عناصر الخطبة
1/نشأة أبي حنيفة وحبه للعلم 2/علمه وفقهه وجلوسه للتدريس والإفتاء 3/خلقه وتقواه 4/محنته وسجنه 5/وفاتهاقتباس
كان أبو حنيفة مشهوراً بالعفو عمن ظلمه والصفح عمن أساء إليه، وتعرض لكثير من الانتقادات بسبب توسُّعه في العمل بالقياس والرأي، ومع ذلك كان كافاً لسانه عن النيل من معارضيه، معرضاً عن زلات الآخرين...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل من بينهم في كل زمان أناسًا هداهم -سبحانه- إلى صراطه المستقيم، ومنحهم العقل الراجح، والعزم الصادق، والنظر الثاقب، والعلم النافع، والشجاعة في تبليغ ما أمرهم بإخلاص، مع قوة ورع وعفاف، وغيرة على الدين، وثبات على المبادئ.
أيها المسلمون: ومن هؤلاء العلماء الربانيين إمام مدرسة الرأي، وفقيه العراق، الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت -رحمه الله- قيل عنه: "من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عالة على أبي حنيفة"، وقال عنه وكيع بن الجراح: "كان عظيم الأمانة، وكان يؤثر رضى الله تعالى على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملهم".
عباد الله: ولد الإمام أبي حنيفة سنه 80ه، في خلافة عبد الملك بن مروان الأمويّ بالكوفة، ونشأ على حب العلم ومجالسة أهله؛ حتى لقَّبوه بأبي حنيفة؛ لملازمته الدواة المسماة حنيفة بلغة العراق، وقد لازم حلقة حماد بن أبي سليمان ثماني عشرة سنة، وكان أخص تلاميذه، وجلس لغيره من علماء التابعين مثل: عطاء بن أبي رباح فقيه مكة، وعامر الشعبيّ عالم العراق، وعبد الرحمن بن هرمز عالم المدينة، ونافع مولى ابن عمر، وعلقمة، والزهريُّ إمام الحديث، ومحمد بن المنكدر، وغيرهم.
معاشر المؤمنين: لم يجلس أبو حنيفة رحمه الله للعلم والتدريس والإفتاء؛ حتى فاق أهل زمانه جميعاً، وصار علماً مقدماً في الفقه، وقد أرسى دعائم مدرسة الرأي في الفقه، وصار أستاذ القياس الأول بلا منازع، يقول في ذلك بعض معاصريه: "كان طويل الصمت كثير التفكر، دقيق النظر في الفقه، لطيف الاستخراج في العلم والبحث، لا يطلب المال على تعليمه، وإن كان الطالب فقيرا أغناه وأجرى عليه وعلى عياله حتى يتعلم، فإذا تعلم قال له أبو حنيفة: "قد وصلت إلى الغنى الأكبر، معرفة الحلال والحرام، وكان كثير العقل قليل المجادلة".
أيها المؤمنون: ولقد برع أبو حنيفة في الفقه براعة لا يدانيه فيها إلا القليل من علماء الأمة، وقد شهد له أقرانه من علماء عصره بالرِّيادة والإمامة في الفقه، قال يحيى بن سعيد القطان: "ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة"، وقال عليُّ بن عاصم: "لو وُزن علم أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم"، وقال حفص بن غياث: "كلام أبي حنيفة في الفقه أدقُّ من الشَّعر، ولا يعيبه إلا جاهل"، وقال ابن المبارك: "أبو حنيفة أفقه الناس"، وقال الشافعيُّ: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة".
ولما مات شيخه حماد بن أبي سليمان الكوفي سنة120ه جلس أبو حنيفة مكانه بجامع الكوفة، وكان وقتها في الأربعين من عمره، حيث استوى عقله ونضج علمه.
عباد الله: كان ما سبق من القول حديثاً عن علمه وفقهه، أمّا شأنه في الدنيا فقد كان تاجراً يعمل في بيع الخزِّ، واشتهر بأمانته في التجارة، جاءته امرأة بثوب تعرضه عليه، فقال: بكم تبيعينه؟ قالت: بمئة درهم، فقال: هو خير من ذلك، قالت: بمائتين، قال: هو خير من ذلك، قالت: بثلاثمائة، قال: هو خير من ذلك، قالت: بأربعمائة، قال: هو خير من ذلك، وأنا آخذه بأربعمائة، حتى أربح به.
وكان لأبي حنيفة شريك، فباع شريكه متاعًا، وكان في هذا المتاع عيبٌ، فتصدَّق بثمن المتاع كله؛ مخافة الحرام.
معاشر المسلمين: استمعوا معي إلى ما قاله فيه تلميذه النّجيب أبو يوسف، ذكر الذهبي بسنده إلى مجالد قال: "كنت عند الرشيد إذ دخل عليه أبو يوسف -أحد تلاميذ أبي حنيفة- فقال له هارون: صف لي أخلاق أبي حنيفة، فقال أبو يوسف: كان والله شديد الذب عن حرمات الله، مجانبًا لأهل الدنيا، لم يكن مهذاراً ولا ثرثاراً، إن سئل عن مسألة كان عنده بها علم أجاب، وما علمته يا أمير المؤمنين إلا صائناً لنفسه ودينه، مشتغلاً بنفسه عن الناس، ولا يذكر أحداً إلا بخير، فقال هارون الرشيد: هذه أخلاق الصالحين".
عباد الله: لقد كان أبو حنيفة -رحمه الله- يختم القرآن في كل ثلاثة أيام ولياليها، وكان يتصدق كل يوم بصدقة، يقول ابن معروف أحد معاصريه: "كنت بطانة أبي حنيفة في السفر والحضر، وأشهده في الليالي في منزله، وكان قلّ ما يستتر عليّ أمرٌ من أموره، فما رأيت أحداً أكثر اجتهاداً منه؛ صائمًا بالنهار، قائمًا بالليل، تالياً لكتاب الله، خاشعاً، دائباً في طاعة الله، محتسباً في التعليم".
وكان إذا دخل مكة لا يُرى إلا في صلاة أو طواف، وقد أحصوا له خمسًا وخمسين حجة. يقول عبد الله بن المبارك: "قلت لسفيان الثوري: ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما سمعته يغتاب عدوَّا"، قال سفيان: "واللهِ هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها".
وكان أبو حنيفة مشهوراً بالعفو عمن ظلمه والصفح عمن أساء إليه، وتعرض لكثير من الانتقادات بسبب توسُّعه في العمل بالقياس والرأي، ومع ذلك كان كافاً لسانه عن النيل من معارضيه، معرضاً عن زلات الآخرين، لا يجاري أحداً فيما لا ينفع ولا يغني.
أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: لقد عاصر الإمام أبو حنيفة عهدين مختلفين ومتتابعين: فقد وُلد، وتعلّم وصار عالما في العهد الأموي، وطلب منه تولي القضاء فرفض، فحُبس وعُذب ثم نُفي من العراق، واختار جوار البيت الحرام سنة 130هـ.
أما العهد الثاني: فهو عهد الدولة العباسية وقد استبشر به خيرا، غير أن استبشاره لم يدم طويلا، فقد عاصر ثورة محمد النّفس الزكية، وأخيه ابراهيم بالعراق، فصدرت منه في درسه عبارات مثبطة لقادة جيش المنصور، وأُحصيت عليه، ولما انتهت المعركة حاسبه المنصور على فتاواه فجهر بالحق ولم يخف، ثم لمّا أراد المنصور قتال أهل الموصل بعد أن اشترط عليهم أن يستحل دماءهم إنهم ثاروا عليه بعد ثورتهم الأولى، وقف أبو حنيفة بشجاعة مبطلا هذا الشرط المخالف للكتاب والسنة، فغضب منه المنصور غضبا شديدا، فعرض عليه منصب القضاء فرفض، ثم عرض عليه مراجعة أحكام القضاة فرفض، ودار بينهما هذا الحوار الرهيب.
قال المنصور: أترغب عما نحن فيه؟ فقال أبو حنيفة: لا أصلح، فقال المنصور وقد احتدَّ: كذبتَ. فقال أبو حنيفة: قد حكم أمير المؤمنين عليَّ أني لا أصلح، فإن كنت كاذباً فلا أصلح، وإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح".
معاشر المسلمين: هل تدرون كيف كانت النهاية؟ لقد حبسه المنصور وعذّبه، وكان يضرب كل يوم عشرة أسواط، ولما خيف عليه الموت من العذاب داخل السجن أُخرج، ومنع من الإفتاء، ومات بعد ذلك بقليل، وأوصى ألا يدفن في أرض غصبها الأمير أو اتهم بغصبها، ورحل شهيدا؛ فقد قال كلمة الحق عند الجور، قال الذهبي: "توفي شهيداً في سنة خمسين ومئة، وله سبعون سنة"، وقد قال عليه الصّلاة والسّلام: "خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة الحق عند سلطان جائر فقتله".
وتولى الحسين بن عمارة تغسيله وتكفينه، فلما فرغ وقف على رأسه وقال: "رحمك الله وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك بالليل منذ أربعين سنة، وقد أتعبت من بعدك وفضحت القراء"، ثم شيعَّ جنازته جمع غفير، وصُلّي عليه ست مرات، ومكث الناس يصلون على قبره عشرين يوماً.
لَعَمْركَ ما الرزِيَّةُ فَقْدُ مالٍ *** ولا شاةٌ تموتُ ولا بعيرُ.
ولكنّ الرَزِية فَقْدُ حرٍّ *** يموت بموته خلقٌ كثيرُ.
أيها المسلمون: بمثل أبي حنيفة يقتدي النّاس، فقد عاش عالما زاهدا، ومات على الحق صابرا، ولقي الله ولم يبدل تبديلا، خلف وراءه تراثًا علميّاً ضخما، ومذهبا فقهيا عظيما، وتلاميذ نجباء، كأمثال القاضي أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم -رحمهم الله تعالى-، فرحمه الله ورضي عنه، وجزاه الله خير ما جزى عالما على تعليمه وجهاده ودعوته.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم