُلِدَ إلى يوم يموت، هَرِمًا في مرضاة الله، لَمَا كافأ نعمةً مِنْ نعم الله.(أخرجه أحمد).

 

عبادَ اللهِ: ولن يدخل أحد الجنة بمجرد عمله، ولكن بفضل الله ورحمته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَنْ ‌يُنْجِيَ ‌أَحَدًا ‌مِنْكُمْ ‌عَمَلُهُ، قَالَ رَجُلٌ: وَلَا إِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "وَلَا إِيَّايَ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ"(أخرجه مسلم).

 

فلا يغترن أحد بعمله، ولا يمتن بعبادته، ولا يستكثرن ما عنده، ولا يمل من طاعته، فإنه لا يدري عن قبوله، ولا يعلم عن مصيره، فاتقوا الله ما استطعتم، واستمسِكوا بدينكم، وعَضُّوا على سُنَّة نبيِّكم، وأصلِحوا ذاتَ بينِكم، وحافِظُوا على وحدتكم وبلدكم، وكونوا يدًا على عدُوِّكم، واسألوا اللهَ أن يُثبِّتَكم ويُوفِّقَكم.

 

اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا ربَّ العالمينَ، اللهم احفظ المسجد الأقصى، وأعده إلى حوزة المسلمين يا ربَّ العالمينَ، اللهم احفظه من كيد الكائدين، وأيدي الغاصبين يا قوي يا عزيز.

 

اللهم وفِّقْ وليَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأيِّدْه بتأييدكَ، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء.

 

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا يا ربَّ العالمينَ، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مُصرِّفَ القلوب صرِّفْ قلوبَنا على طاعتك.

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهم صلِّ على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

أثَر العبادة المقبولة في النفس والسلوك.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات