أبو ذر -رضي الله عنه- إسلامه وحياته

سليمان بن حمد العودة

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/ قصة إسلام أبي ذر ومراغمته الكفار 2/ فضله ومنزلته 3/ صدقه وعلمه وزهده وأخلاقه الطيبة 4/ توفيق الله له في الدعوة 5/ دروس وعبر من سيرته العاطرة 6/ استغلال الأعداء لزهده وسيرته للترويج لمذاهب هدَّامة 7/ خبر وفاته

اقتباس

كفاكَ فخراً يا أبا ذرٍّ أن تكونَ سبباً في إسلامِ غفارٍ أولاً! ثم تكونُ سبباً في إسلامِ (أسلَم) ثانياً! ثمّ تظلُّ بعد ذلك صاحباً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُبادركَ إذا حضرتَ، ويسألُ عنك ويتفقّدُك إذا غبتَ!.

 

 

 

 

الحمدُ لله يهدي من يشاءُ، ويضلّ من يشاءُ، ومن يضلل اللهُ فما له من هادٍ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الدينُ واصباً، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، اجتباه ربُّه وهداهُ إلى صراطٍ مستقيمٍ، اللهمِّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن أصحابه أجمعين، والتابعينَ ومن تَبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.

عبادَ اللهِ: وصيةُ اللهِ لكم ولِمَن قبلَكُم ومَن بعدَكُم التقوى، فاتقوا اللهَ، ومن يتّقِ الله يجَعلْ له مخرجاً، ومن يتقِّ الله يكفِّرْ عنه سيئاته ويعظمْ لهُ أجراً.

أيّها المسلمون: يطيبُ الحديثُ عن صحابةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- عموماً، لأنه حديثٌ عن خيرِ القرونِ، وعن منِ اختارَهم اللهُ لخيرِ المسلمين، ويطيبُ أكثرُ حينَ يكونُ عن واحدٍ من السابقين، صَلّى سنتينِ قبلَ مبعثِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قيل له: فأين كنتَ توجّهُ؟ قال: حيثُ وجَّهني اللهُ!.

وجاءَ من بلادِ قومهِ يبحثُ عن الإسلامِ، ويرغبُ اللقاءَ بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، ومع تخفِّيه واحتياطِه بالسؤال، إلا أنه لم يَسلم من أذى قريشٍ وَصَلَفِها، إذ كانت تؤذي كلَّ من ينتسبُ إلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أو يتصل به، ولكن صاحِبَنا -صاحبَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم- كان رابطَ الجأشِ، قويَّ الإرادةِ، قادراً على التَّحدي والصُّمودِ في سبيلِ اعتِنَاقِ الدِّينِ الحقِّ.

ولقد راغمَ قريشاً بعد إسلامِه فأقسم ليصرَخنّ بالشهادتينِ بين ظَهرانَي قريش -في وقتٍ كانت قريشٌ تخنقُ الأنفاسَ- فخرج حتى أتى المسجدَ، فنادى بأعلى صوتِه: أشهدُ أنْ لا إله إلاّ اللهُ، وأنَّ محمداً رسولُ الله، فثارَ القومُ فضربوه حتى أضجعوه... حتى تدخَّل العباسُ -رضي الله عنه- وأكبَّ عليه فتركوه.

فمن يكون هذا الصحابيُّ المِقدامُ؟ والباحثُ عن الإسلامي رَغمَ المصاعِبِ والآلام؟ إنه أبو ذرٍّ الغِفاريُّ -رضي الله عنه-، "أولُ من حيّا رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بتحيةِ الإسلام" أخرجه مسلم.

نموذجٌ في الصدق: "ما أقلَّتِ الغبراءُ، ولا أظلَّت الخضراءُ، أصدقَ لهجةً من أبي ذر" رواه أحمد وأبو داود.

وفي العلم له قدمُ صِدْقٍ، حتى قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "ابو ذرٍّ وعاءٌ مُليءَ علماً ثم أُوكي عليه" أخرجه أبو داود بسند جيد.

لم يشهد أبو ذرٍّ بدراً، ولكنّ عمرَ ألحقه بهم، وكان -كما يقال- يوازي ابنَ مسعود في العلم.

أبو ذر -رضي الله عنه- تحمّل في سبيلِ الإسلامِ وأيامه الأُولى أذى قريش، لكنه دقَّ مسماراً في نَعْشِ دِيانتهم، وحطّمَ كبرياءَهم، وأسمعهم كلمةَ الحقِّ وهم كارهون.

ولئن آذوه -وهو يُعلنُ إسلامَه- فقد آذوه من قبلُ وهو في طريقِ البحثِ عن الإسلام، حين مالَ عليه أهلُ الوادي بكلِّ مَدَرَةٍ وعَظْمٍ حتى خَرّ مغشيّاً عليه، ثمّ ارتفعَ وكأنه نُصُبٌ أحمرُ. أخرجه مسلم، (يعني من كثرةِ الدماء).

وبالجملةِ: فقصةُ إسلامهِ وخبرُ مجيئِه إلى مكةَّ جاءت في (الصحيحين) مطوّلةً... ومن أحداثِها ودروسها –غيرَ ما سبق:

1- أنه مكثَ بمكة قبلَ لقُياهُ بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثلاثين ما بين يومٍ وليلة... وما كان له طعامٌ إلا ماءَ زمزم، ومع ذلك سَمِن منها، وما وجدَ على بطنه سَخفَةَ جوعٍ -كما يقول-، وحينها قالَ له -عليه الصلاة والسلام-: "إنها مباركةٌ، إنها طعامُ طُعْمٍ"، أي: يَشبعُ الإنسانُ إذا شربَ ماءها كما يشبعُ من الطعام. رواه مسلم.

فرقٌ بين من يُهاجرُ باحثاً عن الإسلام دون زادٍ ومأوى ومتعرّضاً للشدائدِ واللأواء فيصبرُ ويبلغُ مقصَدَه، وبينَ من يولدُ وينشأ في الإسلامِ ثمّ لا تراه يصبرُ على بعضِ تكاليفِ الإسلامِ!.

كان -رضي الله عنه- رأساً في الزهدِ والصدقِ والعلمِ والعملِ، قَوّالاً بالحقّ، لا تأخذه في اللهِ لومةُ لائمٍ، على حِدّةٍ فيه، كما قال الذهبي -رحمه الله-.

2- وأبو ذرٍّ -رضي الله عنه- لم يكن نموذجاً في الإسلام والثباتِ على الحقِّ في الظروفِ الصعبةِ فحسب، بل كان نموذجاً في الدعوة إلى الله، وفي روايةِ (الصحيح): إن أبا ذرٍّ حين أسلمَ انطلقَ إلى أخيه (أُنيس) فقال له: ما صنعت؟ قال أبو ذرٍّ: صنعتُ أني أسلمتُ وصَدَّقتُ، قال (أخوه): ما بي رغبةٌ عن دينِكَ، فإني قد أسلمتُ وصدَّقتُ، قال: ثم أتينا (أُمّنا) فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكُما، فإني قد أسلمتُ وصدَّقتُ.

قال: فاحتملنا -يعني متاعنا وأنفسَنا على إبلِنَا وسِرْنا- حتى أتينا قومَنا (غِفاراً) فأسلمَ نصفُهم... وقال نصفُهم: إذا قدِمَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ أسلَمنا، وصدَقوا، فلما قدمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ أسلمَ نصفُهم الباقي.

أرأيتم آثارَ الصِّدقِ، ونتائجَ الدعوةِ من المخلصين؟ وإلا؛ فأيُّ شيءٍ كانَ يملكُ أبو ذرٍّ من العلمِ ووسائل الدعوة، وهو يُعَدّ حديثَ عهدٍ بالإسلام؟ لكن وَضعَ وصيةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- نُصْبَ عينيهِ حين قال له: "هل أنت مُبلِّغٌ عنِّي قومَكَ؟ عسى اللهُ أن ينفعَهُم بكَ ويأجُركَ فيهم؟" رواه مسلم.

وكذلك يتداعى الخيرُ ويشيعُ الإسلامُ، وينتشرُ من خلالِ حركةِ المؤمنين ودعوةِ الصادقينَ، فلم يكن الأمرُ قَصْراً على غِفارٍ، بل أسلمَ بإسلامِهم (أَسْلَمُ) حين جاؤوا إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، إخوَانُنا -يعني غِفاراً- نُسلمُ على الذي أسلموا عليه، فأسلموا، فقالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "غفارٌ غفرَ اللهُ لها، وأسْلَمُ سالمَها الله" أخرجه مسلم.

أين الذينَ يحملونَ الإسلامَ كما حملَه أبو ذرٍّ؟ وفي الأرضِ اليومَ أممٌ وشعوبٌ وقبائلُ وأفرادٌ تحتاجُ إلى الإسلامِ، كما احتاجَ إليه من قبلَهُم، وأين أثرُ الدُّعاةِ مع قبائِلِهم كما صنعَ أبو ذرٍّ مع قبيلتِه؟ وهل يا تُرى تتحققُ للدُّعاةِ نتائجُ كما تحققتْ لأبي ذرٍّ؟.

كفاكَ فخراً يا أبا ذرٍّ أن تكونَ سبباً في إسلامِ غفارٍ أولاً! ثم تكونُ سبباً في إسلامِ (أسلَم) ثانياً! ثمّ تظلُّ بعد ذلك صاحباً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُبادركَ إذا حضرتَ، ويسألُ عنك ويتفقّدُك إذا غبتَ!.

3- والمتأملُ في قصةِ إسلامِ أبي ذرّ وشخصيته عموماً، يدركُ أثرَ الإسلامِ في تغييرِ العادات والطبائعِ إلى الأحسنِ، أجل! إنّ غفارَ -التي ينتسبُ لها أبو ذرٍّ- كانت من الشِّدةِ والبأس والقسوةِ ما جعلَها في طليعةِ القبائل القائمة على الغارة والنهبِ والسَّلْبِ، ولقد عَبّر عنهم الأقرعُ بين حابسٍ حين قال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: إنما بايعَكَ سُرّاقُ الحَجيجِ مِن أسلمَ وغفار، فردَّ عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ردّاً أسكتَهُ.

وأبو ذرّ نفسُه يقول: حين سألني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أنْتَ؟"، قلتُ: من غفار، قال: فأهوى بيدِهِ فوضَعَ أصابِعَهُ على جبهتِه، فقلتُ في نفسي: كرِهَ أَنِ انتميتُ إلى غِفار! رواه مسلم.

بل لقد جاء في ترجمةِ أبي ذرّ نفسِه أنه كان يُغيرُ على الصِّرم في عِمايةِ الصُّبح على ظهرِ فرسِه وقدميه كأنه السَّبُعُ، فيطرقُ الحيّ ويأخذُ ما أخذ. رواه ابن سعد.

حتى إذا قذفَ اللهُ الإسلامَ في قلب أبي ذرٍّ وقومِه تغيرتِ الحالُ، وصنعَ الإسلامُ من أبي ذرٍّ نموذجاً للزُّهدِ والعفافِ، يتورعُ عن جمعِ المالِ وكنزِه -وإن كان حلالاً-، وأنّى له أن يفكِّرَ في أخذِ الحرامِ أو الاعتداءِ على حقوقِ الآخرين؟.

لقد ودّعَ أبو ذرٍّ الدنيا وهو لا يملكُ من متاعِها إلا القليلَ ولم يُخلف بعد موتِه أموالاً ولا ضِياعاً، ولربما أعياه توفيرُ الكفنِ الذي يُكفنُ به ؛ كما سيأتي البيان.

وكذلك يسمو الإسلامُ بالنفوسِ ويرفعها عن حُطامِ الدُّنيا، فإذا الآخرةُ محطُّ أنظارِها، وإذا الجِنانُ والأنهارُ محلُّ تفكيرِها، وفرقٌ بين من تكون الدُّنيا هدَفَهُ وغايةَ طموحِه، ومن تكون الآخرةُ همَّه ومجالَ تفكيرِه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:18-19].

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، ولا عدوانِ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ خاتمُ النبيين، وسيدُ ولدِ آدمَ أجمعينَ، صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانِه من النبيينَ.

أيُّها المسلمون: وانقلبَ زهدُ أبي ذرٍّ في عقلياتِ الجهَلةِ والموتورينَ إلى انحرافٍ يُبرّأُ عن ساحَتهِ صاحبُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد ظلموا أبا ذرّ حين زعموا أنه رائدُ الاشتراكيةِ الوضعية! وما كانَ زُهدُ أبي ذرٍّ؛ بل ولا كانت حياةُ أبي ذرٍّ، إلا استجابةً لوصايا رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو القائل: "أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بسبعٍ: أمرني بحبِّ المساكينِ والدُّنوِّ منهم، وأمرَني أن أنظرَ إلى ما هو دوني، وألاّ أسأل أحداً شيئاً، وأن أصِلَ الرحمَ وإن أدبرتْ، وأن أقولَ الحقَّ وإن كان مُرّاً، وألاّ أخافَ في اللهِ لومةَ لائمٍ، وأنْ أُكثرَ من قولِ لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فإنهنّ من كنزٍ تحتَ العرش" أحمد وابن سعد بسند حسن.

وأينَ هذه الوصايا النبويةِ من مبادئِ الاشتراكية العَفنةِ؟ وظلَمَ المُغرضونَ ومن في قلوبهم مرضٌ عثمانَ وأبا ذرٍّ -رضي الله عنهما- حين زعموا أن عثمانَ نفاهُ إلى الرّبذةِ! وقد دلّتِ الرواياتُ الصحيحةُ وتكاثرتْ على أن أبا ذرٍّ اختارَ بنفسِه سُكْنى الربذةِ في آخر حياته، وأنه استأذنَ عثمانَ فأذِنَ له، بل وأمرَ له بنعَمٍ من نَعَمِ الصدقةِ -تغدو عليه وتَروحُ- فاعتذر عنها قائلاً: يكفي أبا ذرٍّ صُريمتَه. يعني: إبلَه وغنَمه. أحمد بإسناد صحيح، وابن سعد.

كما تزِّيدَ المناوئونَ لمعاويةَ -رضي الله عنه- والذين يحاولونَ الاصطيادَ في الماءِ العكرِ حين اتهموا معاويةَ بالإساءةِ إلى أبي ذرٍّ، وعدمِ منحِه حقَّه، وطرْدِه من الشام، ولفّقوا في ذلكَ مروياتٍ تلقَّفوها من أفواهِ أهلِ الأهواءِ والرَّيبِ.

والذينَ عجزوا عن التصريح باتهام عثمانَ جعلوا معاويةَ هدفاً لسهامِهم، فَمعاويةُ -كما قال السلفُ- أشبَهُ- بالبوابةِ لصحابةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن هزَّ البابَ أوشكَ أن يدخل الدارَ...

وحين يحرصُ السلفُ ومن تبعَهُم بإحسانٍ من الخَلَف على حفظِ أعراضِ صحابةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدَّعونَ العصمةَ لهم، ولا ينزهونهم عن الخطأ، لكنهم يرونهم مجتهدينَ فيما صاروا إليه، فمن أصابَ فله أجران، ومن أخطأ فله أجرُ المجتهدِ المخطيءِ.

عبادَ الله: وبشكلٍ عام فَحُبُّ الصحابةِ من الإيمان، وبُغضُهم -أو أحدٍ منهم- من علاماتِ النفاق، وهي سمةٌ من سيما أهلِ الأهواءِ في كلِّ زمانٍ ومكان.

أيها المسلمون: ودعونا نعودُ إلى حياةِ أبي ذرٍّ، ونعيشُ معه أيامَه الأخيرةَ، وكيفَ رحلَ من الدنيا في مشهدٍ يُحرِّكُ القلوبَ، وتدمعُ له العيونُ.

فقد أخرجَ أبو حاتم ابن حبانَ في (صحيحه) بسنده -حسَّنهُ بعضُهم- عن أمِّ ذرٍّ -رضي الله عنها- قالت:" لما حضرتْ أبا ذرٍّ الوفاةُ بكيتُ، فقال أبو ذرٍّ ما يُبكيك؟ فقلتُ: ما لي لا أبكي وأنتَ تموتُ في فَلاةٍ من الأرضِ، وليس عندي ثوبٌ يَسعُكَ كفناً، ولا يَدَانِ لي في تَغييبكَ، قال: أبشري ولا تبكي، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ لنفرٍ أنا فيهم: "ليَموتَنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرض يَشهدُهُ عصابةُ من المسلمينوليسَ أحدٌ من أولئكَ النفرِ إلا وقد ماتَ في قريةٍ وجماعةٍ، فأنا ذلك الرجلُ، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصري الطريقَ.

فقلتُ: أَنّى وقد ذَهبَ الحاجُّ وتقطَّعتِ الطرقُ، فقال: اذهبي فتبصَّري، قالت: فكنتُ أُسندُ إلى الكَثيبِ أتبصّرُ، ثم أرجعُ فأمَرضهُ، فبينما أنا وهو كذلك، إذ أنا برجالٍ على رحالِهم، كأنهم الرّخَمُ، تَخُبُّ بهم رواحلُهم، قالت: فأشرتُ إليهم فأسرعوا إليّ حتى وقفوا عليَّ، فقالوا: يا أمة الله ما لكِ؟ قلتُ: امرؤٌ من المسلمين تُكفِّنونه، قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذرٍّ، قالوا: صاحبُ رَسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلتُ: نعم، فَفدَوه بآبائِهم وأمهاتِهم وأسرعوا عليه حتى دخلوا عليه.

فقال لهم: أبشروا، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفرٍ أنا فيهم: "لَيَموتنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرضِ يشهدُه عصابةٌ من المؤمنينَوليس من أولئك النفرِ رجلٌ إلا وقد هلكَ في جماعةٍ، واللهِ ما كَذَبتُ ولا كُذبتُ، إنه لو كان عندي ثوبٌ يَسعُني كفنٌ لي أو لامرأتي لم أكفّن إلا في ثوبٍ هو لي أو لها، فإني أُنشدكم اللهَ، ألا يكفنني رجلٌ منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً.


وليس من أولئك النفرِ أحدٌ إلا وقد قارفَ بعضَ ما قال إلا فتىً من الأنصار، قال: أنا يا عمُّ أُكفنكَ في ردائي هذا، وفي ثوبين من عَيبتي من غَزْلِ أُمي، قال: فكفِّني، فكفّنه الأنصاريُّ، وقاموا عليه وكفَّنوهُ في نَفَرٍ كلُّهم يَمانٍ
" ابن حبان في صحيحه.

تلكم إطلالةٌ يسيرةٌ على حياةِ واحدٍ من صحابةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتى غِفار، والفارِس المِغوار، والمتألِّه قبلَ الإسلام، والعابدُ الزاهدُ في الإسلام، حتى لقد رُوي: "مَنْ سَرَّهُ أن ينظرَ إلى زُهدِ عيسى فلينظرْ إلى أبي ذرٍّ" ابن سعد بسند منقطع.

رضيَ اللهُ عنك يا أبا ذرِّ وأرضاكَ وسائرَ أصحابِكَ صحابةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اللهم إنّا نُشهدكَ على محبَّتهم فاحشُرنا معهم.

 

 

 

 

 

 

المرفقات

ذر -رضي الله عنه- إسلامه وحياته

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات