عناصر الخطبة
1/تميز أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في اقترانهما في الأحاديث النبوية 2/تشبيه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- بالسمع والبصر والحكمة في ذلك 3/يوم في حياة أبي بكر -رضي الله عنه- 4/اختلاف أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- 5/مميزات أبي بكر -رضي الله عنه- عن بقية الصحابة 6/تنافس أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في فعل الخيراقتباس
أمّا الصدّيق، فهو الذي كمّل مقام الصديقية لكمال بصيرته، حتى كأنه قد باشر بصره مما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما باشر قلبه، فلم يبق بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى ما أخبر به من الغيب من وراء ستوره، وهذا لكمال البصيرة، وهذا أفضل مواهب العبد، وأعظم كراماته، التي يكرم بها، وليس بعد درجة النبوة إلا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
كان هناك حديث مستقل عن أبي بكر، ثم كان بعده حديث مستقل عن عمر، وهذا حديث خاص عن أبي بكر وعمر.
إن لهذين الإمامين مزّية خاصة عن بقية الصحابة، حتى الصحابة أنفسهم كانوا يدركون ذلك، قال علي -رضي الله عنه-: "كثيراً ما كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر".
وقال في غير ما حديث: "إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر".
فعلاً المتأمل في حياة العمرين يرى العجب، فهذه بعض تأملات:
أولاً: في مبحث للإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه: "بدائع الفوائد (1/72)" عن أقوال العلماء في أفضلية السمع والبصر، قال في آخر المبحث: "قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية -قدس الله روحه ونوّر ضريحه-: وفصل الخطاب أن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص به"[انتهى كلام شيخ الإسلام].
ثم قال ابن القيم: "وهذا هو الشاهد، وقد ورد في الحديث المشهور أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: "هذان السمع والبصر".
ثم بدأ يذكر احتمالات أوجه كونهما السمع والبصر، فقال:
أحدهما: أن يكون المراد أنهما مني بمنزلة السمع والبصر.
الثاني: أن يريد أنهما من دين الإسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان، فيكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة القلب والروح، وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين.
وعلى هذا فيحتمل وجهين:
أحدهما: التوزيع، فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر.
والثاني: الشركة، فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاستين ثابتاً لكل واحد منهما، فكل منهما بمنزلة السمع والبصر.
ثم رجح ابن القيم، وقال: "والتحقيق أن صفة البصر للصديق، وصفة السمع للفاروق".
ثم شرح رحمه الله -تعالى- لماذا كان الصديق، هو البصر والفاروق هو السمع، فقال: "ويظهر لك هذا من كون عمر محدّثاً، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد كان في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في هذه الأمة أحد فعمر".
والتحديث المذكور، هو ما يلقى في القلب من الصواب والحق، وهذا طريقه السمع الباطن، وهو بمنزلة التحديث والإخبار في الأذن.
وأمّا الصدّيق، فهو الذي كمّل مقام الصديقية لكمال بصيرته، حتى كأنه قد باشر بصره مما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما باشر قلبه، فلم يبق بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى ما أخبر به من الغيب من وراء ستوره، وهذا لكمال البصيرة، وهذا أفضل مواهب العبد، وأعظم كراماته، التي يكرم بها، وليس بعد درجة النبوة إلا هي، ولهذا جعلها سبحانه بعدها، فقال: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69].
وهذا هو الذي سبق به الصديق.
ثانياً: إن هذين الشيخين كانا يسيران على الأرض، وهما من أهل الجنة، وقد بشرا بذلك في غير ما حديث، فكانا يعلمان أنهما من أهل الجنة، لكن هل اتكلا على ذلك؟
الجواب: لا، كانا يقدمان من الأعمال ما يعجز عنه كبار الصحابة غيرهما، وهما يعلمان أنهما من أهل الجنة.
اسمع ما يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب "الفوائد" ص (37): "وكذلك كل من بشّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، أو أخبره بأنه مغفور له، لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشد اجتهاداً وحذراً وخوفاً بعد البشارة منهم قبلها، كالعشرة المشهود لهم بالجنة، وقد كان الصدّيق – والكلام لا يزال لابن القيم– شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر، فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيدة بانتفاء موانعها، ولم يفهم أحد منهم من ذلك الإطلاق، الإذن فيما شاؤوا من الأعمال"[انتهى كلامه -رحمه الله-].
أفلا يحسن أن نتفكر نحن في حالنا، نسير في هذه الحياة وكأن الواحد منّا قد ضمن الجنة -والله المستعان- ما هي أعمالك التي قدمتها؟ ما هي وجوه البر التي تطرقها يومياً؟ هل لك أن أحدثك عن يوم واحد في حياة الصدّيق؟
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَة؟ً" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ".
فهذا يوم واحد في حياة الصدّيق، أصبح صائماً، وتبع جنازة مسلم، حتى دفنت وأطعم أحد فقراء المسلمين، وزار أخاً له كان مريضاً.
كل هذه الأعمال يعملها في يوم واحد وغيرها، وهو ضامن للجنة.
فهل من وقفة محاسبة مع النفس؟ وهل من تأمل في الحال، وندم وحسرة على ضياع الأعمار، ومحاولة الاستدراك، وأخذ قبس من حياة أحد العمرين؟
ثالثاً: إن الفاضل قد يقع منه خلاف الأولى.
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ-رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ" فَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: "يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا" ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ، أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: لَا، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ" وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟ مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
الشاهد: أن الصدّيق وهو الأفضل بلا خلاف لكن وقع منه شيء: "إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت".
ومثله ما حصل بين أبو بكر وربيعة بن جعفر.
أخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه أرضاً، وأعطى أبا بكر أرضاً، قال: فاختلفا في عذق نخلة، فقلت أنا: -أي ربيعة- هي في حدّي، وقال أبو بكر: هي في حدّي، فكان بيننا كلام، فقال أبو بكر كلمة ثم ندم، فقال: رد عليّ مثلها حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: مالك والصدّيق – فذكر القصة – فقال: "أجل فلا ترد عليه، ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر" فقلت: فولى أبو بكر وهو يبكي"[الفتح (7/26)].
لا نقاش أن أبا بكر هو الأفضل والأكمل، لكن لا ننسى أنه بشر، فببشريته يقع منه أحياناً خلاف الأولى الذي ينبغي أن لا يقع من مثله، لكن في جميع المواقف تجد أن الصدّيق كان رجّاعاً إلى الحق، بل وبسرعة، لماذا؟
لأنه كان هو الأكمل ديناً، فصاحب الدين هو الذي يسرع في الرجوع إلى الأولى.
فهاهنا أهمس في أذنك بإشارتين:
الأولى: قد يقع ممن تتعامل معهم، وترى أنهم قدوات لك.
أقول: قد يقع منهم خلاف الأولى في بعض المواقف، فلا ينقص ذلك من قيمتهم، ولا تنظر إليهم نظرة دنوّ، فإنهم بشر وما حصل منهم إنما هو بسبب بشريتهم.
الثانية: قد تقع أنت في خلاف الأولى، ويحصل منك مواقف لا ينبغي لمثلك أن يقع فيها، فلا سبيل إلى رجوعك للحق بسرعة إلا أن تكون صاحب دين متين.
فاحرص على تقوية دينك، فكلما كان الشخص أقوى ديناً كان أسرع رجوعاً.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر حديث ربيعة:
وفي الحديث من الفوائد:
- فضل أبي بكر على جميع الصحابة.
- وأن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه.
- وفيه ما طبع عليه الانسان من البشرية حتى يحمله الغضب على ارتكاب خلاف الأولى، لكن الفاضل في الدين يسرع الرجوع إلى الأولى؛ كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ)[الأعراف: 201].
- وفيه أن غير النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو بلغ من الفضل الغاية ليس بمعصوم.
وذكر فوائد أخرى جميلة يمكن لمن أرادها أن يرجع إليها في الفتح.
رابعاً: ما فاق أبو بكر الناس بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
هذه العبارة ذكرها غير واحد، لكن المصيبة أنه قد تعلّق بها من ضعفت هممهم عن العمل والبذل، ومن خارت قواهم أمام التحديات التي تواجههم، ويأسوا من انجاز ما حمّلوا به من تكاليف، فقالوا: بأن الصدّيق لم يفق الناس بكثرة صلاة ولا صيام ولا عبادة ولا عمل، ولكن بشيء وقر في قلبه، فالمهم ما في القلب من قوة إيمان وإخلاص.
وهذه شبهة يوافق على آخرها، وهو: أن المهم ما يكون في القلب من إيمان وإخلاص، لكن يرد على أولها أن العبرة ليس بكثر الأعمال؛ لأن عند أهل السنة أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد بكثرة الطاعات وأعمال الخير والبر، وكلما زاد الإيمان زاد العمل والبذل.
والشاهد هو أعمال أبي بكر، انظر في أعمال الصدّيق، وانظر في أعمال غيره من الصحابة.
وقد مر معنا حديث مسلم من تصدق على فقير؟ من تبع جنازة؟ من؟ من؟
وهذه كلها أعمال، وكان الصدّيق في مقدمة الصحابة، مع أننا لا نخالف أن الأعمال، وإن كانت كثيرة ولم يكن معها إخلاص، فإنها لا تنفع صاحبها.
فالمطلوب الأمران: صحة العمل مع تجريد القلب لله، ولا ننسى أن الغرض من هذه الوقفة تعرية قول من ضعفت وخارت قواهم أمام المسؤوليات، والتعلق بكلام حق لكن أرادوا بها باطلا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والتوفيق له على شكره ...
أما بعد:
الوقفة الخامسة في سيرة الشيخين: وهو حول ما اشتهر أنه كان بينهما من التنافس في الخير، وأن كل واحد منهما كان حريصاً على أن يسبق الآخر في أعمال الخير والبر.
وهذا الكلام يوافق عليه، وأيضاً لا يوافق عليه، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في تجلية هذه القضية بكلام لا مزيد عليه في "المجلد العاشر، من مجموع الفتاوى" في فصل تكلم فيه عن الحسد كمرض من أمراض القلوب، ثم تكلم بعد ذلك عن الغبطة المباحة، وعن التنافس المشروع في أعمال الخير، ملخص كلامه: أن التنافس كان من جهة واحدة، وهو من جهة عمر -رضي الله عنه- فقط، وهذا هو الجانب الذي يوافق عليه، والذي لا يوافق عليه أن التنافس كان من الطرفين، فالصديق -رضي الله عنه- لم يكن أصلاً يفكر في أن ينافس عمر، وإنما كان يسبقه دائماً بطبيعة حاله وسجيته، فلم يكن يتكلف المواقف، وإنما هذه هي أعماله، وهذا هو حاله، ولذا كان هو الأكمل، وإن كان فعل عمر مشروعاً لكن حال الصديق أكمل وأولى.
قال شيخ الإسلام (10/116): "هذا وعمر بن الخطاب نافس أبا بكر -رضي الله عنه- الإنفاق؛ كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً؟ قال: فجئت بنصف مالي، قال: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟" قلت مثله، وأتى أبو بكر -رضي الله عنه- بكل ما عنده، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟" قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر: لا أسابقك إلى شيء أبداً".
قال شيخ الإسلام معلقاً على هذا الحديث: "فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق -رضي الله عنه- أفضل منه، وهو أنه خال من المنافسة مطلقاً لا ينظر إلى حال غيره".
ثم ضرب شيخ الإسلام مثالاً جميلاً على صحة ما ذهب إليه، فقال: "وكذلك موسى -صلى الله عليه وسلم- في حديث المعراج، حصل له منافسة وغبطة للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بكى لما تجاوزه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: "ما يبكيك؟ فقال: أبكي؛ لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي".
قال شيخ الإسلام: "وعمر -رضي الله عنه- كان مشبهاً بموسى، ونبينا حاله أفضل من حال موسى، فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك".
ثم أتى شيخ الإسلام بمثال آخر، فقال: "وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه كانوا سالمين من جميع هذه الأمور، فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة، وإن كان ذلك مباحاً، ولهذا استحق أبو عبيدة -رضي الله عنه- أن يكون أمين هذه الأمة، فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته، ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان، ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لا يزاحم على الكبرى، ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه، وإذا اؤتمن من في نفسه خيانة شبّه بالذئب المؤتمن على الغنم، فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه"[انتهى كلامه النفيس -رحمه الله-].
هل عرفت -يا أخي- لماذا كان الصديق أكمل؟
لأنه لم يكن يلتفت إلى الخلق أبداً، بل كان يعمل لله، وهذا هو التوحيد الذي صعب على كثير من الخلق الوصول إليه.
اسمع لهذا الحديث الذي راوه الإمام أحمد في مسنده في نفس ما نحن بصدد الحديث عنه، عن قَيْسِ بْنِ مَرْوَانَ: أَنَّهُ أَتَى عُمَرَ -رضي الله عنه- فَقَالَ: جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِيَ الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ، حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَيِ الرَّحْلِ، فَقَالَ: وَمَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَمَا زَالَ يُطْفَأُ وَيُسَرَّى عَنْهُ الْغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ؛ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَزَالُ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَأَنَا مَعَهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ".
قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لَهُ: "سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ".
قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: "قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ، قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ، فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ، فَبَشَّرَهُ، وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ".
واضح حرص عمر -رضي الله عنه- على سبق الصديق، لكن أبو بكر لم تكن المسألة في حسابه أصلاً، فإنه لا يلتفت إلى عمر، ولا إلى غيره.
وبمناسبة هذا الحديث الجميل لعلي أهمس في أذنك هنا: حرص أولئك القوم على إدخال السرور إلى قلوب إخوانهم، ولو بالبشارة الطيبة، فبمجرد ما سمع أبو بكر وعمر تأمين الرسول -صلى الله عليه وسلم- على دعاء ابن مسعود، ومعلوم أن الرسول مستجاب الدعوة، صار كل واحد منهم يرقب الصبح ليسرع إلى بشارة أخيه، فما إن انطلق عمر ووصل إلى بيت ابن مسعود، حتى وجد الصديق قد خرج، فعلم أن البشارة قد وصلت.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولمَّ بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.
اللهم ...
أيها الأحبة في الله: وما يزال الجمع مستمراً لصالح المسجد، وسيقف بعض إخوانكم بالأبواب للجمع من بقية الأعمال التي لم تنتهِ بعد في مسجدكم هذا.
أسأل الله -جل وتعالى- أن لا يحرمكم الأجر، وأن يجعل كل ريالٍ تنفقونه في صحائف أعمالكم، وأن تروا صدقاتكم تتقدمكم يوم القيامة الجنة، إنه سميع مجيب.
اللهم صل على محمد ...
ربنا آتنا في ...
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم