أثر الدعوة إلى الله في انتشار الإسلام

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات:

 

الشيخ: ابن باز

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﷺ وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإني أشكر للمسئولين في الرابطة ما تكرموا به من تقديم الدعوة إليَّ للمشاركة في موسم الرابطة الثقافي لهذا العام 1391هـ.

وأسأل الله عز وجل أن ينفع المسلمين بهذا الموسم، وأن يكلل جهود القائمين عليه بالنجاح، وأن يجزل لهم المثوبة، إنه خير مسئول.

وقد رأى المسئولون في الرابطة أن تكون المحاضرة في (أثر الدعوة في انتشار الإسلام) وقد أجبتهم إلى ذلك، ورأيت أن يكون العنوان ما سمعتم وهو فضل الدعوة، ومن هذا يعلم أن هذه المحاضرة ذات شقين: أحدهما: يتعلق بفضل الدعوة، والثاني: يتعلق بأثرها في انتشار الإسلام.

 

أما ما يتعلق بفضل الدعوة، فكل من له أدنى إلمام بالعلم، يعرف أن الدعوة شأنها عظيم، وهي مهمة الرسل-عليهم الصلاة والسلام، والرسل-عليهم الصلاة والسلام-هم الأئمة في هذا الشأن، وهم الأئمة في الدعوة، وهي وظيفتهم؛ لأن الله جل وعلا بعثهم دعاة للحق، وهداة للخلق-عليهم الصلاة والسلام، فكفى الدعوة شرفًا، وكفاها منزلة عظيمة أن تكون وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة.

 

قال الله تعالى في كتابه المبين: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجتنبوا الطاغوت [النحل:36] فبين سبحانه وتعالى أن الرسل جميعًا بعثوا بهذا الأمر العظيم الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت. والمعنى أنهم بعثوا لدعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، وتخصيصه بها، دون كل ما سواه، وتحرير الناس من عبادة الطاغوت، إلى عبادة الله وحده.

والطاغوت كل ما عبد من دون الله من شجر وحجر، أما ما عبد من دون الله من الأنبياء والصالحين والملائكة فليس المعبود منهم طاغوتًا، ولكن الطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى ذلك وزين ذلك، وإلا فالرسل والملائكة والصالحون يبرءون إلى الله عز وجل من عبادة من عبدهم. فالطاغوت كل ما عبد من دون الله من الجمادات، ومن العقلاء الذين يرضون بذلك كفرعون وأشباهه، أما من لا يرضى بذلك فالطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى عبادته وزينها.

 

وقال عز وجل: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] فبين سبحانه وتعالى أن الرسل بعثوا مبشرين ومنذرين، مبشرين من أطاعهم بالنصر والتأييد والجنة والكرامة، ومنذرين من عصاهم بالخيبة والندامة والنار. وفي بعثتهم إقامة الحجة، وقطع المعذرة، حتى لا يقول قائل ما جاءنا من بشير ولا نذير فالله سبحانه وتعالى بعث الرسل إقامة للحجة، وقطعًا للمعذرة، وهداية للخلق، وبيانًا للحق، وإرشادًا للعباد إلى أسباب النجاة، وتحذيرًا لهم من أسباب الهلاك-عليهم الصلاة والسلام، فهم خير الناس وأصلح الناس، وأنفع الناس للناس.

 

وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۝ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45، 46] فأخبر سبحانه أنه بعث هذا الرسول الكريم محمدًا -عليه الصلاة والسلام- شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله-فعلم بذلك أن وظيفة الدعوة إلى الله هي تبليغ الناس الحق، وإرشادهم إليه، وتحذيرهم مما يخالفه ويضاده. وهكذا أتباعهم إلى يوم القيامة، مهمتهم الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له، وتحذيرهم من أسباب الهلاك، كما قال عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] فأمر الله نبيه أن يبلغ الناس أن سبيله التي هو عليها الدعوة إلى الله عز وجل، وهكذا أتباعه هم على ذلك، والمعنى: قل يا محمد، أو قل يا أيها الرسول للناس: هذه سبيلي أنا ومن اتبعني؛ فعلم بذلك أن الرسل وأتباعهم هم أهل الدعوة، وهم أهل البصائر، فمن دعا على غير بصيرة فليس من أتباعهم، ومن أهمل الدعوة فليس من أتباعهم، وإنما أتباعهم على الحقيقة هم الدعاة إلى الله على بصيرة، يعني أتباعهم الكُمّل الصادقين الذين دعوا إلى الله على بصيرة، ولم يقصروا في ذلك، وعملوا بما يدعون إليه، وكل ما حصل من تقصير في الدعوة، أو في البصيرة كان نقصًا في الإتباع، ونقصًا في الإيمان وضعفًا فيه، فالواجب على الداعية إلى الله عزوجل، أن يكون ذا بصيرة، أي ذا علم، فالدعوة على جهل لا تجوز أبدًا؛ لأن الداعية إلى الله على جهل يضر ولا ينفع، ويخرب ولا يعمر، ويضل ولا يهدي.

 

فالواجب على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى التأسي بالرسل بالصبر والعلم والنشاط في الدعوة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] فالدعوة إلى الله عز وجل هي سبيل الرسل وطريقهم-عليهم الصلاة والسلام، وفي ذلك غاية الشرف والفضل للدعاة أتباع الرسل، المقتدين بهم، السائرين على منهاجهم-عليهم الصلاة والسلام، ومن شرط ذلك أن يكون الداعية على بصيرة وعلم وبينة بما يدعو إليه، ومما يحذر منه حتى لا يضر الناس، وحتى لا يدعو إلى ضلالة وهو لا يدري، أو يدعو إلى باطل وترك حق وهو لا يدري، حتى يكون على بينة ليعرف ما يدعو إليه، وما يدعو إلى تركه.

 

وقال عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] هذا الأمر العظيم وإن كان موجهًا إلى الرسول العظيمﷺ، فهو أمر للأمة جميعًا، وإن خوطب به النبي ﷺ فهو الأصل والأساس، وهو القدوة-عليه الصلاة والسلام، ولكنه مع ذلك موجه للأمة جميعًا؛ لأن القاعدة الشرعية أن أمته تابعة له في الأمر والنهي إلا ما دل الدليل على أنه خاص به-عليه الصلاة والسلام، فالدعوة إلى الله فرض كفاية على الجميع، وواجب على الجميع، قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] فعلى المسلمين أن يتأسوا بنبيهم -عليه الصلاة والسلام- في الدعوة إلى الله والتوجيه إليه، وإرشاد العباد إلى أسباب النجاة، وتحذيرهم من أسباب الهلاك، وفي هذه الآية العظيمة بيان كيفية الدعوة وأسلوبها ونظامها، وما ينبغي للداعي أن يكون عليه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] قال جماعة من علماء التفسير: معنى ذلك: بالآيات والأحاديث، يعني ادع إلى الله بآيات الله وبسنة رسول الله-عليه الصلاة والسلام؛ لما فيها من الحكمة، ولما فيها من الفقه والردع والبيان والإيضاح، والكلمة الحكيمة هي التي فيها الردع عن الباطل والتوجيه إلى الخير، وفيها الإقناع والتوجيه إلى ما فيه السعادة.

فالداعي إلى الله جل وعلا ينبغي له أن يتحرى في دعوته ما يقنع المدعو ويوضح الحق، ويردعه عما يضره بالأسلوب الحسن الطيب اللين الرقيق، ولهذا قال بعده: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة فليكن الداعي ذا حكمة وذا موعظة حسنة عند الحاجة إليها، فهو يوضح الحق ويبينه، ويرشد إليه بالآيات والأحاديث الواضحة البينة الصحيحة؛ حتى لا يبقي شبهة للمدعو.

 

ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها؛ حتى لا تبقى عنده شبهة؛ وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب؛ حتى ينتبه المدعو ويرق قلبه وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعدًا لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنُّع وبعض الإعراض فيحتاج إلى موعظة وإلى توجيه، وإلى ذكر آيات الزجر والترغيب وأحاديث الزجر والترغيب والترهيب حتى يلين قلبه، ويقبل الحق.

وقد يكون عنده شبه فيحتاج إلى جدال بالتي هي أحسن؛ حتى تزاح الشبهة ويتضح الحق، ولهذا قال جل وعلا: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

 

فإذا كان المدعو عنده بعض الشبه، فعليك أيها الداعي أن توضح الحق بدلائله، وأن تزيح الشبهة بالدلائل التي تزيحها، حتى يبقى معك المدعو على أمر بين واضح، وليكن هذا بالتي هي أحسن؛ لأن العنف والشدة قد يضيعان الفائدة، وقد يقسو قلب المدعو بسبب ذلك ويحصل له به الإعراض والتكبر عن القبول، فعليك بالرفق والجدال بالتي هي أحسن حتى يقبل منك الحق، وحتى لا تضيع الفرصة وتذهب الفائدة سدى بسبب العنف والشدة ما دام صاحبك يريد منك الحق، ولم يظلم ولم يتعد، أما عند الظلم والتعدي فله نهج آخر وسبيل آخر، كما قال جل وعلا: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] فإذا كان أهل الكتاب يجادلون بالتي هي أحسن، فالمسلمون من باب أولى أن يجادلوا بالتي هي أحسن، لكن من ظلم ينتقل معه إلى شيء آخر، فقد يستحق الظالم الزجر والتوبيخ، وقد يستحق التأديب والسجن، إلى غير ذلك على حسب ظلمه.

والآيات في فضل الدعوة والحث عليها كثيرة، ولكن من أهم ذلك وأوضحه ما بينا، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] ففي هذه الآية الكريمة بيان أنه لا أحسن قولًا ممن دعا إلى الله، وفي ذلك غاية الحث على الدعوة وغاية التحريض عليها، إذا كان لا أحسن قولا ممن دعا إلى الله، فحقيق بالمؤمن وحقيق بطالب العلم أن يبادر ويسارع إلى هذا المقام العظيم، مقام الرسل-عليهم الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله والإرشاد إلى دينه الحق، وهذه الطائفة رأسها وأئمتها الرسل-عليهم الصلاة والسلام، وهم أحسن الناس قولًا، وهم أئمة الهدى والدعوة، وهم أولى الناس بالدخول في هذه الآية الكريمة؛ لأنهم القدوة والأساس في الدعوة إلى الله عز وجل-عليهم الصلاة والسلام.

 

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضًا؛ ولهذا قال بعده: وَعَمِلَ صَالِحًا فالداعي إلى الله عز وجل يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولا من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال. فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم.

وهكذا كان الرسل-عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال والسيرة، وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولاسيما العامة وأرباب العلوم القاصرة، فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها؛ فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة وذا عمل صالح وذا خلق فاضل؛ حتى يقتدى بفعاله وأقواله وسيرته.

وَ

قَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] يعني الداعي يصرح بما هو عليه ويبين أنه على المنهج الأسمى، على الحق، يقول هذا معتزًا به فرحًا به مغتبطًا به لا مرائيًا ولا مفاخرًا، ولكنه مبين للحق يقول إني على صراط مستقيم، أنا من المسلمين، لست نصرانيًا ولا يهوديًا ولا وثنيًا، ولكنني مسلم حنيف أدعو إلى الله على بصيرة، أدعو إلى ديني، أدعو إلى الحق، ويقول هذا عن اغتباط وعن سرور وعن اعتراف صادق وعن إيمان بما يدعو إليه؛ حتى يعلم المدعوون أنه على بينة، وأنه على طريق واضح ومنهج صحيح وأنه إذا دعا إلى الإسلام فإنه يدعو إليه وهو من أهله، ليس يدعو إليه وهو من غير أهله، بل هو يدعو إليه وهو عليه آخذ به ملتزم به.

 

وكثير من الدعاة قد يدعون إلى شيء وهم على خلافه، لكن دعوا إليه إما لمال أخذوه، وإما رياء، وإما لأسباب أخرى، لكن الداعي الصادق إلى الله يدعوا إلى الإسلام لأنه دينه، ولأنه الحق الذي لا يجوز غيره، ولأنه سبيل النجاة وسبيل العزة والكرامة، ولأنه دين الله الذي لا يرضى سواه سبحانه وتعالى.

فهذه الآية العظيمة فيها الحث والتحريض على الدعوة إلى الله عز وجل، وبيان منزلة الدعاة، وأنهم أحسن الناس قولًا إذا صدقوا في قولهم وعملوا الصالحات، وهم أحسن الناس قولًا ولا أحد أحسن منهم قولًا أبدًا، وعلى رأسهم الرسل-عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم على بصيرة إلى يوم القيامة.

ومن الدعاة إلى الله الداخلين في هذه الآية المؤذنون، فإنهم دعاة إلى الله ينادون على رءوس الأشهاد بتكبير الله وتعظيمه، والشهادة له بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة-عليه الصلاة والسلام، فهم من الدعاة إلى الله، وهم داخلون في هذه الآية الكريمة.

 

ومما صح في السنة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في شأن الدعوة وفضلها قوله -عليه الصلاة والسلام- لما بعث عليًا -رضي الله عنه- إلى خيبر قال: ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم متفق عليه من حديث سهل بن سعد-رضي الله عنه. أقسم-عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق وإن لم يقسم: أن هداية رجل واحد على يد علي -رضي الله عنه- خير له من حمر النعم، فدل ذلك على أن الدعوة إلى الله شأنها عظيم وأنها منزلة عظمى.

 

وفي هذا بيان أن المقصود من الدعوة والجهاد ليس قتل الناس ولا أخذ أموالهم، ولكن المقصود هدايتهم وإنقاذهم مما هم فيه من الباطل، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من وهدة الضلالة وأوحال الرذيلة إلى عز الهدى وشرف التقوى؛ ولهذا قال-عليه الصلاة والسلام: والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم.

 

وفيه من الفوائد حث الغزاة وأئمة الغزو على التريث وعدم العجلة في القتال، وأن يجتهدوا في الدعوة وإرشاد المدعوين وتنبيههم على أسباب النجاة؛ لعلهم يرجعون ويجيبون الداعي، ولعلهم يتركون القتال ويدخلون في دين الله سبحانه وتعالى، فليس مقصود المسلمين ولا مقصود الإسلام والجهاد القتل وسبي النساء والذرية والأموال، وإنما المقصود من ذلك هداية الناس وإرشادهم إلى الحق الذي خلقوا له كما سبق، فإذا امتنعوا وأصروا ولم يقبلوا الحق بعد ذلك، فالجهاد يفر إليه عند الحاجة، أما إذا كفت الدعوة وقبلوا الحق فلا حاجة إلى الجهاد، وإنما يصار إليه عند امتناع المدعو وعدم قبوله الحق، فعند هذا شرع الله الجهاد بالسلاح لقمع المبطلين وإزاحتهم عن طريق الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وفتح الطريق أمام الدعوة إلى الله عز وجل حتى ينتشر الإسلام في أرض الله.

 

وفيه من الفوائد أيضًا الدلالة على أن هداية واحد خير من حمر النعم، يعني: أن الهداية لواحد من الكفار على يدك أيها الداعي أو أيها الأمير فيه خير عظيم وفضل كبير. قال بعض الأئمة: معنى ذلك: خير من الدنيا وما عليها؛ لأن الدنيا زائلة والآخرة باقية، فخيرها ولو كان قليلا خير من الدنيا وما عليها، ولهذا قالﷺ: موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها. وإنما ذكر ﷺ حمر النعم؛ لأن حمر النعم أنفس أموال العرب وأرفعها عندهم فمثل بها، وإلا فالمقصود أن هداية رجل واحد أو أكثر من ذلك خير من الدنيا وحطامها الزائل الفاني.

 

وقال-عليه الصلاة والسلام: من دل على خير فله مثل أجر فاعله أخرجه مسلم في الصحيح، وهو يدل على أن من دعا إلى الخير وأرشد إليه كان له مثل أجر فاعله، وهذه فضيلة عظيمة للدعوة، وشرف عظيم للدعاة أن الله سبحانه وتعالى يعطيهم مثل أجور من هداه الله على أيديهم. فيا له من خير ويا له من فضل ويا لها من منزلة.

 

فيا أخي ادع إلى ربك وإلى دينك وإلى اتباع نبيك -عليه الصلاة والسلام- يحصل لك مثل أجور من هداه الله على يديك، هذه مزية عظيمة وفضل كبير، وفي ذلك حث وتحريض للدعاة على الدعوة والصبر عليها إذا كنت تحصل بذلك على مثل أجور من هداه الله على يدك، فحقيق بك أن تشمر وأن تسارع إلى الدعوة وأن تصبر عليها، وفي هذا خير عظيم، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم أيضًا في الصحيح من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا وهذا أيضًا فضل عظيم: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه وهذا مثل ما تقدم في حديث: من دل على خير فله مثل أجرر فاعله. وهذه الأحاديث وما جاء في معناها فيها الحث والتحريض على الدعوة وبيان فضلها، وأنها في منزلة عظيمة من الإسلام، وأنها وظيفة الرسل-عليهم الصلاة والسلام.

 

وقد بعث الله تعالى الرسل جميعًا دعاة لله عز وجل ومبشرين بدينه ومنذرين من عصاه، فحقيق بك أيها المؤمن أن تسير على منهاجهم الصالح، وأن تستمر على طريقهم الواضح بالدعوة إلى الله والتبشير بدينه، والتحذير من خلافه، وإنما يتم هذا الفضل ويحصل هذا الخير ويتضاعف بالصبر والإخلاص والصدق، فمن ضعف صبره أو ضعف صدقه أو ضعف إخلاصه لا يستقيم مع هذا الأمر العظيم.

ولا يحصل به المطلوب كما ينبغي، فالمقام يحتاج إلى إخلاص، فالمرائي ينهار ولا يثبت عند الشدائد، ويحتاج إلى صبر فذو الملل وذو الكسل لا يحصل به المقصود على التمام، فالمقام يحتاج إلى إخلاص وإلى صدق وإلى صبر، كما قال سبحانه وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] وكما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وقال عز وجل: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46] فلا بد من الصدق كما قال عز وجل: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119] ولا بد من الصبر كما قال جل وعلا: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46] وكما قال سبحانه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. فالدعاة إلى الله عز وجل إذا صبروا وصدقوا وكانت دعوتهم على علم وعلى بصيرة، صاروا أئمة للناس يقتدى بهم في الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كما سبق في قوله تعالى وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]

فعليك يا عبدالله بالصبر على دعوتك وإيمانك وعملك الصالح، وعليك باليقين في أعمالك، كن على بصيرة، تعلم وتفقه وتثقف في الدين، وكن على بينة في أمورك حتى تكون دعوتك عن صبر وعن يقين، وبهذا تكون إمامًا يقتدى به، وتكون إمامًا وقدوة وأسوة صالحة في أعمالك الطيبة وسيرتك الحسنة، وبهذا ينتهي الكلام على فضل الدعوة وهو الشق الأول.

 

أما الشق الثاني: وهو أثرها في انتشار الإسلام. فنقول إن الله جل وعلا بعث الرسل كما سبق-عليهم الصلاة والسلام-دعاة للحق وهداة للخلق، ولم يبلغنا أن الرسل الأولين كانوا يجاهدون على دعوتهم، وإنما ذكر الله الجهاد بعد بعث موسى-عليه الصلاة والسلام.

ومن وقت آدم إلى نزول التوراة كان الرسل دعاة فقط، ليس هناك جهاد، فانتشر الإسلام بالدعوة والبيان والكتب المنزلة من السماء، فكان الرسل-عليهم الصلاة والسلام-يدعون إلى الله وينذرون الناس؛ فانتشر دينهم وإسلامهم بالدعوة من عهد آدم إلى أن بعث الله موسى-عليه الصلاة والسلام.

 

والإسلام هو دين الله، قال جل وعلا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:19] فهو دين الله لجميع المرسلين وجميع الأمم، كما قال سبحانه وتعالى عن نوح: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النحل:91] وهو أول الرسل، وقال عبدالله بن عباس-رضي الله تعالى عنهما: (كان بين آدم ونوح-عليهما الصلاة والسلام-عشرة قرون، كلهم على الإسلام، حتى وقع الشرك في قوم نوح، وقال جل وعلا في قصة إبراهيم وإسماعيل وهما يعمران الكعبة: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128] فطلبا أن يكونا مسلمين، وقال في قصة يوسف: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِيي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101] وقال في قصة موسى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْْ مُسْلِمِينَ [يونس:84] وقال عن بلقيس: وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:44].

 

فالدين عند الله هو الإسلام، ولكن الله بعث محمدًا -عليه الصلاة والسلام- بأكمله وأتمه، بعثه بالإسلام وبشريعة كاملة في الإسلام، فالذي بعث الله به محمدًا ﷺ هو أكمل الدين وأتمه، بعثه بالإسلام الذي هو دين الله، وبعثه بشريعة كاملة صالحة لجميع الزمان والمكان حتى تقوم الساعة، أما ما بعث الله به الأنبياء الماضين فهو دين الإسلام ولكن بشرائع خاصة لأقوامهم خاصة، شرائع خاصة لأقوامهم، كل رسول بعثه الله إلى قومه بشريعة خاصة والدين هو الإسلام، وهو توحيد الله كما قال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

 

فكل أمة بعث إليها رسول ليدعوهم إلى الإسلام، والاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فكل رسول بعثه الله بهذا الإسلام، وهو دين الله وتوحيده بإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وبعث معه شريعة خاصة تلائم زمانه وتناسب وقته وقومه، حتى ختم الله جل وعلا الشرائع والنبوات ببعث محمد-عليه الصلاة والسلام، وبشريعة كاملة ودين شامل ونظام عام لجميع الأمة في حاضرها وقت نزول القرآن، وفي مستقبلها إلى يوم القيامة. وجعله دينًا شاملًا لجميع الشئون؛ شئون الدين والدنيا، شئون العبادة وشئون المعاملة، وشئون الأحوال الشخصية وشئون الجنايات، وغير ذلك في جميع الأمور، جعله دينًا شاملًا منظمًا لجميع مصالح العباد، منظمًا لجميع ما يحتاجون إليه في شئونهم العاجلة والآجلة مفصلًا لكل ما يتطلبه العاقل وتقتضيه الحاجة.

 

وبهذا يعلم أن انتشار الإسلام في عهد آدم وما بعده، وعهد نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وهو إسرائيل ويوسف-عليهم الصلاة والسلام-جميعًا، والأنبياء بعدهم كان بالدعوة.

انتشر الإسلام بالدعوة وظهر بالدعوة، كان الرسل يدعون، وهكذا أنصارهم وأتباعهم يدعون إلى الله جل وعلا، فانتشر الإسلام في أممهم بالدعوة لا بالجهاد ولا بالسيف، فلم يذكر الله في كتابه العزيز عن أولئك أنهم جاهدوا بالسيف، وإنما دعوا إلى الله وأنذروا الناس وبشروهم؛ فقبل الدعوة من هداه الله، وأباها من سبقت له الشقاوة، نعوذ بالله من ذلك.

 

وكانت الأمم قبل موسى -عليه الصلاة والسلام- إذا عاندوا الرسول وأبوا إتباعه؛ جاءهم العذاب فأهلكوا عن آخرهم إلا من آمن بالله. فآدم -عليه الصلاة والسلام- ومن كان في زمانه من ذريته إلى عهد نوح كانوا على الإسلام والهدى، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون فيهم معصية، فقد عصى قابيل وقتل أخاه هابيل بغير حق، ولكنهما كانا على الإسلام.

 

ثم زين الشيطان لقوم نوح الغلو في الصالحين في قالب المحبة لهم، ودعاهم إلى تصوير صورهم ونصبها في مجالسهم، ثم بعد ذلك زين لمن بعدهم التعلق بها وعبادتها؛ حتى وقع الشرك في قوم نوح بسبب الغلو في الصالحين وتصوير الصور والابتداع في الدين؛ ولهذا حذر الرسول -عليه الصلاة والسلام- من الصور، وحذر من البدع؛ لأن البدع والصور من وسائل الشرك، نسأل الله العافية، ولما أخبرته أم حبيبة وأم سلمة بالكنيسة التي رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور، قال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» فأخبر عليه الصلاة والسلام أنهم شرار الخلق بسبب غلوهم في صالحيهم باتخاذ المساجد على قبورهم وتصوير الصور عليها، وهكذا وقع في قوم نوح، فالإسلام انتشر بالدعوة، فلما أبى قوم نوح إلا العناد والشرك ولم يستجيبوا لداعيهم نوح -عليه الصلاة والسلام- ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ أرسل الله عليهم الطوفان فأهلكهم عن آخرهم بالغرق، إلا من كان مع نوح في السفينة، نسأل الله العافية.

 

وقوم هود هلكوا بريح عقيم وقوم صالح بالرجفة والصيحة حتى هلكوا عن أخرهم، هكذا عاقب الله كثيرًا من الأمم بأنواع من العقوبات بسبب كفرهم وضلالهم وامتناعهم عن قبول الدعوة الإسلامية.

 

ثم شرع الجهاد في عهد موسى -عليه الصلاة والسلام- لنصر الحق وقمع الباطل، ثم شرع الله الجهاد على يد نبينا محمد ﷺ على الوجه الأكمل، ونبينا -عليه الصلاة والسلام- لما بعثه الله مكث في مكة بضعة عشر عامًا يدعو إلى الله عز وجل، ولم يكن هناك جهاد بالسيف، ولكنه الدعوة والتبشير بالإسلام، وقد أنكر قومه دعوته وآذوه وآذوا أصحابه، ولكنه صبر على ذلك-عليه الصلاة والسلام، وكان مستترا بها أولا، ثم أمره الله بالصدع فأظهر الدعوة وصبر على الأذى، وهكذا أصحابه، وكان من السابقين إلى ذلك أبو بكر الصديق-رضي الله عنه، سبق إلى الإسلام والدعوة، وخديجة-رضي الله عنها-وعلي -رضي الله عنه- وزيد بن حارثة، هؤلاء الأربعة هم السابقون إلى الإسلام والدعوة، ثم تابعهم الناس.

 

وكان الصديق -رضي الله عنه- شريفًا في قومه معظمًا مألوفًا ذا معروف وإحسان وذا تجارة ومال، وذا خلق كريم، فكان يدعو إلى الله سرًا ويبشر بالإسلام حتى أسلم على يديه جم غفير، منهم عثمان -رضي الله عنه- والزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله-رضي الله عن الجميع.

 

وأسلم جم غفير في مكة بالدعوة، لا بقهر ولا بجهاد، ولكن بالدعوة والتوجيه وقراءة القرآن وشرح محاسن الإسلام، وكان الرسول ﷺ يدعو ويقرأ عليهم القرآن، ويبين لهم ما أشكل عليهم، فيتقبلون الحق ويرضون به، ويدخلون في دين الله جل وعلا.

 

ثم انتشر الإسلام والدعوة إليه في القبائل والبادية والقرى المجاورة لمكة بسبب الدعوة، وبسبب ما يسمعونه من الصحابة الذين أسلموا وأجابوا النبي-عليه الصلاة والسلام، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج كل عام، يطلب منهم أن يجيبوه وأن يؤوه وأن ينصروه حتى يبلغ رسالة ربه-عليه الصلاة والسلام،-فلم يقدر الله سبحانه ذلك إلا للأنصار-رضي الله عنهم وأرضاهم، فأجابه الأنصار واجتمعوا به عند الجمرة في المرة الأولى، وكانوا ستة، دعاهم إلى الإسلام فأجابوا، وقبلوا الحق وصاروا رسلًا إلى قومهم، فذهبوا إلى المدينة ودعوا إلى الله عز وجل وبشروا بالإسلام، فأجاب إلى الإسلام منهم بشر كثير.

 

ثم قدم منهم في السنة الثانية اثنا عشر، منهم الستة الأقدمون، ومن جملتهم أسعد بن زرارة -رضي الله عنه- وجماعة كانوا من الخزرج سوى اثنين من الأوس، وقيل ثلاثة، فاجتمعوا به -عليه الصلاة والسلام- أيضًا في وسط أيام التشريق، وتلا عليهم القرآن، وبايعوه على الإسلام، ثم رجعوا إلى بلادهم فدعوا إلى الله عز وجل، وانتشر الإسلام في بيوت الأنصار إلا قليلا منهم، ودخل في دين الله جم غفير من الأنصار، ثم تعاقدوا على أن يطلبوا من النبي على أن يهاجر إليهم، وأن ينقذوه من حال المشركين وأذاهم.

 

وكان قد بعث إليهم -عليه الصلاة والسلام- مصعب بن عمير بعد البيعة الأولى، فكان يعلم ويرشد في المدينة، فكان يعلم الناس ويرشدهم، وأسلم على يديه جماعة كثيرة، وانتشر الإسلام بسبب ذلك، ومن جملة من أسلم على يديه سيد الأوس سعد بن معاذ، والسيد الثاني من الأوس أسيد بن الحضير، وبسبب إسلامهما انتشر الإسلام في الأوس، وبسبب إسلام أسعد بن زرارة هو وسعد بن عبادة وجماعة من الخزرج انتشر الإسلام في الخزرج وظهر دين الله هناك.

 

ثم قدموا في السنة الثالثة قدم منهم سبعون رجلًا من الأنصار، وقيل ثلاثة وسبعون، وبايعوا النبي ﷺ على الإسلام والنصرة والإيواء، وتم ذلك بحضرة عمه العباس-رضي الله عنه، ثم شرع المسلمون في الهجرة إلى المدينة بإذنه-عليه الصلاة والسلام، ثم هاجر -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة، وقام بالدعوة إلى الله هناك ونشر الإسلام، وهكذا المسلمون الذين أسلموا من الحاضرة والبادية نشروا الإسلام بالدعوة، ومن جملتهم أبو ذر الغفاري وعمرو بن عبسة السلمي وغيرهما.

 

ثم شرع الله الجهاد على أطوار ثلاثة: أولًا: أذن فيه، ثم أمروا أن يقاتلوا من قاتلهم ويكفوا عمن كف عنهم، ثم شرع الله الجهاد العام طلبًا ودفاعًا، وهذه الأطوار باقية على حسب ضعف المسلمين وقوتهم، فإذا قوي المسلمون وجب عليهم الجهاد طلبًا ودفاعًا، وإذا ضعفوا عن ذلك وجب عليهم الدفاع وسقط عنهم الطلب حتى يقدروا ويستطيعوا.

 

والمقصود من الجهاد كما تقدم هو نشر الإسلام، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإزاحة العقبات من طريق الدعوة، والقضاء على العناصر الفاسدة التي تمنع الدعوة وتحول بين الدعاة إلى الله وتبيين مقاصدهم الطيبة، ولهذا شرع الله الجهاد لإزاحة العراقيل عن طريق الدعوة، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من الباطل إلى الحق والهدى، وإخراجهم من ظلم الأديان وضيق الدنيا إلى سعة الإسلام وعدل الإسلام، ومضى على ذلك نبي الله -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان حتى ظهر دين الله وانتشر الحق بالدعوة الصحيحة الإسلامية، وبالجهاد الذي يناصرها ويؤيدها إذا وقف في طريقها أحد، حتى أزاحوا الروم عن الشام واستولوا على مملكة الفرس، وانتشر الإسلام في اليمن وغيره من أنحاء الجزيرة العربية بسبب الدعوة إلى الله والجهاد الصادق في سبيل الله، وأزيحت العقبات عن طريق الدعوة. وبهذا يعلم أن انتشار الإسلام بالدعوة كان هو الأساس وهو الأصل، وأما الجهاد بالسيف فكان منفذا للحق وقامعًا للفساد عند وجود المعارضين الواقفين في طريق الدعوة.

 

وبالجهاد والدعوة فتحت الفتوحات بسبب أن أكثر الخلق لا يقبل الدعوة بمجردها لمخالفتها لهواه، ولما في نفسه من حب للشهوات المحرمة، ورياسته الفاسدة الظالمة، فجاء الجهاد يقمع هؤلاء ويزيحهم عن مناصبهم التي كانوا فيها عقبة كأداء في طريق الدعوة، فالجهاد مناصر للدعوة ومحقق لمقاصدها ومعين للدعاة على أداء واجبهم.

 

والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على حالين: إحداهما: فرض عين، والثانية: فرض كفاية، فهي فرض عين عند عدم وجود من يقوم باللازم، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كنت في بلد أو قبيلة أو منطقة من المناطق ليس فيها من يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنت عندك علم، فإنه يجب عليك عينًا أن تقوم بالدعوة، وترشد الناس إلى حق الله، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر. أما إذا وجد من يقوم بالدعوة ويبلغ الناس ويرشدهم فإنها تكون في حق الباقين العارفين بالشرع سنة لا فرضًا، وهكذا الجهاد كله، فرض كفاية عند وجود من يكفي، فيسقط الجهاد والأمر والنهي والدعوة عن الباقين ويكون في حقهم سنة مؤكدة، وعند عدم وجود من يكفي يتعين الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

والدعوة إلى الله عليك حسب طاقتك وحسب إمكانك كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وقال جل وعلا: لا يُكَلِّفُُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا [البقرة:286] وقد قام الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالدعوة والجهاد بعد نبيهم -عليه الصلاة والسلام- قيامًا عظيمًا، فأبو موسى ومعاذ وعلي-رضي الله عنهم-بعثوا إلى اليمن في حياة النبي ﷺ فقاموا بالدعوة هناك، ثم رجع معاذ في عهد الصديق ورجع علي وأبو موسى في حجة الوداع، فقام خلفاؤهم بالدعوة هناك ونشر الإسلام.

وقام الصحابة الذين سافروا إلى العراق والشام بالدعوة إلى الله هناك ونشر الإسلام، ثم بعد وفاة النبي ﷺ قاموا بالدعوة والجهاد والتعليم والتفقيه في الشام والعراق واليمن ومصر وغير ذلك، وفي شرق وشمال أفريقيا، ثم لم تزل الدعوة تنتشر في أفريقيا كلها وفي الشرق والغرب كله، حتى ظهرت الدعوة وانتشرت في أقصى المغرب والمشرق.

 

وفي وقتنا هذا ضعف أمر الجهاد لما تغير المسلمون وتفرقوا وصارت القوة والسلاح بيد عدونا، وصار المسلمون الآن إلا من شاء الله لا يهتمون إلا بمناصبهم وشهواتهم العاجلة وحظهم العاجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

فلم يبق في هذه العصور إلا الدعوة إلى الله عز وجل والتوجيه إليه، وقد انتشر الإسلام بالدعوة في هذه العصور في أماكن كثيرة، في أفريقيا شرقها وغربها ووسطها، وفي أوربا، وفي أمريكا، وفي اليابان، وفي كوريا، وفي غير ذلك من أنحاء آسيا، وكل هذا بسبب الدعوة إلى الله، بعضها على أيدي التجار، وبعضها على أيدي من قام بالدعوة وسافر لأجلها وتخصص لها.

 

وبهذا يعلم طالب العلم ومن آتاه الله بصيرة أن الدعوة إلى الله عز وجل من أهم المهمات، وأن واجبها اليوم عظيم؛ لأن الجهاد اليوم مفقود في غالب المعمورة، والناس في أشد الحاجة إلى الدعاة والمرشدين على ضوء الكتاب والسنة، فالواجب على أهل العلم أينما كانوا أن يبلغوا دعوة الله، وأن يصبروا على ذلك، وأن تكون دعوتهم نابعة من كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة-عليه الصلاة والسلام، وعلى طريق الرسول وأصحابه ومنهج السلف الصالح-رضي الله عنهم، وأهم من ذلك الدعوة إلى توحيد الله وتخليص القلوب من الشرك والخرافات والبدع؛ لأن الناس ابتلوا بالبدع والخرافات إلا من رحم الله.

 

فيجب على الداعية أن يهتم بتنقية العقيدة وتخليصها مما شابها من خرافات وبدع وشركيات، كما يقوم بنشر الإسلام بجميع أحكامه وأخلاقه، والطريق إلى ذلك هو تفقيه الناس في القرآن والسنة، فالقرآن هو الأصل الأصيل في دعوة الناس إلى الخير، ثم السنة بعد ذلك تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وتوضح معناه وتبينه.

 

وخلق النبي ﷺ يجب أن يتأسى المسلمون به ويقتدوا به-عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] قالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن) فالداعية إلى الله ينبغي له أن يهتم بالقرآن الكريم، وأن يعنى به تلاوة وتدبرًا وقراءة على الناس وتوجيهًا لهم إليه؛ حتى يدرسوه ويتعلموه ويعملوا به، وهكذا السنة يعلمهم إياها ويبشرهم بها ويحثهم عليها ويوضح سيرة النبي ﷺ وسيرة أصحابه؛ حتى يسيروا على طريقهم الصالح وعلى نهجهم الطيب، وهذا هو الطريق والسبيل إلى نشر الإسلام وتخليص الناس من الشرك والخرافات والبدع، وهو دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، على ضوء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والطريقة السلفية التي سار عليها رسول الله-عليه الصلاة والسلام، وسار عليها أصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان.

وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعًا لما فيه رضاه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يمن علينا وعلى المسلمين جميعًا بسلوك طريق نبينا محمد ﷺ وطريق أصحابه، والثبات عليه، والدعوة إليه، والذب عنه، والتحذير من خلافه.

 

كما نسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن يمن عليهم بالتوفيق والهداية، وأن يجمعهم وشعوبهم على الحق والهدى، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يقيم بهم علم الجهاد لنصر دين الله، الجهاد الصالح الشرعي، حتى يكونوا دعاة إلى الله ومرشدين إليه سبحانه وتعالى، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.[1]

 

محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في موسم رابطة العالم الإسلامي الثقافي بمناسبة موسم حج عام 1391] وطبعتها الرابطة في كتابها السنوي باسم الندوة من ص88-101 وقد أجرى عليها سماحته إضافات وتعديلات] (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 3/ 104)

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات